رأينا بما يكفي، في كثيرٍ من الأحيان، أنّ قوة الحجّة ضدّ أمر ما، تزيد من تماسكه بدلاً من أن تضعضعه!، وقد يرجع هذا لعاملين أساسيين؛ الأول يتعلّق بأنّ القيمة العاطفية للفكرة أقوى من الفكرة نفسها، حيث إننا لانصدّق من نكره حتى لو كانت أفكاره صحيحة، والثاني يعود إلى أنّ عدم الاعتراف بالفكرة، يتعلق أساساً بعدم الاعتراف والقبول بالآخر كآخر مختلف، فإنّ أيّ اختلاف يشكّل تهديداً مباشراً للأنساق التي تشكّلنا منها. لهذا أعتقد أنّ هذين العامِلَين قد لعبا دوراً حاسماً في جعل اللامعقول معقولنا الوحيد، إذ ليس من المعقول أنْ يهدر الإنسان فرصته الوحيدة في الحياة على الموت، ثم يتحصن بالسلام ليفتح الباب كاملاً على العنف، حيث لا يمكن للسلام أن يكون حصناً، فهناك دائماً ما سيتهددنا خارج أسواره.
نجحت مؤسساتنا التربوية في أن تؤدلج مفهوم السلام، وتربي في الفرد العوز الدائم إلى الأمن
من خلال تأملي بأحد نصوص الميثاق التأسيسي لليونسكو " لما كانت الحروب تتولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام" استوقفتني مفردة حصون، فأن تتحصن يعني أنك بموقف دفاع، فهل خرج السلام عن كونه الحالة الطبيعية وتحول إلى موقف دفاعي؟ وهل هذا حقاً ما نربي أطفالنا عليه؟ أن نبني في عقولهم حصون السلام؟ بالطبع إننا نفعل ذلك، بل أكثر من ذلك، ونتوهم أنّ هذا ما يجب علينا فعله، وفي الحقيقة؛ بدل أن نغذي في دواخلهم قوى السلام، نجد أنفسنا نغذي العنف.
"أتمنى أنْ يعم السلام في بلدي" أمنية تكررت على لسان الأطفال مع بداية هذا العام، فما أقبحنا أمام جمالهم!، كيف سنخبرهم أنه ليس للعنف شكلٌ واحدٌ، وأنّ انتهاء الحرب لا يعني السلام وزوال العنف، كما أنه لا ينحصر في فئة معينة تعتنق مبادئ معينة، بل إنّ العنف يهيمن على مجمل المجتمعات البشرية، وعلى معظم نشاطاتها، وهنا تكمن خطورته، ابتداءً بالعنف الجسدي كالضرب والقتل والعنف النفسي الذي يقوم على التهديد المستمر والسيطرة، والعنف الثقافي ذي الطابع التمييزي بين الأنثى والذكر، والذي تُقدّس فيه القيم الذكورية وتهمّش الأنوثة من أصلها، وصولاً إلى العنف البنيوي الذي يتم فيه التمييز على أساس الانتماء للطبقات الاجتماعية. هذه الأشكال الأبرز من العنف تتغذى باستمرار على تربيةٍ شاملةٍ، تربية لا يمكنها أنْ تنضج وتقطف ثمار السلام، تربية لا تفرّق بين القوة وبين القسوة، القوة التي لا يمكن أن تكون إلّا نتاجاً للحب والتعاون، والقسوة التي لا ينتجها إلا الضعف والخوف.
اقرأ أيضاً: "عقلية الضحية".. كيف نورثها لأطفالنا؟
نجحت مؤسساتنا التربوية في أن تؤدلج مفهوم السلام، وتربي في الفرد العوز الدائم إلى الأمن، كما أنها نجحت في حصرنا بين اتجاهين متناقضين، بحسب تعبير إيفيلين شارمو: "اتجاه يهدف إلى تنمية شخصية الفرد، ويسعى جاهداً لحمايته من كل المؤثرات والعوامل الخارجية، بغية تحقيق حريّة مزعومة، قد نرتكب لاحقاً جرائم باسمها، واتجاه تربوي يدفع الفرد إلى التأقلم مع معايير اجتماعية محددة مسبقاً، قائمة على قيم وهمية". الحرية المزعومة والقيمة الوهمية كلتاهما تحصران الفرد ضمن حصون تدّعي أنها تحقق له السلام، ولكن واقعياً ما هي إلا إغلاق لوعي الفرد ودفعه لرفض الآخر وإلغائه، فالتأقلم مع المعايير الاجتماعية بصفة إجبارية يعني: "إعطاء حقيقة كونية وغير ملموسة لما هو نسبي واعتباطي، مما يعني الحفاظ على مبادئ النظام الاجتماعي كما هي.
علينا أن نفكّر ملياً بالمردود المرعب الذي سيحصده العالم، طالما نحن مستمرون في انتهاج سياسات تربوية قاتلة
يبدو أنّ هذا ما ينتهجه الساسة لحماية نفوذهم، وبإخفاء اعتباطية هذه الأنظمة ستبدو كحياة طبيعية ومنطقية، فهذه الاعتباطية في أصلها تقوم على رفض ماهو مختلف، كما أنها تعزز اللاتسامح والعنصرية، فالخضوع يضعف الإرادة ويجعلها أكثر صعوبة، كما يجعل من المبادرة والإبداع أشياء مستحيلة، مما يؤدي إلى اضمحلال العناصر الأساسية للحرية والتفكير الذاتي. لهذا تعتقد إيفيلين شارمو: "أنّ التعليم لا يعني الاختيار بين هذين التوجهين الذي يُعتبر أحدهما أسوأ من الآخر، بل هو تعلّم كيفيّة حل التناقض الجدلي بينهما".
هل ننشد السلام؟ وإذا كنّا كذلك فما هو السلام الذي ننشده؟ وأين يمكن أن نعثر عليه؟ ببساطة؛ هذا السلام لا يمكن أن يوجد في أي مكان، لأنّ السلام هو مُنتج رئيسي للعلاقات الاجتماعية التي نصوغها بين بعضنا البعض، هو سلوك ومؤشر حيوي على قدرة الإنسان على الفهم والتعاون وعلى الارتقاء بإنسانيته، ومن الطبيعي أن تعجز الأفكار والإيديولوجيات عن إنتاجه، فنحن لا يمكن أن نعثر عليه في أية عقيدة، فالعقائد التي تتبنى السلام والمحبة كشعارات برّاقة ترتكب باسمهما أبشع الحروب وأعتى المجازر، وبهذا علينا أن ننظر بجدية إلى كانط، عندما قال:" لو كانت سعادة العالم بأسره مرهونة بقتل طفل بريء، لاعتُبر قتل هذا الطفل جريمة لا تغتفر". إنّ منطق السلام لا يمكن أن يمرّ على جثة طفل ليس له علاقة بكل ما أنتجناه، وما طرحه كانط ليس مثالية مجوّفة، إنه حقيقة البعد الإنساني الذي من واجبه أن يحتفل بالحياة ويصونها، ويقف ضد أي غايات تبرر وسائلها.
اقرأ أيضاً: كيف نخوض حرباً ضد الحرب؟
بعد كل هذا.. قد يبقى الأفق الذي تنشده التربية من أجل السلام أفقاً غائماً، طالما أنّ السلام يتناقض مع شكل الوجود الذي نصنعه ونحدده، هذا الوجود بما يعتريه من خوف وقلق، هو في النهاية الطريقة التي نتعاطى بها مع الحياة، والحياة التي يريدها الجميع ستكون في مكان آخر بتعبير "كونديرا"، طالما لم نتمكن من فهم بعضنا البعض وطالما لم نتحرر من الأفكار الخلاصية، التي لم تساهم منذ نشوئها إلّا في زيادة منسوب العنف والخوف. السلام ليس مجرّد فكرة طوباوية تدغدغ الوجود، بل هو الطريق الوحيد للحفاظ على الوجود، السلام أولاً وأخيراً هو نزع الخوف عن الحياة والارتماء في أحضانها. علينا أن نفكّر ملياً بالمردود المرعب الذي سيحصده العالم، طالما نحن مستمرون في انتهاج سياسات تربوية قاتلة، لا ترى السلام إلا من وراء الحصون.