
تصدّر وزير الداخلية الفرنسي برونو ريتيللو واجهة المشهد السياسي الفرنسي، ليصدر نغمة قلق واضحة، لا تخلو من الحزم، وهو يُحذّر من تسارع تغلغل جماعة الإخوان المسلمين في النسيج الاجتماعي والسياسي داخل بلاده، في وقتٍ تُسجّل فيه مؤسسات الدولة حالات رصد متعددة لمظاهر تسلل التنظيم، الذي بات وفق ما كشفه ريتيللو محور نقاش أمني على أعلى المستويات.
التصريح لم يأتِ في لحظة عابرة، ولا من باب دغدغة مشاعر الرأي العام الفرنسي المتوجّس من صعود الإسلاموية السياسية، بل جاء متزامناً مع الاستعدادات الجارية داخل قصر الإليزيه لعقد اجتماع مجلس الدفاع الفرنسي في الحادي والعشرين من أيار (مايو) الجاري، برئاسة الرئيس إيمانويل ماكرون، وهو الاجتماع الذي سيُعرض فيه للمرة الأولى جزء من تقرير سرّي، أعدّته أجهزة الاستخبارات، حول مدى نفوذ جماعة الإخوان في فرنسا، وتفرعات هذا النفوذ بين ما هو دعوي ظاهري، وما هو سياسي متلبّس بالخطاب المدني، بينما يحمل في طياته بذور التمكين العقائدي والتنظيمي.
تحذير مباشر من خطر الإخوان
ريتيللو لم يُخفِ مخاوفه، بل ذهب أبعد من ذلك، حين وضع سقفاً زمنياً لما قد يحدث إذا ما استمر التغاضي، أو بطء المعالجة، وحذّر في حوار تلفزيوني من أنّ جماعة الإخوان قد تستغل الانتخابات المحليّة المقرّرة في 2026 لتكريس حضورها على الأرض، وفرض أجنداتها من خلال الدفع بمرشّحين يحملون فكرها، أو يتقاطعون معها تنظيمياً، وهو ما يعني، من وجهة نظره، الدخول في مرحلة أكثر تعقيداً من مراحل تمدّد التنظيم، إذ تنتقل الجماعة من محاولات التغلغل الصامت إلى الفعل العلني عبر صناديق الاقتراع، والتي لطالما اعتبرتها وسيلة لا غاية، وأداة لا مبدأ.
وإذا كان ريتيللو، مثل غيره من الوزراء الفرنسيين في الأعوام الأخيرة، قد استخدم مفردات الحذر والتحذير، فإنّ اللافت هذه المرة هو الربط المباشر بين التقارير الأمنية وبين البنية الانتخابية المحلية، ذلك أنّ الحديث عن اختراق القوائم الانتخابية على مستوى البلديات، يُعيد إلى الأذهان أساليب الجماعة القديمة، حين اعتمدت في بداياتها على التسلل إلى المؤسسات المحلية قبل أن تحاول القفز إلى المراكز الأعلى، مستثمرة حاجة الأحزاب التقليدية إلى أصوات جديدة، وقدرتها هي على تأمين تلك الأصوات عبر شبكات الجمعيات والمراكز الإسلامية التي تدور في فلكها. والوزير، إذ يُلوّح بهذا الخطر، يُشير إلى أنّ أكثر من (35) ألف بلدية في فرنسا باتت ساحة محتملة لظهور أسماء منضوية تحت لواء الإخوان، إمّا عبر الترشّح المباشر، وإمّا من خلال التحالفات الانتخابية التي قد تُبنى مع أحزاب فرنسية تبحث عن دعم إضافي في دوائر معينة، وهو ما يمنح الجماعة موقع التأثير دون تحمّل كلفة المواجهة المباشرة.
مواجهة النزعة التسللية
رغم هذا التشخيص القاتم، لا يترك وزير الداخلية الباب موارباً على الإحباط، بل يؤكّد أنّ فرنسا قادرة على احتواء ما وصفه بـ "النزعة التسللية"، مشيراً إلى توجّه حكومي لحظر القوائم الانتخابية التي تمثّل الإخوان، أو تنشط تحت عناوينهم المستترة، وهي خطوة ستكون غير مسبوقة في الحياة السياسية الفرنسية، إذا ما تم تنفيذها بالفعل، لأنّها تعني كسر الحلقة التي نجحت الجماعة لأعوام في تدويرها، بين المشهد الدعوي والمشهد المدني، وبين النشاط الثقافي والتمكين السياسي، وبين الحديث عن الاندماج والعمل على العزلة.
ريتيللو، في معرض حديثه، لا يفصل بين ما تقوم به الجماعة على المستوى المحلي، وبين أهدافها الكبرى، فالمسألة لا تتعلق بعدد المرشّحين أو عدد البلديات التي يمكن أن ينفذوا منها، بل تتعلق بالأثر التراكمي لنشاط الجماعة الذي يستثمر في الفضاء الديمقراطي الفرنسي ليعيد إنتاج نظام موازٍ، يقوم على مرجعية لا تؤمن بالدولة المدنية، ولا تعترف بالمواطنة الكاملة، إلا بما يخدم بقاء التنظيم وقدرته على الحركة، وهو ما يجعل من الانتخابات المحلية مدخلاً للمشروع، لا نهاية له، ويحوّل أصوات الناخبين إلى أداة مشروعة لبناء مشروع غير مشروع.
من هنا تبدو تحذيرات وزير الداخلية أقرب إلى جرس إنذار مؤسسي، ينبه إلى أنّ التهديد لم يعد نظرياً، ولا ينحصر في الخطابات أو الأدبيات الفكرية، بل صار تهديداً انتخابياً مباشراً، وهو ما يستوجب، وفق ريتيللو، إجراءات قانونية وتنظيمية صارمة، قد تبدأ بكشف التقرير السرّي، ولكنّها لن تنتهي عنده، بل تتطوّر لتشمل تعديلات محتملة على قانون الجمعيات، وربما آليات تمويل الحملات المحلية، حتى لا تتحوّل البلديات إلى مراكز نفوذ مُغلقة، تخدم رؤى شمولية تحت عباءة الشرعية الانتخابية.
تحركات رئاسية موازية
بينما ينقل ريتيللو هذا القلق إلى الرأي العام، فإنّه يفعل ذلك من موقعه كوزير للداخلية، أي كأحد المسؤولين المباشرين عن ملف الأمن الداخلي، لكنّ اللافت في المشهد هو التوازي بين تحذيراته وتحركات قصر الإليزيه، حيث يبدو أنّ الرئيس الفرنسي نفسه بدأ يتعامل مع تمدّد الإخوان بوصفه شأناً سيادياً، لا يمكن تركه لوزير أو إدارة فرعية، ممّا يُفسّر دعوة مجلس الدفاع للاجتماع، ومناقشة التقرير الأمني في أعلى مستوى تنفيذي في البلاد، وهي خطوة تُشير إلى أنّ المسألة لم تعد محصورة في وزارة أو جهاز، بل باتت بنداً مركزياً في سياسة الدولة تجاه ما يُعرف بالإسلام السياسي.
وعليه، لم يُخفِ وزير الداخلية الفرنسي قلقه من سعي جماعة الإخوان المسلمين إلى توظيف المسار الديمقراطي في فرنسا لتعزيز اختراقها السياسي، ويذهب إلى التأكيد بأنّ عام 2026 قد يشهد ذروة هذا التوظيف من خلال الانتخابات البلدية، بينما تتحرّك الدولة الفرنسية، ممثلةً في مؤسساتها التنفيذية والأمنية، لمحاصرة هذا المشروع قبل أن يتحوّل إلى أمر واقع، ضمن معادلة دقيقة تحاول فيها باريس أن تحمي ديمقراطيتها، دون أن تقع في فخ استهداف الجاليات أو التراجع عن مبادئها، وهي معادلة لا تنجح فيها الدول إلا حين تقرأ المشهد جيداً، وتُدرك الفرق بين مواطن مسلم وجماعة إخوانية، وبين خطاب ديني معتدل وآخر يسعى إلى تحويل الدين إلى أداة للهيمنة السياسية.