مستقبل ليبيا بعد "برلين": مؤتمر واحد لا يكفي

مستقبل ليبيا بعد "برلين": مؤتمر واحد لا يكفي


26/01/2020

اختُتم مؤتمر برلين، الذي تم الترويج له باعتباره أكبر فرصة لإحلال السلام ولمّ شمل الشعب الليبي في دولة موحدة ذات مؤسسات قوية فاعلة، تفاءل كثيرون بقدرة المؤتمر على إنهاء الأزمة التي تعصف بالبلاد، نظراً لما أبداه قادة دوليون بضرورة الوصول إلى حلّ، في مقدمتهم رؤساء دول دائمة العضوية بمجلس الأمن، وبعض القوى الإقليمية ذات التأثير في الشأن الليبي مثل فرنسا وإيطاليا وروسيا والإمارات ومصر والجزائر وتركيا، بالإضافة إلى ممثل الاتحاد الأوروبي ومبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا.

إنّ أي توصية مهما بدت جيدة وفي صالح ليبيا لا تكفي بدون عقوبات رادعة وقوة تنفذ هذه العقوبات

غير أنّ المؤتمر خيّب أمل الشعب الليبي، فلم يخرج بأي قرار حاسم لأطراف الصراع ولا للقوى المتداخلة في الأزمة يسهم في حلها، فتم الخروج بتوصيات غير ملزمة، ما يطيل زمن الأزمة، ويعمل على تفكك الدولة الليبية.
كان على المجتمعين، وعلى وجه الخصوص قادة الدول الأوروبية، الإسراع في وضع جدول زمني لحل الأزمة، ورفع قدرات الدولة عبر العمل على استعادة مؤسساتها لدورها وقوتها، ليس لمواجهة تسلل المهاجرين الأفارقة إلى أوروبا فقط، بل لضمان تدفق النفط، والقضاء على نقاط ارتكاز تصلح لإعادة إحياء الجماعات الإرهابية، وهكذا يصبح استقرار ليبيا ضرورة وطنية وإقليمية ودولية.
إنّ كل تأخير يهدد بترك البلاد للانزلاق نحو وضع يشبه وضع الساحة السورية؛ فخطورة تفكُّك الدولة الليبية، تتمثل في سيطرة عصابات الإرهاب والتهريب على سواحلها الممتدة على البحر المتوسط بطول 1850 كيلومتراً، التي يعبر منها المهاجرون الأفارقة، ففي خلال الأشهر التسع الماضية تمكنت القوات البحرية الليبية، من إنقاذ قرابة سبعة آلاف مهاجر قبالة هذه السواحل، وفقاً لما ذكره المتحدث باسم القوات العميد أيوب قاسم، بما يعني أنّ أضعاف هذا الرقم تمكنوا من التسلل إلى أوروبا، مما يعد تهديد مباشراً لأمن البلدان الأوروبية القريبة، كما يتسبب وجودهم بالقرب من حكومة الوفاق وحصولهم على عائدات النفط التي ينفقونها على ميليشياتهم وليس على الشعب الليبي، بقيام القبائل في الشرق بإغلاق موانئ تصدير النفط، مما يسبب خسائر جمة، فقد أعلنت المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا، أنّ إيقاف جميع صادرات النفط من وسط وشرق البلاد ‎سيؤدي إلى انخفاض الإنتاج بمقدار 700 ألف برميل يومياً، على الأقل، وأنّ خسائر الخام ستصل إلى 46 مليوناً و593,4 ألف دولار يومياً، بينما خسائر الغاز ستصل إلى 720,3 ألف دولار يومياً، بمجموع يصل إلى 47 مليوناً و313 ألفاً و700 دولار.

اقرأ أيضاً: مؤتمر برلين.. هل يمهد لعودة العملية السياسية الشاملة في ليبيا؟
أهدر القادة في مؤتمر برلين فرصة الحل؛ فالقرارات والتوصيات التي خرج بها المؤتمر لا جديد فيها، وهي تأكيد على المؤكَّد، فقرار وقف إطلاق النار -مع الإقرار أنّه في غاية الأهمية- ليس من إنتاج برلين، بل هو اتفاق جرى التوصل إليه قبل المؤتمر من قِبل روسيا، حتى قرار حظر توريد الأسلحة لأي من الطرفين هو قرار فرضته الأمم المتحدة على ليبيا منذ العام 2011.
المشكلة ليست في اتخاذ القرارات بل في جدية تنفيذها، فقرار حظر توريد الأسلحة عندما لم يتم تنفيذه بجدية، شجع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على توريد السلاح للميليشيات الإرهابية دون الخوف من عقوبات أممية، بل تمادى حدّ توريد مسلحين متطرفين من جنسيات أخرى، هذا السلاح وهؤلاء المسلحون المتطرفون عقبة كبيرة في إقرار السلام وتوحيد التراب الليبي.

