مسلسل "لعبة الحبّار": العالم المصغر لكوريا الجنوبية!

مسلسل "لعبة الحبّار": العالم المصغر لكوريا الجنوبية!


20/10/2021

محمد أحمد يوسف

في يناير عام 2009، وبعد الأزمة المالية العالمية، تقدمت شركة السيارات الكورية «سانج يونج موتور» بطلب للحماية من الإفلاس في كوريا الجنوبية، بعد تأثرها بالركود العالمي لمبيعات السيارات. اندلعت مظاهرات للعاملين بالشركة للمطالبة بحقوقهم، بعد أن قررت الشركة التخلص من 2600 عامل، بما يعادل 36% من قوتها العاملة، واحتاج الأمر لتدخل الشرطة العنيف حينها. المثير هنا أن كلمة «سانج يونج – SsangYong» تُترجم حرفيًا إلى «التنين المزدوج – Double Dragon». ما المثير في ذلك تحديدًا؟

حسنًا، دعنا أولًا نطرح سؤالًا آخر: هل شاهدت المسلسل الكوري الجديد «لعبة الحبّار – Squid Game»؟ يتكرر هذا السؤال كثيرًا منذ انطلاق المسلسل على شبكة «نتفليكس» في سبتمبر الماضي، وفي ظرف أقل من شهر يتجه المسلسل إلى أعلى نسبة مشاهدة في تاريخ الشبكة الأمريكية، ويحتل حاليًا المرتبة الأولى بأكثر من 90 دولة حول العالم!

ربما كانت القصة الدرامية المثيرة في المسلسل أحد أسباب نجاحه، لكن هناك ما هو أعمق من مجرد قصة درامية، وقد ننظر إلى المسلسل أنه نسخة مصغرة من كوريا الجنوبية وظروفها الاجتماعية وتاريخها المعقد!

في بداية المسلسل، نتعرف إلى البطل «سيونج جي هون»، الذي يعاني من إدمان القمار وأزمة دين طاحنة ويعيش مع والدته المسنّة، ولكنه فقد عمله سابقًا في شركة سيارات تُدعى «التنين موتورز – Dragon Motors»، وخسر صديقه المقرب في مظاهراتهم ضد الشركة، في إسقاط واضح على أزمة شركة «سانج يونج – SsangYong» على أرض الواقع، وفقدان آلاف الوظائف عام 2009.

وفي أحداث المسلسل، يشارك «سيونج جي هون» بجانب 455 شخصًا آخرين، أثقلتهم الديون، في مجموعة من ألعاب الأطفال الدموية على جزيرة نائية؛ الخسارة تعني فقدان حياتهم، والمكسب يعني فوزهم بـ46.5 مليار ون كوري، أي ما يعادل 39 مليون دولار أمريكي!

تظهر الحلقات الأولى من المسلسل الظروف التي أدت بالشخصيات الرئيسية إلى المخاطرة بحياتهم من أجل تلك الأموال، نرى سلسلة من القصص المختلفة جدًا، ولكن العامل الوحيد المشترك بينها جميعًا أنهم غارقون في الديون والبؤس. الأحداث العنيفة والدموية وقصص الشخصيات المؤثرة قد تُسهل إغفال الموضوع الرئيسي الذي يناقشه المسلسل: النمو المتفجر للديون والظلم الاقتصادي في كوريا المعاصرة!

يضيف مسلسل «لعبة الحبّار» إلى الأعمال الدرامية الأخرى، وبالأخص فيلم «الطفيلي – Parasite» الحائز على جائزة الأوسكار، في تقديم نقد حاد للظلم الاجتماعي والتفاوت الاقتصادي الذي يعاني منه كثيرون في كوريا الجنوبية. ويركز أكثر على أزمة ديون الأسر المعيشية التي زاد تأثيرها على الطبقات المتوسطة والفقيرة مؤخرًا.

الأزمة المالية الآسيوية!

كثيرًا ما تصور الدراما التلفزيونية كوريا الجنوبية كمجتمع غير متكافئ وعنيف للغاية، وربما التاريخ المأساوي خلال معظم أوقات القرن العشرين، كالاستعمار الياباني والحرب الكورية وما يقارب 40 عامًا من حكم الديكتاتورية العسكرية بجانب الأزمات المالية، تركوا ندبات نفسية عميقة على العقلية الجمعية للبلاد. الفجوة الاقتصادية داخل المجتمع الكوري تتوسع أكثر، وأصبحت موضوعًا متكررًا في الدراما التلفزيونية الكورية، لا سيما بعد الأزمة المالية الآسيوية في نهاية التسعينيات.

في ديسمبر من عام 1997، أعلن صندوق النقد الدولي عن أكبر حزمة إنقاذ في تاريخه، بهدف دعم استقرار الاقتصاد الكوري الجنوبي استجابةً لأزمة الائتمان والعملة في نفس العام في قارة آسيا. خلال تلك الأزمة خسر ما يقرب من مليوني كوري وظائفهم بموجب خطط إعادة الهيكلة التي فرضها صندوق النقد الدولي، مما دفع معدل الانتحار إلى 20 شخصاً لكل 100 ألف شخص في كوريا، المعدل الذي استمر في الارتفاع خلال السنوات التالية وهو أعلى مستوى بين دول منظمة التعاون الاقتصادي اليوم. ليستمر ذلك التاريخ المظلم بالتأثير الثقافي على البلاد، وبخاصة على السينما الكورية.

الأزمة المالية الآسيوية كانت لها تداعيات استمرت لعقود، وللمواطنين الكوريين، أمثال بطل المسلسل ممن لم يملكوا أموالًا عائلية يمكنهم الاعتماد عليها، كان خياره الوحيد هو الاتجاه لسلسلة من القروض المصرفية، يليها الاقتراض من مرابي القروض (Loan Sharks).

السيناريو الأسوأ!

من بعيد، يظهر الاقتصاد الكوري بصورة رائعة، إذ شهدت منصات التجارة الإلكترونية الكبرى طفرة جيدة في حجم الأعمال خلال جائحة كورونا، كما حدث مع شركة «أمازون» في الغرب، ثم إن الشركات العملاقة الشهيرة، مثل «سامسونج»، تحظى بمكاسب ومبيعات جيدة. ومن المتوقع أن يصل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لنمو بنسبة 3.8% هذا العام. لكن تلك الحقائق ربما تحجب الحالة التي يُرثى لها لكثير من المواطنين الكوريين.

المجتمع الكوري تنافسي للغاية، وربما كانت تلك القدرة التنافسية العالية أحد أسباب نجاح كوريا الجنوبية، حين بدأت حِقْبَة من التحول الصناعي السريع خلال الستينيات مما أوصلها إلى عاشر أكبر اقتصاد في العالم. لكن، كما هو الحال في العديد من البلدان الأخرى، الحصول على شهادة جامعية وفرصة عمل في شركة لا تضمن للمواطن التأمين المالي الذي كانت تقدمه تلك الامتيازات سابقًا. مع متوسط ​​دخل سنوي يصل إلى 42 ألف دولار، يجد عديدًا من الكوريين الآن أن عليهم الاقتراض لاستكمال مصاريف المعيشة.

مع انخفاض أسعار الفائدة حينها، ارتفعت ديون الأسر المعيشية في كوريا الجنوبية كثيرًا في السنوات الأخيرة، وربما بدأ ارتفاع الديون بسبب الإنفاق أكثر باستخدام بطاقة الائتمان، أو فقدان الوظائف، أو خسائر المقامرة، ولكن جزءًا كبيرًا منه مرتبط بالعقارات. ارتفعت أسعار العقارات سريعًا، بخاصة تحت حكم الرئيس الحالي «مون جاي إن» الذي تولى الرئاسة عام 2017، إذ بلغ متوسط ​​سعر الشقة السكنية في سيول نحو مليون دولار.

يبدأ المواطنون في الاقتراض من المؤسسات المالية الشرعية، مثل البنوك، وعندما يتم استنفاد هذا السبيل، يتنقلون إلى المقرضين من المستوى الثاني ممن يطالبون بنسبة فائدة أعلى، وفي أسوأ السيناريوهات قد يتجهون إلى مرابي القروض، ممن يفرضون نسبة فائدة مرتفعة للغاية، قد تتكون من ثلاثة أرقام، ومن هنا يُدفع المواطن إلى معضلة صعبة لا يمكنه الخروج منها.

ووفقًا لبعض التقديرات، هناك 400 ألف مواطن كوري غارقون في الديون لمصلحة مرابي القروض. وعندما تنظر إلى الشخصيات في المسلسل ممن اضطروا إلى المشاركة في تلك اللعبة الدموية، ستجد أنهم يمثلون من هم في أسوأ وضع ممكن نتيجة لديونهم الشخصية. وربما قوة حبكة المسلسل أنه يظهر تلك الشخصيات الواقعية الغارقة في الديون.

أزمة الديون الطاحنة!

ارتفعت نسبة ديون الأسر المعيشية في كوريا الجنوبية بحدّة خلال السنوات الأخيرة، ووصلت بنهاية عام 2020 إلى أكثر من 106% من إجمالي الناتج المحلي، وهي النسبة الأعلى في قارة آسيا، ووفقًا لآخر التقارير بلغت 1.867 تريليون دولار أمريكي في مارس الماضي.

وفي أغسطس الماضي، أصبحت كوريا الجنوبية أول اقتصاد آسيوي كبير يرفع أسعار الفائدة منذ بداية جائحة كورونا، وهي خطوة كان الهدف منها المساعدة في كبح جماح ديون الأسر في البلاد، بجانب الزيادة في أسعار المنازل، التي ارتفعت خلال الأشهر الأخيرة.

الأمر لم يقتصر على العائلات فحسب في الديون لدفع تكاليف الإسكان والتعليم، وعندما أعلنت الحكومة القيود الجديدة على فوائد الإقراض كان الهدف الأساسي خفض الديون بين الأعمار الأصغر سنًا، لأن جيل الألفية، ومن في الثلاثينيات، يمثلون معظم من عليهم ديون نسبة إلى دخلهم.

ومع خيبة أمل الشباب من النظام المالي في البلاد اتجه كثير منهم إلى تجارة العملات المشفرة، على الرغم من مخاطرها وتقلباتها وخسائرها الضخمة، كآخر أمل لهم في جني الربح السريع وتأمين مستقبلهم، ولهذا يتجه الشباب للاقتراض والديون كي تاجروا في تلك العملات.

المشكلة أن محاولات الحكومة لتقليل الاقتراض أدت ببعض الأشخاص إلى البحث عن الاقتراض من المصادر الأخرى ومعها المخاطر الأعلى، ومثل هذا الاختيار يترك كثيرين تحت رحمة مرابي القروض إن تأخروا في السداد بسبب أدنى تغيير في ظروفهم المعيشية. وربما تصل إلى حد تهديدهم ببيع أعضاء أجسادهم إن لم يتمكنوا من سداد الديون بتلك الفوائد المرتفعة، كما حدث مع بطل المسلسل. أعباء الديون الطاحنة تعد مشكلة اجتماعية عميقة، بجانب أنها السبب الرئيس للانتحار في كوريا الجنوبية.

حتى بالنسبة للمواطنين المسنين، تصدرت كوريا الجنوبية 33 دولة في معدل الفقر لتلك الفئة، ضمن دول منظمة التعاون الاقتصادي، ووصلت نسبة الفقر للمواطنين المسنين لأكثر من 47%، وفقا لبيانات من عام 2019، حتى أصبح عديد من المواطنين الذين ساعدوا في تطوير كوريا الجنوبية من دولة فقيرة إلى قوة اقتصادية كبرى لا يستطيعون دعم أنفسهم في سن التقاعد. وهو ما ظهر مع والدة بطل المسلسل المسنّة التي تحتاج إلى العمل حتى تأتي بقوت يومها.

الفجوة الاقتصادية والظلم الاجتماعي!

بعد أن حافظت كوريا على نمط عادل نسبيًا في توزيع الدخل طوال حِقْبَة نموها الاقتصادي السريع، إلا أنها شهدت زيادة حادة في عدم المساواة لتوزيع الدخل على مدار العقدين الماضيين.

يضع مؤشر جيني، وهي نسبة تستخدم لقياس عدالة توزيع الدخل القومي في الدول، كوريا الجنوبية في المركز 102، وبنسبة 35.4% وهي نسبة قريبة من المملكة المتحدة وأفضل من نسبة الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا. ومع ذلك، فإن ظروف ارتفاع معدل البطالة بين الشباب، وزيادة أسعار المنازل، والوباء العالمي، بدأت في عكس الوضع، لتبدأ الفجوة تتسع بين الفقراء والأغنياء في البلاد.

كما يبرز مسلسل «لعبة الحبّار» شخصيات أخرى في المجتمع الكوري الجنوبي، كالأقليات التي تعاني عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية أيضًا، كالمهاجر الباكستاني الذي يعمل في ظروف سيئة للغاية دون أن يتقاضى أي راتب، والشابة الصغيرة الهاربة من كوريا الشمالية عبر الحدود وتحتاج إلى الأموال لتساعد والدتها على العبور إلى البلاد.

بالطبع، تلك القصة ليست فريدة من نوعها بالنسبة لكوريا الجنوبية فحسب، فشخصيات مسلسل «لعبة الحبّار» ومشكلاتهم ومعاناتهم الإنسانية تجد صداها الواسع لدى المجتمعات الأخرى حول العالم، إذ تعاني الاقتصاديات المماثلة لكوريا الجنوبية من نفس التحديات والمشاكل الاقتصادية التي تسبب وباء كورونا المستمر في تضخيمها أكثر.

عن "إضاءات"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية