محمد عبده وأركون: تقاطعات فكرية

محمد عبده وأركون: تقاطعات فكرية

محمد عبده وأركون: تقاطعات فكرية


04/09/2023

كان الأستاذ الإمام محمد عبده رائداً فذاً من رواد الإصلاح والتنوير، وعلماً من أعلام الدعوة إلى التجديد على أكثر من صعيد، ليس في مصر وحدها، وإنّما في العالمين؛ العربي والإسلامي، وعلى الرغم من مرور قرن كامل من الزمان على وفاته، إلّا أنّ أغلبية أفكاره واجتهاداته في الإصلاح والتجديد ما تزال تنبض بالحياة، وما تزال النخب الفكرية والثقافية والسياسية مشغولة بالقضايا ذاتها التي انشغل بها الإمام، وتظل آراؤه واجتهاداته باقية، محتفظة بصلاحيتها للتطبيق في الواقع الراهن، ويبقى الأمر المهم متمثلاً في مدى قدرتنا على الاستفادة من إسهاماته، والمضي قُدماً في تحقيق أهدافه التي لم يدركها في حياته، ومحاولة نقلها من حيز الأماني إلى حيز التطبيق العملي؛ بل وتطويرها بما يتناسب والعصر الذي نعيش فيه.

قام مشروع  الإمام  محمد عبده على فكرة الإصلاح التدريجي، واهتم في الوقت نفسه بتحسين الأوضاع الاجتماعية للناس، فكان هدفه من الإصلاح هو إصلاح دين ودنيا المجتمع الإسلامي، مؤمناً بقوة التربية وتهذيب الطلاب، منادياً بتغيير نظام التعليم والمناهج، معتبراً أنّ التربية والتعليم خير وسيلتين للإصلاح الاجتماعي والتربوي، ومن هنا كانت مناداته بالتربية؛ لخلق مواطن صالح يتعلم أسس حضارته، ويتهيأ لقبول منجزات العصر.

قدّم الإمام محمد عبده فكراً إصلاحياً أكثر اتساعاً من سابقه الطهطاوي، وهو ما عَكس مرحلة أكثر توسعاً وإصلاحاً بمجالات مختلفة، وقد تميز الفكر الإصلاحي عند الإمام بالنظرة الشاملة، والرغبة في التغيير والتطوير والانفتاح على العلوم الحديثة، مع العودة إلى المنبع واستخدام العقل لمواكبة العصر.

قدّم الإمام محمد عبده فكراً إصلاحياً أكثر اتساعاً من سابقه الطهطاوي، وهو ما عَكس مرحلة أكثر توسعاً وإصلاحاً بمجالات مختلفة

ويمكن إجمال اتجاهات الإصلاح في الفترة الزمنية منذ البعثات التعليمية إلى الغرب، في عهد والي مصر محمد علي باشا (1805) حتى بداية القرن الـ21 في (3) اتجاهات: إمّا رفض كل ما هو حديث، والرغبة في العودة إلى التراث والاكتفاء به، وإمّا رفض التراث والرغبة في الاقتداء بالغرب شكلاً وموضوعاً، وإمّا تيار المزاوجة بينهما، وهو الأكثر تداولاً وشيوعاً؛ بل وقبولاً في المجتمعات العربية المعاصرة.

والمتأمل للفكر العربي الحديث؛ سيجد أنّه ظلّ في مكانه منذ الطهطاوي وصدمته الحضارية، ودعوة الإمام محمد عبده لتدريس الفلسفة والعلم، ودعوته إلى المزاوجة بين الأصالة والمعاصرة، وبعد وفاته في العام 1905 نجد أنّ حركته الإصلاحيه ظلّت في مكانها.

التقارب ما بين بعض أفكار المفكر المصري الإمام محمد عبده (1849-1905) والمفكر الجزائري محمد أركون (1928-2010) يجعلنا ندرك أنّ الفكر لا يموت، ولكنّه يستمر وتتناقله الأجيال


تبنّى جيل كامل أفكاره، وعلى رأسهم المفكر المصري طه حسين، الذي توفي العام 1973، وفي المغرب العربي كان لحركة الإصلاح حينها دور مثمر، فنجد، على سبيل المثال، أنّ عبد الله بن إدريس السنوسي كان من خرّيجي الأزهر، وأصبح فيما بعد رائداً للإصلاح الحديث بالمغرب، وكان الأكثر فاعلية في نشر أفكار محمد عبده بالمغرب، وهو الذي ساند القرويين في مواجهة البدع المذمومة، كما نجد بالجزائر الشيخ عبد الحميد بن باديس (1889-1940) الذي كان من أكثر المتأثرين بالفكر الإصلاحي عند محمد عبده، ويمكن القول إنّه حمل لواء الفكر الإصلاحي للإمام، مؤكداً على دور العقل في الإسلام، كذلك الحال بالنسبة إلى خير الدين التونسي بتونس (1810-1890)، ويجب ألّا نغفل هنا أنّ الدول العربية في ذلك الوقت كانت تعاني من الاستعمار الأجنبي؛ ممّا جعل من فكرة الإصلاح وسيلة من وسائل المقاومة.

كلّ ما سبق لا ينفي أنّ الإشكاليات المثارة التي كانت مفتوحة في عصرالإمام، والعصر السابق عليه، ظلت كما هي محل تساؤل ونقاش وخلافات، واستمر انقسام المفكرين إلى قسمين: الأول ينطلق فكره من أنّ تأخر العرب يكمن في تمسكهم بثقافتهم والقيم النابعة منها، وأنّ إخفاق العرب يعود إلى عوامل ذاتية متعلقة ببنية المجتمع والثقافة العربية، وقصورهما عن تحقيق القفزات العلمية والتكنولوجية التي حققتها الأمم الغربية وقادتها إلى الحضارة الحديثة، أمّا القسم الثاني، فيرى أنّ تخلي العرب والمسلمين عن دينهم وقيمهم؛ هو سبب التخلف الذي يعانون منه.

واستمر دوران الفكر العربي المعاصر في الفلك نفسه، منذ نهايه القرن الـ19 حتى بداية القرن الـ21، حيث نقف نحن الآن في عصرنا الحالي.

تبنّى جيل كامل أفكاره، وعلى رأسهم المفكر المصري طه حسين

في الاتجاه المعاصر، نجد أنّ مشروع المفكر الجزائري محمد أركون، يُعدّ من بين أهم المشاريع الفكرية والفلسفية التي سعت لتخليص الفكر العربي ـالإسلامي من الأزمة المعاصرة، ويحمل هذا المشروع عنواناً كبيراً هو "نقد العقل الإسلامي"، "وفيه يدرس صلاحية كل المعارف التي أنتجها العقل الإسلامي دراسة نقدية شاملة، وينخرط إبستمولوجياً في العمق".

وقد احتل محمد أركون مكانة معرفية متميزة في الفكر العربي والإنساني، في الـ50 عاماً الأخيرة، خاصّة في المجال الدراسي الذي تخصص فيه؛ وهو مجال الدراسات الإسلامية، وقدّم لمكتبته نفيس النصوص، فكان، بحسب عبد الإله بلقزيز، "باحثاً موسوعياً نادر النظائر، وصاحب جرأة في الرأي، عزّ مثيله في تاريخنا الثقافي الجديد".

كان الإمام  محمد عبده أول من قام بتدريس كتاب "تهذيب الأخلاق "لابن مسكويه في ذلك العصر للأزهريين، كذلك فعل أركون الذي اهتمّ بمسكويه، ودعا إلى تدريس كتاب "تهذيب الأخلاق "للتلاميذ بالمدارس

ويمكن القول إنّ المفكر الجزائري محمد أركون هو امتداد فكري للأستاذ الإمام محمد عبده، ويستمد هذا الافتراض قوته من كون الإمام محمد عبده يُعدّ أول من أحيا مدرسة ابن رشد الفكرية في العالم العربي بالعصر الحديث، على الوجه الآخر من اللافت للانتباه في مسيرة المفكر الجزائري محمد أركون تأثره بفكر ابن رشد، فيبدو كأنّهما تخرّجا في المدرسة نفسها، وتعلّما على يد معلم واحد. ويجب ألّا نغفل أنّ أركون قدّم بحثاً حول طه حسين في بداية حياته البحثية، وطه حسين هو أحد أهم تلامذة الإمام محمد عبده.

التقارب ما بين بعض أفكار المفكر المصري الإمام محمد عبده (1849-1905) والمفكر الجزائري محمد أركون (1928-2010) يجعلنا ندرك أنّ الفكر لا يموت، ولكنّه يستمر وتتناقله الأجيال؛ وعليه يمكن رصد بعض الخطوط العريضة، التي يمكن اعتبارها متشابهات أو مقاربات فيما بينهما:

المؤثرات المشتركة على فكر كلٍّ من محمد عبده ومحمد أركون

فكر مسكويه

كان الإمام  محمد عبده أول من قام بتدريس كتاب "تهذيب الأخلاق "لابن مسكويه في ذلك العصر للأزهريين، كذلك فعل أركون الذي اهتمّ بمسكويه، ودعا إلى تدريس كتاب "تهذيب الأخلاق "للتلاميذ بالمدارس، وكانت رسالته للدكتوراه حول "نزعة الأنسنة في الفكر العربي الرابع والخامس الهجري، جيل مسكويه والتوحيدي"، وقدّم مقالة في الأخلاق حول مسكويه في العام 1969، وهو ما يعكس مدى اهتمامه بالفكر العربي في تلك المرحلة.

الاهتمام بمدرسة ابن رشد الفكرية

كان تبنّي الإمام للفلسفة الرشدية، ونجاحه في إنشاء أول خلية بحث لإعادة كتابة (تاريخ الفلسفة في الإسلام) بإشراف الشيخ مصطفى عبد الرازق وتلامذته أيضاً من الأمور اللافتة لاهتماماتهم المشتركة، وكان المفكر الجزائري دائم التساؤل حول أسباب فشل ابن رشد في الفكر العربي، ونجاحه في الفكر الغربي، وقد اعتبر محمد أركون أنّ ابن رشد هو أعلى نقطة متقدمة، أو سقف نظام الفكر الذي ساد العصور الإسلامية الكلاسيكية، ممّا يعني أنّ ابن رشد كان محل اهتمام كبير لدى محمد أركون أيضاً.

احتل محمد أركون مكانة معرفية متميزة في الفكر العربي والإنساني

نقاط فكرية مشتركة بين كلٍّ من محمد عبده ومحمد أركون

- دعا كلاهما إلى "تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين، والنظر إلى العقل باعتباره قوة من أفضل القوى الإنسانية بل أفضلها؛ فالإسلام عند الإمام هو دين عقلاني، والعقل في الإسلام كما يقول هو الميزان القسط الذي تُوزن به الخواطر والمدركات، ويميز بين الحقائق والأوهام، كذلك آمن أركون بقوة العقل.
- اعتبر كلٌّ منهما أنّ أصول الأديان الـ (3) المنزلة، الإسلام والمسيحية واليهودية، حق، ولهذا أسّس الإمام جمعية للتقريب بين الأديان، شارك فيها عدد من رجال الدين المستنيرين، وكان هدفها هو التقريب بين الأديان، في حين دعا المفكر الجزائري إلى تدريس تاريخ  مقارن للأديان التوحيدية، بلا تحيز أو تمييز.
- ساهم المشروع الإصلاحي لمحمد عبده في نقد الفكر الإقصائي الذي ظلّ مسيطراً على نواحٍ من تاريخنا الفكري والسياسي ما يقرب من (10) قرون، وهو ما نجده بقوة في كتابات أركون، من رفض للإقصاء، ودعوة إلى قبول الآخر، ودعوة إلى الحوار الدائم بين البشر بلا تمييز.
- الاهتمام بالثقافة الغربية، من باب التوسع في المعرفه العلمية، وإتقان المناهج العلمية الحديثة، بالإضافة إلى الحرص على توضيح وجهة النظر الإسلامية الصحيحة للغرب.
الاهتمام بالنشء؛ ويتضح بشكل كبير لدى أركون في دعوته لتدريس الفلسفة للتلاميذ، كذلك دعوته لتدريس تاريخ الأديان المقارن، بالإضافة إلى نظرية الجهل المؤسس، ومقولته: "أعطني جيلاً من الصبية، وشريحة عمرية تتراوح بين (10و15) عاماً، وخُذ منّي عقلية جديدة وإدراكاً جديداً للأمور، ممّا يذكّرنا بمقولة الإمام محمد عبده، وفكرة "الغرس" التي دعا إلى تطبيقها؛ من خلال تربية (10) صبية ليكونوا في المستقبل قادة، وهم بدورهم يربّون آخرين،... وهكذا، فقد آمن كلٌّ من الإمام المصري والمفكر الجزائري بالتربية ثم التعليم، إيماناً لا حدود له.
دعا كلاهما إلى الاجتهاد، وإعمال العقل، وفتح باب التأويل.
- رفض كلٌّ منهما التفسير المسبق، والتقليد الأعمى للغرب أو الشيوخ، إعلاءً لقيمة العقل الإنساني.
- تفسير القرآن بالقرآن، توفي الإمام محمد عبده وهو يقوم بتفسير سورة الكهف، ولم ينتهِ من  تفسيره للقرآن الكريم كاملاً، كذلك الحال حدث للمفكر الجزائري محمد أركون، وكان قد بدأ في إعادة قراءة بعض السور القرآنية باستخدام مناهج البحث، وخاصّة اللسانيات، وقد مارس ذلك في تحليل كلٍّ من سورة الفاتحة وسورة الكهف.

ولا أنسى أن أذكر أنّ أهم مشترك بينهما هو اهتمامهما الصادق بالإصلاح الحقيقي والفاعل للمجتمعات العربية والإسلامية، وكان هذا هو الدافع الأول لتحركاتهما، في محاولة لتغيير الذهنية الحاكمة لهذه المجتمعات؛ وسواء أصابا أم أخفقا، فلا نملك لهما سوى كلّ التقدير والاحترام لمجهوداتهما المخلصة في هذا السعي الإصلاحي.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية