مسيحيو المشرق إلى أين؟

مسيحيو المشرق إلى أين؟

مسيحيو المشرق إلى أين؟


04/07/2023

ملكون ملكون

ليلة التاسع والعشرين من ايار–مايو 1453 دخل العثمانيون القسطنطينية. شكّل هذا الحدث علامة فارقة في التاريخ السياسي والديني والإجتماعي في منطقة حوض البحر المتوسط والشرق الأدنى، وأثّر كثيراً في تشكيل العلاقة بين الإسلام والمسيحية في فترة أواخر العصور الوسطى وبدايات التاريخ الحديث. وتسبب هذا الحدث في تحسين الصورة العثمانية في البلدان الإسلامية.

من هنا، يمكن القول إن الاستيلاء العثماني على القسطنطينية مَثّل حجر الزاوية في مشروع التوسع العثماني، بعدما منح سلاطين بني عثمان الشرعية اللازمة للحكم ولمتابعة فتوحاتهم شرقاً وغرباً، الأمر الذي ظهرت آثاره بعد سنوات، عندما أسقط العثمانيون الدولة المملوكية، واستولوا على ممتلكاتها الواسعة في مصر والشام وشبه الجزيرة العربية، وأعلنوا عن تأسيس الخلافة العثمانية. تسبب سقوط القسطنطينية في تدهور مكانة المسيحية الأرثوذكسية بشكل كبير. تراجعت المكانة الدينية لبطريركية القسطنطينية، وصار البطريرك يُعيَّن من قِبل السلطان العثماني نفسه. أدى ذلك إلى حدوث تحول مهم في مسار المسيحية المشرقية.

هنا نتوقف أمام مرحلتين من الحكم العثماني:

المرحلة الأولى: في الأعوام 1890-1909 حيث قام الجيش العثماني مع الميليشيات المرتزقة بتنفيذ مجازر مرعبة ضد الشعوب المسيحية وممارسة التطهير العرقي والنهب والسلب للأموال والممتلكات والحقول والمواشي وغيرها.

المرحلة الثانية: وامتدت للأعوام 1915-1970 وهي المجازر والاضطهادات الأكثر فظاعةً في تاريخ الإنسانية حيث ابتدأت بـ "الإبادة" عام 1915 وامتدت باضطهادات وضغوط متعددة من قبل الحكومات التركية المتعاقبة حتى عام 1970 حيث أدت إلى تهجير ما تبقى من الشعب إلى الدول الأوروبية.

استقلال وعسكر

منذ أن نالت الدول العربية استقلالها وبدأ عصر تكوين "الدولة الوطنية" عُقِدت الآمال العريضة على حكم وطني يعيد رسم ملامح بلاد أنهكتها عقود طويلة من الاحتلال والانتداب، لكن ما كان خفياً في تشكيل هذه الجمهوريات أنها قامت على ثنائية الديكتاتور-المتطرف وحاصرت هذه الثنائية القاتلة الشعوب التي باتت تمضي أيامها وأعوامها العجاف محاصرة بديكتاتور أو بديله المتطرف وأصبح الاثنان بعبعاً يلوح به الآخر في وجه الجماهير (الغفورة).

وتربع ذوو الرتب العسكرية من البكباشي إلى المشير مروراً بالعقيد واللواء والفريق على السلطة واحتلوا واجهة المشرق بقبضة حديدية وخطاب تغييري جمهوري الإدعاء، أسّسوا جيوشاً جرارّة استنزفت الموارد، وسيجوّا أنظمتهم بأجهزة المخابرات وخسروا كل حرب خاضوها بلا حسيب، إنما في ظل انتصاراتهم الوهمية المعلنة وتدابيرهم الإصلاحية تكبّدت بلدانهم خسائر مادية وبشرية لا يُستهان بها اسفرت عن هروب فئات واسعة باتجاه دول مهجر استوعبتهم واحتضنتهم وكسبتهم وخسرتهم بلادهم. وكانت أعداد المسيحيين منها عالية نسبياً. أقباط أضحوا من تابعية أنكلو-ساكسونية، وآشوريون اتخذوا من شيكاغو عاصمة، وسوريون كُثر نقلوا متاعهم من وادي النصارى والشهباء والشام إلى مدن العلم والرزق والديمقراطية، وسواهم من فلسطينيين مقدسيين وحيفاويين وجليليين حطُّوا الرحال في الاميركيتين واستراليا.

مَنْ كان ليعتقد أن السويد ستصبح أرض ميعاد السريان، ومَنْ كان ليصدق أن كاليفورنيا ستعجّ بالأرمن اللبنانيين والسوريين، هل وجد مسيحيو سوريا في أميركا ملامح أفاميا وأفسس؟ ومتى غدت سيدني وملبورن جارتين لوادي قنّوبين في نظر الموارنة؟

المتحدرون من أصول مشرقية ما عادوا على صورة الأجداد بل أن عامل الإندماج كان الأقوى وأضحى انتماؤهم الاول وربما الوحيد لوطن جديد اختاره من سبقهم.

وما كان خفياً انكشف مع الزمن فظهر واضحاً أن الديكتاتور والمتطرف يلتقيان في نقطة ما ويتفقان على الشعوب، ويستخدم كل منهما الآخر لتخويف الجماهير وتثبيت وجوده وسلطته وسطوته، وأصبحت الجيوش الوطنية أسيرة لمخاوف الديكتاتور على كرسيه واستمرار بقاءه على رأس سلطة أشاحت وجهها عن الديمقراطية والحرية والوطنية وحرية التعبير، ووجدت الجيوش نفسها في لحظات فارقة من تاريخ البلاد بمواجهة الشعب، وبندقيتها موجهة لصدر المواطن تاركة الحدود في الكثير من البلاد مفتوحة على طولها أمام من يدخل ويخرّب لان المؤسسة العسكرية تغرس في الجندي عقيدة الدفاع عن رأس النظام وليس عن الوطن.

ومن هذه الثقوب السوداء في رداء بلاد مكلومة تسرب المتطرفون ليطرحوا أنفسهم كبديل للديكتاتور واصبحت المجتمعات منقسمة ومتشظية ما بين مُرٍّ وأمَرّْ.

الوجود المسيحي

الكنائس الشرقية لها هويات تاريخية وحضارية ولاهوتية وسياسية، وبالتالي تعريفها بصفتها عربية هو تعريف مخالف لحقيقتها التاريخية والوجودية، فالعروبة أيديولوجية سياسية وثقافية معاصرة تستعيد في فرضياتها المرحلة الإسلامية كمرجعية معرفية لقراءة تاريخ المنطقة وتطور مستقبلها.

والمقاربة الاختزالية لتاريخ المنطقة وما تمليه من قطيعة بين المرحلة الإسلامية والمرحلة السابقة للإسلام، وهذا ما عبر عنه الاسلام منذ بداياته عبر توصيفها بالعهود الجاهلية هو مخالف للحقيقة التاريخية وقد أدى لنتائج كارثية لأن الفتوحات الاسلامية قضت على كل الإرث الحضاري والثقافي السابق ووضعته خارج دائرة التاريخ، لذا لا يمكن الحديث عن أوضاع الكنائس الشرقية بمعزل عن مصادرها الحضارية والثقافية وإعادة التواصل معها على أساس الاعتراف بأن أسلمة المنطقة قد تمت على أسس إلغائية للكيانات الحضارية والكنسية السابقة وما التعددية الدينية التي دفع بها الإسلام إلا بعملية حجر ضمن سواتر ايديولوجية وجغرافية حددتها مفاهيم أهل الكتاب والذمية ودار العهد. وما نشأ عنها بالتالي من رؤى وممارسات تمييزية على المستويات الدينية والسياسية وعلى مستوى تقسيم العمل الاجتماعي والاقتصادي.

لقد أُعيد طرح مسألة الوجود المسيحي في هذه المنطقة من العالم من خلال مطالب التغيير والاصلاح التي هبت على المنطقة بعد أن كان وجودهم يشبه أكباش محرقة أو موضعاً لنزاعات بديلة بين سياسات نفوذ داخلية أو إقليمية ما يعني أن الوجود المسيحي بات مسألة سياسية وبالتالي لابد من النظر اليها من خلال الحالة الديمقراطية والتي تحتم الاعتراف بالوجود المسيحي من خلال حقوق الانسان، إضافة لذلك فإن مسألة الوجود المسيحي في النطاق العربي ليست باستثنائية فهي جزء من صورة واسعة تطال مقاربة مسائل التعددية الدينية والثقافية والاثنية واللغوية والحضارية

لكن الأخطر هنا هو سقوط مفكرة التغيير الديمقراطي، فكلما اثيرت مسألة الوجود المسيحي في المنطقة العربية قوبلت إما بالتنكر لوجودها على أساس أن الحل قائم عبر سماحة الاسلام والسياسات الاسلامية المتنوعة عبر التاريخ، وبالتالي فلا حاجة لتسوية خاصة بالمسيحيين لكن الأسوأ في المشهد أن الديكتاتوريات القائمة وجدت في الوجود المسيحي أداة هامة لاستمرارها ولسياساتها لتعزيز نفوذها وتحفيز التطرف الإسلامي والبحث عن طوق نجاتها من خلال حمايتها للاقليات.

في مصر الثورة تمت بمشاركة الاقباط ولكن عندما انتقلت لمراحل التفتيش عن البدائل المؤسسية والدستورية أُسقِطت المشاركة القبطية وكأنه لا اعتبارات مواطنية ولا مسألة قبطية ولا تمييز تجاههم ولا إقصاء لهم عن حقوقهم الأساسية.

في العراق المسيحيون أقلية لا حقوق مبدئية لها، والتهجير الذي يصيبهم لا يندرج ضمن باب استهداف حقوق المواطنة لعراقيين، بل ضمن التعرض لمجموعة بشرية مجردة من الصفات المعنوية والحقوقية الضامنة كما لو أن ثمة تعارضاً بين مواطنيتهم العراقية وانتمائهم المسيحي. والمقلق في الأمر هو إما التسليم بواقع التهجير أو السعي وراء حمايات تؤكدها مراكز النفوذ الكردية او الشيعية.

في سوريا منذ البداية لجأت الدولة لتصوير نفسها كحامية لحقوق المسيحيين لكن هذه الفكرة هي ممارسة بعثية بحتة عبر تأكيد أن مسألة الاقليات الدينية قد وجدت لها حلاً عبر نهج البعث السياسي، وبالتالي عمد الحزب إلى اعتماد استراتيجيات خرق منهجية للكنائس ومؤسساتها وتوظيفها في خدمة سياسات نفوذه، إن منطق الحماية منافٍ لأبسط مرتكزات الأنظمة الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان فكانت حماية المسيحيين سياسة تضليلية بامتياز.

هجرة وشتات

إن الرؤية الواقعية لمستقبل الكنائس الشرقية والحضور المسيحي في المشرق ارتبطت منذ زمن بعيد بحركة الهجرة باتجاه دول الغرب (اميركا، كندا، استراليا، نيوزيلندا، اوروبا، واميركا اللاتينية). لكن ما نشهده اليوم هو حركة هجرة جماعية وسريعة الوتيرة تحفزّها الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها مجتمعات المشرق.

هذه الهجرة المنهجية أدت إلى إفراغ سريع وفي وقت قياسي ينحو باتجاه الانطفاء التدريجي لبعض كنائس المنطقة كما يحدث في العراق أو لحالة نزف ثابتة كما هو الحال في سوريا ولبنان ومصر، وهذا يعني أن الهجرة ومسألة الشتات قد أصبحت جزءً من الوضعية الوجودية للكنائس الشرقية وهذا ما سعت إلى التعاطي معه عبر عدة مراحل فرضتها الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والنفسية والسياسية لجماعات بشرية تحمل ذاكرة الخوف من جيل لجيل ومن خلال هذا الخوف كانت تطور استراتيجياتها للبقاء

مستقبل كنائس الشتات

السؤال المطروح يتعلق بمستقبل كنائس الشتات، ونستعمل هنا مصطلح الشتات لان الهجرة غير مؤقتة والأجيال التي ولدت في المهجر لم يعد يربطها ببلدان المنشأ سوى بعض الإعتبارات العاطفية والروابط العائلية والهوية الكنسية، ويرتبط مستقبل الكنائس المهاجرة بقدرتها على خلق أساليب جديدة لتنخرط في حياة مجتمعاتها وتكون قريبة من الأجيال المولودة في المهجر والتفاعل مع حياة هذه البلدان الكنسّية والسياسية والاجتماعية، وإلا فإن الإبقاء على ذواتها منعزلة ضمن ذاكرتها الميتة وتراثها المبتور سوف يؤدي إلى زوالها أو تقلصها.

ان غياب الرؤى اللاهوتية والخدمية والاجتماعية الخلاقة سوف يجعل من هذه الكنائس متاحف باهتة لذاكرة ميتة أو مقطعة الاوصال، لذا فإن الإصلاح مطلوب للخروج من واقع تهميشي مدمر سابق والعبور لتاريخ جديد يقتضي قطيعة معرفية وسلوكية مع أثقال الماضي التاريخي، وبالتالي فعلى القيادات الكنسية أن تنجح في مسعاها الأساسي الذي يقضي بإقناع الأجيال الجديدة بأن انخراطها التراثي هو جزء من هويتها وتاريخها ومشروعها الوجودي، هذا يعني فعلياً أن الكنائس مدعوة إلى إنهاء مرحلة كنائس الهجرة والشتات والتصرف ككنائس شرقية التقليد في مجتمعاتها الجديدة، كما عليها أن تعي أن التقاليد الكنسية بمعنى الكلمة اللاهوتي ما هي إلا تعبيرات تاريخية عن عمل الروح القدس والفعل التاريخي في هذه الكنائس، وأن ما هي مدعوة إليه اليوم هو تعبيرات لاهوتية جديدة في عالم جديد في أفقه وإشكالياته وإمكانياته وتحدياته.

الخلاصة

في العقد الاخير تَولّدَّ نتيجة هذه الفوضى في المنطقة سياسات دموية وخروج الظلامية الاسلاموية الى الضوء وتفجر حدود الدم التي تدعو لتفتيت الكيانات السياسية هذه التي لم تنجز خلال ثمانية عقود مضت تماسكاً مدنياً أو وطنياً ولو بحده الأدنى، إضافة للتفكك البنيوي المديد الذي أصاب البنيات الإجتماعية والاقتصادية والتربوية وتردداتها على المستوى السياسي

نحن أمام مفترق طرق بعد تفجر كل القضايا سوية إما الذهاب لمشروع انقلابي على مساوئ التاريخ وما نتج عنه من انغلاق، او الخروج عن هذا التاريخ الى تاريخ اخر ننهي معه كل ما ربطنا بمحددات الزمن الآسر.

يجب استعادة مفهوم الحرية لنبقى شهادة على التعدد الإنساني فالوطن لا قيمة له إذا لم يكن إطاراً لكرامة الإنسان.

عن "ميدل إيست أونلاين"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية