محمود محمد طه.. رؤية حيّة للسودان بعد 35 عاماً

محمود محمد طه.. رؤية حيّة للسودان بعد 35 عاماً


02/02/2020

صادف 18 كانون الثاني (يناير) الماضي ذكرى إعدام المفكر السوداني محمود محمد طه العام 1985؛ إثر محاكمة سياسية كشفت بحيثياتها المتهافتة أي دورٍ تلعبه أيديولوجيا الإسلام السياسي حين تتحالف مع أنظمة القمع، كالحالة التي تحالف فيها حسن الترابي مع نظام الديكتاتور جعفر النميري، ليطلقا ما سُمِّي آنذاك بقوانين الشريعة الإسلامية التي كان محمود محمد طه أول المقاومين لها، وأول ضحاياها، بعد أن أصدر بياناً من صفحة واحدة ضد تلك القوانين بعنوان "هذا أو الطوفان" أبان فيه بوضوح: أنّ تلك القوانين: تهدد الوحدة الوطنية، وستستخدم لإرهاب المعارضين السياسيين، وإهانة الفكر وإذلال الشعب وإضاعة الحقوق وتشويه الإسلام.

اقرأ أيضاً: محمد شحرور لمن لم يقرأه.. ماذا تعرف عن ركائز مشروعه الفكري؟
اليوم وبعد خمسة وثلاثين عاماً من تلك المحاكمة (التي سعى فيها الترابي وتنصّل منها)، وبعد ثلاثين عاماً من حكم الإخوان المسلمين عبر انقلاب البشير في العام 1989، يتبين بوضوح قدرة المفكر على رؤية حقائق الواقع عبر صواب الفكر ودقة التأويل.

طور الراحل أفكاراً روحية أساسية في رؤيته من خلال تأثره العميق بالتصوف
بين مسارين سودانِيَيْن لتأويل الإسلام؛ مسار الإخوان المسلمين بقيادة حسن الترابي، ومسار الإخوان الجمهوريين بقيادة محمود محمد طه، ربما يسمح لنا الزمن بقراءة جديدة لأفكار طه، بعد أن جرّب السودانيون ثلاثين عاماً من الفساد والتسلط جرّاء التجربة المريرة لنظام الإخوان المسلمين.
انتصار خط الترابي (أيّاً كانت أدوات هذا الانتصار) على خط محمود محمد طه في السودان كان بمثابة انتصار خطاب الكراهية على خطاب الفكر، وخطاب التضليل على خطاب التأويل، وخطاب الحرب على خطاب السلم.

اقرأ أيضاً: نصر حامد أبو زيد غرّد خارج السرب فأزهرت كلماته ومات غريباً
واليوم، من الأهمية بمكان أن تكون هناك قراءة مستحقة على الفكر السوداني لإعادة فحص الأفكار الكلية لمحمود محمد طه، وطبيعة الخطاب الذي قدم فيه نموذجاً محفزاً لرؤية تستقطب تناقضات المسلم المعاصر مع هوية الحداثة.
بداية، لا بد من القول، إنّ قوة الهوية الإسلامية وتجذّرها في حياة المسلمين، بصورة عامة، لا ينفع معها أي محاولة ميكانيكية للاقتلاع، وفي الوقت ذاته لا تصلح بيئة تخلف المسلمين التي تعبّر بشكل مغلوط عن تلك الهوية اليوم أن تُترك كما هي، ما يعني أنّ هناك مرحلة ضرورية من الإصلاح الديني لا بد من المرور بها في حياة المسلمين المعاصرة.

كشفت محاكمة محمود طه بحيثياتها المتهافتة أي دورٍ تلعبه أيديولوجيا الإسلام السياسي حين تتحالف مع أنظمة القمع

لقد كان الفكر الذي طرحه محمود محمد طه فكراً مختلفاً عن كونه تقليداً للحداثة التي هضم محمود فكرها وخبر تياراته في ذلك الوقت، كما أنّ طه، وإن طرح رؤية إسلامية بنظم إدراك جديدة ووعي جديد، إلا أنّها لم تكن لها أي علاقة بالبنى الأيدولوجية التي قام عليها الإسلام السياسي كما طرحته جماعة الإخوان المسلمون وفق أفكار حسن البنا وسيد قطب.
يمكن القول، إذاً، إنّ طه طرح فكراً بشّر برؤية جديدة لمشكلات البشرية المعاصرة؛ حين جعل من رؤيته الإسلامية صنواً للرؤية الانسانية ذاتها، عبر فهم مختلف لمعنى عالمية الإسلام وكونيّته. بمعنى آخر، إنّ المقتضيات المنهجية التي أسّس بها محمود محمد طه الفكرة الجمهورية من حيث اشتغالها على التبشير بروحانية جديدة ومدنية جديدة، يمكن القول إنّها كانت تختبر مفاهيم كان لا بد من الخوض فيها لتركيب جدل متصالح مع الذات والعالم في رؤية المسلمين لأنفسهم.
وكان في بنية هذا الفكر الجمهوري الجديد؛ قدرة على التجاوز المعرفي لتناقضات أيديولوجيا الإسلام السياسي للإخوان المسلمين.

اقرأ أيضاً: نصر أبو زيد مشتبكاً مع ابن عربي: تصالح العقل والتصوف
هكذا، بينما كان مفهوم "التكفير" سلاحاً سياسوياً بيد الإخوان وحكماً أيديولوجياً عبَّرَ عن علاقة مأزومة تجاوزت الانقسام السياسي إلى الانقسام المجتمعي داخل الجماعة الوطنية (كتفكير الشيوعيين السودانيين مثلاً)، كانت أفكار محمود محمد طه تختبر وعياً نقدياً حديثاً للفكرة الشيوعية باعتبارها فكرة إنسانية واجتهاداً بشرياً، لكنها تقصر عن أفق الإسلام في تدبيره النظري لعلاقة متناغمة بين الفرد والمجتمع.
ففي الفكرة الماركسية التي تقول "التاريخ ما هو إلا سجل لحرب الطبقات" يعلق محمود طه قائلاً: "إنّ هذه الصورة التي رسمها كارل ماركس على بشاعتها فيها كثير من الحق، ولكن إنما هي مرحلية، تذهب البشرية بها إلى الخير المطلق وإلى المحبة الشاملة والسلام التام، فهي ليست كما ظنّها ماركس صورة ملازمة للإنسان وللمجتمع الإنساني لا تتطور إلا في داخلها وبوسائلها المتكررة وباختلاف يسير لا يخرجها من القيد إلى الإطلاق".

انتصار خط الترابي على خط طه في السودان كان بمثابة انتصار لخطاب الكراهية على خطاب الفكر
ووفق هذه الرؤية الإنسانية للإسلام، لا تتأسس الفكرة الجمهورية على الصراع، لا مع الذات ولا مع العالم الحديث، ولا داخل المجتمع. ذلك أنّ المبدأ التفسيري لرؤية الأستاذ حول مسار التاريخ البشري تقوم على أنّ فكرة التقدم، الذي سارت عليه المجتمعات الإنسانية منذ فجر البشرية الأولى، هو تقدم باتجاه الإسلام، وهذا هو الذي جعله، منذ الخمسينيات، يتصور مفهوم الديمقراطية بأنّه المفهوم الذي يتجه إليه العالم. لهذا يقول طه عن الديمقراطية: "الديمقراطية ليست أسلوب حكم فحسب، وإنّما هي منهاج حياة؛ الفرد البشري فيه غاية، وكل ما عداه وسيلة إليه، ولا يجد أسلوب الحكم الديمقراطي الكرامة التي يجدها عند الناس إلا من كونه أمثل أسلوب لتحقيق كرامة الانسان. وفي النهج الديمقراطي الحاضر خطأ هو أقل من الخطأ الذي تورطت فيه الماركسية بكثير".

من أهم المبادئ التفسيرية الأساسية لمحمود طه في رؤيته للإسلام فكرتا الكرامة والحرية

كما نجد أنّ من أهم المبادئ التفسيرية الأساسية لمحمود طه في رؤيته للإسلام؛ فكرتا الكرامة والحرية وهما فكرتان ترتبطان ارتباطاً جدلياً.
يقول المفكر السوداني: "ومن كرامة الإنسان عند الله أنّ الحرية الفردية لم يجعل عليها وصياً حتى ولو كان هذا الوصي هو النبي، على رفعة خلقه وكمال سجاياه. فقد قال تعالى في ذلك (فذكّر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر)، ومن هذا نأخذ أنّه ليس هناك رجل هو من الكمال بحيث يؤتمن على حريات الآخرين. وإنّ ثمن الحرية الفردية هو دوام السهر الفردي عليها. وفي الحق أن ممارسة الحرية الفردية حق أساسي يقابله واجب هو حسن التصرف في ممارستها" (كتاب الرسالة الثانية). ولطالما كان شعار الحزب الجمهوري الذي أسسه محمود محمد طه في أربعينيات القرن الماضي هو: "الحرية لنا ولسوانا".

اقرأ أيضاً: سدنة الهيكل يغمدون سيفاً آخر في قلب فرج فودة
إنّ القدرة الفكرية التأويلية لمحمود طه على رؤيته للإسلام كانت باستمرار تنفي أوهام التناقضات التي وقعت فيها أيديولوجيا الإسلام السياسي، فقد كان يؤمن إيماناً حقيقياً بفكرة الدولة والمواطنة في صلب الخطاب التأويلي لأفكاره، ولهذا كان لافتاً تنبه طه إلى خطورة أفكار حسن الترابي منذ ستينيات القرن العشرين، حين ألقى محاضرة بعنوان "الدستور الإسلامي المزيف" (موجودة في اليوتيوب)، ردّ فيها على مقال طويل للدكتور الترابي بعنوان: (أضواء على المشكلة الدستورية) حول الدستور الإسلامي؛ مفنّداً خطورة أفكار الترابي منذ ذلك الوقت المبكر (العام 1969)، داعياً إلى فكرة الدستور الدائم الذي يقوم على مبدأ المواطنة. لأنّه كان يدرك أنّ الاجتماع السياسي للسودانيين سيتفكك نتيجة لضمور فكرة الوطن والمواطنة لدى الإسلاميين حال تطبيق ما كانوا يدعونه بقوانين الشريعة، وهو بالفعل ما أدّى بعد ذلك بأعوام إلى تقسيم السودان إلى شمالي وجنوبي.

ضرب طه مثالاً نادراً للمفكر الشجاع وسجّل موقفاً متسقاً جعله ضميراً وطنياً وأخلاقياً لحرية الفكر
يمكن القول، إنّ إعطاء الأولوية لفكرة الفردية عند محمود محمد طه باعتبارها حجر الزاوية في فلسفته، نابعة من استقراء تصوره للإسلام، وفي الوقت ذاته من مسار التأمل في تاريخ الأفكار التي أنتجت مساراً متقدماً للإبداع في سياق الحداثة؛ فالفردية هي هوية العالم الحديث، وهي الفكرة التي تحرر الإنسان وتعكس كرامته واستقلاله وفرادته. ولهذا هناك مزيج بين فكرة الفردية وبين اعتبارها فكرة مركزية في التدين عند طه؛ إذ يقول: "شريعة العبادات كلها شريعة فردية لأنّ مدارها الضمير المغيب، ولا يطعن في هذا التقرير أن بعض العبادات تؤدى جماعياً".

إعادة الاعتبار لفكر محمود محمد طه من أهم الأسئلة التي تطرح نفسها على الفكر السوداني اليوم

وفي تقديرنا أنّ ذلك الفهم لفكرة الفردية بصورة عامة، ووضعها ضمن سياق فهم إسلامي معاصر، هو الذي يستقطب التناقض الظاهر للبعض بين الهوية السياسية للحزب الجمهوري، وبين المرجعية الإسلامية الحضارية لأفكاره. 
كمفكر كبير، كان طه مدركاً للتناقض الأصلي في نظام الحداثة السياسية للعالم المعاصر، الذي انفصلت فيه القوة عن الحق والعدل بفعل الأصول المادية لذلك النظام، لكن، فيما يتوقف بعض المفكرين عند حدود التفسير الذي يفكك طبيعة ذلك القصور دون أن يكشف عن السبب وراء ذلك التناقض؛ يطرح طه ما أسماه بالروحانية الجديدة، وهي فكرة تقوم على أنّ الاسلام يوفر للبشر جميعاً إمكانية التحرر من الخوف من الموت بوصفه امتداداً لخط الحياة، فحين يتحرر الإنسان من الخوف من الموت، يصبح العالم أكثر إنسانيةً.
ذلك أنّ الطبيعة الميتافزيقية لمبدأ الروحانية الجديدة لا تنعكس جدواها فقط كخلاص فردي للإنسان، بل تقترح الروحانية الجديدة بالأساس جدواها كخلاص للعالم من فكرة الأنانية المادية وإكراهاتها الخطيرة في نمط الاستهلاك المدمر، ذلك الذي وصفه هيربرت ماركوزة في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد" وهو أمر لا يمكن أن يحدث أبداً إلا بالتفكير في مبدأ عقلاني لمفهوم اليوم الآخر.
محمود طه والتصوف
محمود طه أحد كبار المفكرين الذي اشتغلوا على تأويل الفكر الصوفي في مختبر معاصر للعلاقة مع الواقع، فهو الذي تمثل في رؤيته هوية التصوف عبر معرفة عميقة ووراثة روحية لكبار المتصوفة من أمثال ابن عربي، تميز بالقدرة على تحرير التصوف بطريقين؛ الأول إدماج الرؤية الصوفية في حياة معاصرة وفك عزلة التصوف بتسييل أفكاره في مفهوم الروحانية الجديدة عبر انتظام مدني حديث، والثاني؛ التحقق بقيم التصوف في سلوك شخصي كان مضرباً للمثل السائر والقدوة المؤثرة في الاتساق بين القول والفعل، ونموذجاً للتصالح مع الذات عبر سيرة شهد له بها الجميع وطغى تأثيرها البارز في من حوله من كافة الناس.

 


وفي تقديرنا، أنّ تلك الطريقة في تأطير التصوف وتمثُّله عبر الفكر الجمهوري عكست وعياً عميقاً لرؤية طه؛ ودلّت على فهم دقيق لتاريخ السودانيين وإدراك للعلاقة العضوية بين الحرية والتدين الصوفي في ذلك التاريخ منذ أن توقف العرب عند فتح السودان في عهد عمرو بن العاص.
ولقد طور محمود محمد طه أفكاراً روحية أساسية في رؤيته من خلال تأثره العميق بالتصوف، ويبدو ذلك أحياناً في تفسيره لبعض آيات القرآن الكريم على الطريقة الرمزية للتصوف.
ضريبة الفكر وشجاعة المواجهة
ضرب طه مثالاً نادراً للمفكر الشجاع وسجل موقفاً متسقاً جعله ضميراً وطنياً وأخلاقياً لحرية الفكر في مواجهة محاكمة سياسية انتهت بإعدامه، وكان موقفه المبدئي المتصل بالدفاع عن حرية الفكر والضمير ووحدة الوطن وحماية المواطنين من القمع، واضحاً في صلب مرافعته التي دافع بها عن نفسه (يوجد فيديو على يوتيوب يوثقها) من أبرز المواقف التي سجلها له التاريخ في تلك المحاكمة.
واليوم، بعد انتصار الإسلام السياسي عبر انقلاب العام 1989 بتدبير من الترابي والبشير، وإسقاط نظامه بثورة شعبية في نيسان (أبريل) من العام الماضي، وفي ضوء فداحة الثمن الذي دفعه السودانيون جراء نظام الإسلام السياسي، سيظل استحقاق إعادة الاعتبار لفكر محمود محمد طه من أهم الأسئلة التي تطرح نفسها على الفكر السوداني، لاسيما في واقع جديد يتيح حرية قراءة الأفكار ونقدها بعيداً عن إكراهات السلطة السياسية.
كما أنّه من الأهمية بمكان أن يشتغل الجمهوريون على تطوير فكر نقدي في ظل تلك الحريات، واختبار إضافات جديدة على أطروحات طه دون الوقوف على تخومها واجترار أفكارها، بعد أن جرت مياه كثيرة تحت الجسر!

 

الصفحة الرئيسية