رشيد الخيّون
لم تنتهِ طالبان بإلغاء إمارتها مِن قبل الأميركيين (2001)، عقب 11 سبتمبر 2001، بعد إصرارها على دعم «القاعدة» وإيواء أسامة بن لادن (قُتل 2011). ومِن العادة أن الجبال والوديان تُحصن الجماعات مِن الانهيار، ناهيك عن طبيعة المجتمع الذي ظهرت منه طالبان، وتحصنت به، كقبائل البشتون بأفغانستان، مع وجود دعم لها على الحدود.
ظهرت طالبان إلى الوجود (1994)، ثم استولت على السُّلطة (1996)، كان منشؤها قندهار التي صارت مثلاً للتشدد الأعمى، متكونة من طلاب مدرسة الفقه هناك والتي تتعلق عقيدتها بالحنفية «الدِّيْوبَندْيَّة» التي ظهرت في القرن الثامن عشر، وهذه العقيدة متشابكة المشارب: صوفية السلوك، وحنفية الفقه، و«ماتريدية العقيدة»، وأسس الأخيرة أبو منصور الماتريدي (ت 333هـ)، وقيل إنها وسط بين الأشعرية والمعتزلة (سيد طالب الرَّحمن، الدِّيْوبَندْيَّة تعريفها وعقائدها).
ما يُستغرب له أن «الدِّيْوبَندْيَّة» نشأت ضد السلفية المتمثلة بابن تيمية (ت 728هـ)، وابن قيم الجوزية (ت 751هـ)، على أساس حنفيتها و«ماتريديتها»، لكن فرعها طالبان تعدى التشدد السلفي بفارق كبير جداً، في ما يخص أهل الأديان والنساء وغيرها مِن المسائل. كانت الفوضى التي تركتها الحرب، وأداء الأحزاب الدينية الرديء بأفغانستان، مجالاً لاستيلاء طالبان على السلطة.
تكرر المشهد كثيراً في التَّاريخ، فالمغول لم يتمكنوا من عاصمة الدَّولة العباسية إلا بعد تشظيها إلى كيانات غير مترابطة، ووجود القلاع النزارية (جماعة من الإسماعيلية)، الحركة التي اعتمدت الاغتيالات سبيلاً في نشاطها السياسي.
كذلك أن الفرقة الصوفية (الصفوية) ومسلحيها لم يسيطروا على بلاد فارس إلا بالفوضى التي عمت المنطقة، وكثرة الأقاليم المتخاصمة، ناهيك عن الجماعات التي طلبت الخلافة خلال الفوضى التي عَقبت حرب المأمون والأمين ببغداد. وعلى هذا المنوال ظهرت طالبان بدواعي تأمين الطرق وإعادة الاستقرار، فكانت لها السلطة.
ليس موضوعنا حركة طالبان بذاتها، لكن التصاقها بإمام الكوفة في زمنه أبي حنيفة النعمان (ت 150هـ)، يُثير العجب العجاب، فما مارسته طالبان خلال حكمها لا يمت بصلة لأبي حنيفة، والذي لنَّا وصفه، قياساً بعصره، بالاعتدال، ففي فقهه نجد المساواة بين الدِّماء، لا يُميز بين مسلم وغير مسلم في القصاص.
إذا قتل مسلم غير مسلم يُقاد به، وهو يفتح المساجد والجوامع لغير المسلمين، وقد سند ذلك إلى رواية صلاة مسيحيي نجران في المسجد النبوي وبأمر من النَّبي نفسه (ابن هشام، السيرة النَّبوية)، وهو لا يأخذ المرأة في حُكم الرِّدَّة، والمرتد لا ينفذ فيه الحد إلى بعد استتابته، واعترف للمرأة بمنزلة العقل والدِّين، عندما أفتى بصحة ولايتها القضاء، وفوق كلّ ذلك كان مؤسساً لمدرسة «الرَّأي»، وهذا شرحه يطول.
ففي تلك الآراء التي تميز بها أبو حنيفة، عن العديد مِن الفقهاء المؤسسين لمدارس الفقه ومذاهبه، ما يصلح أن يكون قاعدة إسلامية للتسامح الديني، وعلى الخصوص بما يتعلق بمعاملة غير المسلمين، وما تقتضيه المواطنة، وما يفرضه تداخل البشر وعلى مختلف العقائد. كذلك نجده يتشدد في معاملة الإنسان للإنسان، وهذا ما يُسمى بفقه المعاملات، لكنه لا يتشدد في ما بين الله والإنسان، وهو ما يُسمى بالعبادات، وعندما نقول لا يتشدد ليس بمعنى أنه رفع تكليف العبادة، إنما لا يُكفر أو يفتي بالقتل بسببها، وقصته مشهورة في تدخله لإطلاق سراح جاره مِن سجن إمارة الكوفة، مع أنه شارب خمر (المكي، مناقب أبي حنيفة).
ما تقدم لا يوافق النَّهج الذي نهجته طالبان كحركة وسلطة، فقد قدمت المذهب الحنفي الذي تلتزمه بمعاملتها وعباداته على أنه مذهب متطرف، وأن صاحبه رأس التشدد، وعند المقابلة نجدهم أوجدوا مذهباً حنفياً آخر، غير المعمول به في المعاملات والعبادات.
فمن إجراءات طالبان المتطرفة، والتي تعدت حتى التطرف نفسه، الآتي: حرمت على النساء التعليم على شاكلة «بوكوحرام»، وكشف الوجه، وفرضت عقوبة على سائقي التاكسيات نقل كاشفات الوجه والخارجات بلا محارم، وحرمت عليهنَّ غسل الثياب على شواطئ الأنهر، لا حباً بالبيئة بل منعاً لخروج المرأة، كما يمنع الرِّجال مِن خياطة ثياب النساء.
تحريم الموسيقى، في الأماكن كافة، وعقوبة المخالف السجن، وعدم قص اللحية، ولدى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقاس خاص بطول اللحى، ومن يخالف يُعتقل حتى تطول لحيته، الصلاة ممنوعة إلا في المساجد، ومنع تربية الحمام واللعب بالطيور، ومن يُخالف عقوبته السجن وذبح الطيور، وتحريم اللعب بالطائرات الورقية، وكذلك تحريم النحت، والمعبر عنه بصناعة الأصنام (الحناشي، العاصفة والعِمامة). فهذا ما لم يقله أبو حنيفة ولا تلامذته مِن بعده، بل أبو حنيفة كان متهماً مِن قِبل المذاهب المتشددة (اقرأ ما قيل عنه في تاريخ بغداد).
ما بين أبي حنيفة، وما تركه مِن فقه معتدل، خارج ما أضيف له من الجماعات الحنفية التي ظهرت بالهند وباكستان بتأثير قبلي، يُثير الغرابة، مِن أن تظهر جماعة تتدين بالمذهب الحنفي، وهي بهذا التطرف، بعد صاحب المذهب بقرون طويلة. إنها محنة لأبي حنيفة نفسه قبل غيره، وهو الذي أوصى تلميذه: «عاشر أهل الأديان بمعاشرتهم» (مناقب أبي حنيفة)، بمعنى لا تنجسهم ولا تقصيهم ولا تفرض عليهم دينك. أما طالبان، فأرادت جعل البشر كلُّهم طالبان!
عن "الاتحاد" الإماراتية