عدم جدية تنفيذ القرارات الدولية شجع أردوغان على التمادي بتوريد السلاح والمقاتلين للميليشيات الإرهابية

إنّ أي توصية مهما بدت جيدة وفي صالح ليبيا لا تكفي بدون عقوبات رادعة وقوة تنفذ هذه العقوبات، حتى اتفاق القادة المشاركين في الحرب بعدم التدخل في الصراع الدائر، وإتاحة فرص للحل السلمي هو انحياز ضد القوة الفعلية المرشحة لاستعادة ليبيا الموحدة وصاحبة القرار متمثلة في البرلمان، والجيش الوطني الليبي، فهذا المسار يفقد قائده المشير خليفة حفتر ميزته النسبية وهي قدرته العسكرية على حسم المعركة، كما يفقده شرعية الحرب، والحديث عن اكتسابه الشرعية السياسية، بعد اعتراف العالم به كقائد للجيش الليبي، يجب أن نتذكر أنه لم يحصل على ما حصل عليه إلا بسبب قدراته العسكرية، ولو لم يكن قادراً على الحسم فعلاً والدخول للعاصمة طرابلس بقواته العسكرية، ما تمت مثل هذه الاجتماعات للزج به في دهاليز المفاوضات والدبلوماسية.

اقرأ أيضاً: ماذا قال بلحاج عن تدخّل تركيا في ليبيا وعن مؤتمر برلين؟
من الواضح أنّ هناك إرادة قوية بعدم حسم القضية في برلين، فتصريح المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أنّ الأزمة الليبية لن يحلها مؤتمر واحد، يعني أنّ هناك احتمالية لعقد مؤتمر "برلين 2"، وأنّ "برلين 1" كانت مهمته توحيد الرؤية لحل الأزمة الليبية، والتأكيد على المسار السلمي، مما يعني أنّ الحل دبلوماسي سياسي لا عسكري مسلّح.
هذا التغيير في شرعية المشير حفتر، سيلزمه بتخطي مجموعة من التحديات، استعداداً لما بعد برلين، وهي مرحلة ربما تطول على نحو ما، فعليه أن يتحلى وفريقه بالصبر مع ضبط النفس، وفي هذه الأثناء عليه أولاً تقوية الشق السياسي في أدواته، مثل البرلمان الذي عليه أن يعيد له قدراته على اتخاذ القرارات الشرعية وتنفيذها، ثانياً عليه أن يكوّن كوادر سياسية أكثر خبرة وتدريباً على التفاوض، أيضاً سيقابله تحدي الحفاظ على مكتسبات المرحلة السابقة لبرلين ومنها السيطرة على منابع البترول على موانئ تصديره، عليه تقديم أدوات لدولة تسع كل الليبيين، والاستفادة من قرار تقسيم عائدات النفط بالتساوي.

اقرأ أيضاً: أهمية مؤتمر برلين
وأخيرا عليه تقوية حلفه، بضم إيطاليا إليه، نظراً لعمل عدة شركات إيطالية في قطاع النفط الليبي تستحوذ على حصة كبرى منه وأبرزها شركتا "بوتشيلي" و"إيني" التي ظلت مستثمراً أساسياً في الغاز والنفط الليبي على مدار أعوام بما فيها فترة العقوبات التي فرضت على ليبيا العام 1992، وتسيطر "إيني" حالياً على أغلب الحقول النفطية في "برقة" و"فزان"، وترغب روما في تأمين مصالحها النفطية بليبيا بشكل واسع؛ إذ تستورد 12% من احتياجاتها من الغاز، و25 % من احتياجاتها النفطية من ليبيا وهي ما تمثل 32% من الإنتاج النفطي الليبي.

على حفتر التحلي بالصبر مع ضبط النفس والعمل على تقوية الشق السياسي في أدواته

ولحفظ مصالحها النفطية لجأت إيطاليا إلى دعم فايز السراج، رئيس حكومة الوفاق، في غرب ليبيا والميليشيات الموجودة في طرابلس، والتي كانت تسيطر على منطقة الهلال النفطي التي تُعدُّ منطقة الإنتاج النفطي الأبرز في البلاد، الآن بعدما سيطر الجيش الوطني عليها جاء دوره ليتحالف مع إيطاليا، ويجب تقوية العلاقات مع فرنسا وحل تضارب المصالح بينها وبين إيطاليا، ففرنسا ترغب في تأمين مصالحها الاقتصادية في ليبيا والسيطرة على حقول النفط عبر شركتها "توتال"، بالإضافة لسعيها إلى استحواذ بعض شركاتها مثل المجموعة الهندسية "اليستوم" وشركة الإسمنت "لافارج" على عقود إعادة الإعمار الليبية وإعادة تأهيل المنشآت التي تم تدميرها خلال الصراع، والتي قد تتجاوز كلفتها 200 مليار دولار، وهذا الرقم من المؤكد زيادته نظراً لتدهور الأوضاع في الوقت الراهن مقارنة بالعام 2011.
وعلى حفتر الإسراع بالاستفادة من تدخل روسيا، فموقفها المتوازن بين طرفي الصراع سببه الحرص على العلاقات التجارية وعقود الإعمار التي يمكن لموسكو الحصول عليها مستقبلاً، سواء مع حفتر أو مع الوفاق، هنا يجب الاستفادة من الشرعية السياسية التي حصل عليها حفتر وعقد اتفاقية مع روسيا لإعمار المدن التي تحت سيطرته.
إنّ مستقبل ليبيا الموحد يتوقف على قدرة المشير حفتر وحلفائه على تجاوز تلك التحديدات، مع الحفاظ على مكتسباته العسكرية على الأرض، ليتمكن من الدخول في المفاوضات وفرض شروطه، مع إدراكه أنّ حل المسألة الليبية ليس بالسهل نظراً لتشابك المصالح الإقليمية الدولية فيها.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية