ماذا جنى العالم العربي من غياب التسامح؟

ماذا جنى العالم العربي من غياب التسامح؟


01/10/2019

جمال سند السويدي

تعرضتُ في مقالاتي السابقة، إلى أهمية التسامح ودوره في تحقيق التماسك المجتمعي والاستقرار الداخلي في الدول والمجتمعات المختلفة، والذي يشكل بدوره ركيزة التنمية والتقدم في أي مجتمع. واستناداً إلى القاعدة التي تقول إن «الأشياء تُعرف بأضدادها»، سأفرد سطور هذا المقال للحديث عن الخسائر والفرص الضائعة، التي لحقت بالعالم العربي جرّاء غياب ثقافة التسامح وقبول الآخر، أو ضعفها.
ولعل الأمر الأول، الذي يتبادر سريعاً إلى ذهن أي قارئ، عند الحديث عن الخسائر التي ألمّت بعالمنا العربي والإسلامي، نتيجة غياب ثقافة التسامح، وأخطرها -في تقديري- يتمثل في انتشار ظاهرة العنف والتطرف والإرهاب، التي أصبحت للأسف الشديد سمة مميزة لدولنا العربية والإسلامية، على الرغم من حقيقة أن هذه الظاهرة عالمية لا تقتصر على دين محدد أو ثقافة بذاتها، وإنما عانتها مختلف الأديان والثقافات والدول على مر العصور. وهذا الأمر يمكن ملاحظته بسهولة؛ من خلال التقارير الدولية التي ترصد ظاهرة العنف والإرهاب، أو حتى من خلال المشاهدات اليومية لأخبار العالم، والتي تكشف كيف أصبح عالمنا العربي والإسلامي يشكل بؤرة أعمال العنف والإرهاب في العالم كله.
خطر الإرهاب
ففي عام 2014 على سبيل المثال، الذي شهد ذروة الأعمال الإرهابية في منطقتنا والعالم، نتيجة الصعود اللافت لتنظيم «داعش» الإرهابي وغيره من التنظيمات الإرهابية؛ كـ «القاعدة» و«الإخوان المسلمين» وغيرهما، استحوذت خمس دول عربية وإسلامية فقط، هي: (العراق وسوريا وأفغانستان وباكستان ونيجيريا) على نحو 78% من مجمل ضحايا الإرهاب في العالم، الذين ارتفع عددهم في هذا العام بنسبة 80% مقارنة بالعام السابق له؛ وفق ما جاء في إحصائيات «مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2015»، الصادر عن «معهد الاقتصاد والسلام».
وبرغم بعض التحسن، الذي شهدته منطقة الشرق الأوسط في أعمال العنف والإرهاب في السنوات اللاحقة، ولا سيما بعد إعلان القضاء على تنظيم «داعش» في معاقله بسوريا والعراق في أواخر عام 2018، وتراجع حدة الصراع الأهلي في سوريا، الذي كان يوفر البيئة المناسبة لعمل التنظيمات المتطرفة في أراضيها، واستعادة الدولة المصرية قوتها في مواجهة جماعة «الإخوان المسلمين» والتنظيمات المتطرفة الأخرى، فقد ظلت الدول العربية والإسلامية تتصدر قائمة الدول الأكثر تعرضاً للهجمات الإرهابية في العالم، واستحوذت على النسبة الكبرى من مجمل ضحايا الإرهاب في العالم، وفقاً لما توضحه إحصائيات «مؤشر الإرهاب العالمي» لعامَي 2017 و2018.
وهذا الوضع بطبيعة الحال، لم يكن من الممكن تصور حدوثه، لولا هذا السرطان الذي انتشر في جسد الأمة العربية والإسلامية، والمتمثل في التنظيمات الدينية المتطرفة، التي أسست لها جماعة «الإخوان المسلمين» وغيرها منذ عشرينيات القرن الماضي. فهذه التنظيمات تبنت لعقود طويلة خطابات تحض على الكراهية ورفض الآخر المختلف دينياً ومذهبياً، بل وتكفيره واستباحة دمه، استناداً إلى فهم مشوّه وتفسيرات مغلوطة لتعاليم الدين الحنيف، ووصلت إلى حد تكفير المجتمع بالكامل ووصفه بـ «المجتمع الجاهلي»، وفق تعبير سيد قطب، منظّر العنف في جماعة «الإخوان المسلمين»، الذي استقت جميع التنظيمات الإرهابية والمتطرفة أفكارها الإرهابية منه.
كما عملت هذه التنظيمات باستمرار على تحريض الشعوب ضد حكامها، وتقليب فئات المجتمع ضد بعضها بعضاً، ونجحت بالفعل من خلال خطاباتها التحريضية والتكفيرية في أن تزرع الفتن داخل الدول والمجتمعات التي وُجدت فيها، وتُضعِف وحدتها الوطنية ونسيجها الاجتماعي. ولم تكتفِ بذلك، بل قامت باستخدام العنف المباشر عبر تنفيذ العديد من الهجمات الإرهابية داخل الدول والمجتمعات التي توجد فيها أو في خارج حدودها، مبقية هذه الدول تعاني تبعات العنف والتخلف والرجعية.
لقد لعبت الجماعات الدينية المتطرفة، الدور الأكبر في تغييب ثقافة التسامح وقبول الآخر في العديد من دولنا العربية والإسلامية، واستبدال خطابات الكراهية والتطرف بها، في حين أسهم غياب ثقافة التسامح في توفير الظروف المناسبة لبقاء هذه الجماعات ونموها وانتشارها في هذه الدول، التي أصبحت تدور في حلقة مفرغة من التطرف وعدم التسامح.
ضرب التماسك المجتمعي
والأمر الثاني الخطير، الذي خلّفه غياب ثقافة التسامح، يتمثل في الغياب المدمر للتماسك المجتمعي والسلم الأهلي في العديد من الدول والمجتمعات العربية والإسلامية، ولا سيما تلك المنقسمة طائفياً أو عرقياً أو قبلياً أو حتى أيديولوجياً، فلا خلاف على حقيقة أن التنوع العرقي والديني والثقافي والقبلي هو سمة طبيعية لمعظم الدول والمجتمعات، لكن ما يفرق بين المجتمعات وبعضها الآخر هو مدى سيطرة ثقافة التسامح وقبول الآخر، فإذا كانت هذه الثقافة راسخة في المجتمع، فإنها تسهم في تحويل هذا التنوع إلى عنصر قوة للمجتمع، أما إذا غابت ثقافة التسامح، وحلت بدلاً منها خطابات الكراهية وعدم قبول الآخر المختلف عرقياً أو دينياً أو ثقافياً، فإن المجتمع عادةً ما ينزلق إلى الصراعات الأهلية والاحتراب الداخلي، الذي يهدد وحدته ونسيجه الاجتماعي.
وفي عالمنا العربي، أدى غياب ثقافة التسامح، نتيجة خطاب الكراهية الذي تغذيه جماعات الإسلام السياسي -والخطاب الطائفي، الذي تغذيه بعض القوى المحلية والإقليمية، إضافة إلى السياسات الداخلية التي انتهجتها بعض حكومات المنطقة في السابق، والتي لم تعط اهتماماً لجهود تعزيز قيم المواطنة وحكم القانون داخل دولها، بل وانتهاج سياسات تقوم على تمييز بعض الفئات أو الطوائف أو القبائل على حساب غيرها لاعتبارات سياسية ومصلحية، إلى تحويل التنوع البشري والثقافي في العديد من المجتمعات العربية، الذي هو مصدر غنى وقوة لها، إلى عامل إضعاف لهذه المجتمعات وتفتيت لها. وقد لمسنا هذا بوضوح في العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين عام 2003، وفي لبنان قبل ذلك خلال حقبة الحرب الأهلية (1975- 1990)، وفي السودان بين الشمال المسلم والجنوب المسيحي، قبل أن تستفحل موجة الكراهية والتطرف بعد الاضطرابات التي شهدتها المنطقة العربية في إطار ما سمي بـ «الربيع العربي»، الذي لم يكن في واقع الأمر سوى ربيع للجماعات المتطرفة والطائفية، التي حاولت استغلال هذه الاضطرابات للانقضاض على الدولة الوطنية في أكثر من بلد عربي، لتحوله إلى مجرد كيانات قبلية وطائفية وعرقية متناحرة ومتصارعة، كما حدث في ليبيا وسوريا واليمن وغيرها من دول المنطقة.
الفرص التنموية الضائعة
ويتعلق الأمر الثالث، بالفرص التنموية الضائعة، التي لم يستفِد منها العالم العربي، بسبب غياب ثقافة التسامح، وما ترتب عليها من انتشار للعنف والصراعات والاضطرابات السياسية والأمنية، وهي فرص هائلة بكل المقاييس كان من الممكن أن ترفع معدلات التنمية والنمو في البلدان العربية بصورة كبيرة، إذا تم استثمارها بفاعلية. فمن ناحية أولى، هناك الخسائر الاقتصادية الضخمة التي تتكبدها دول المنطقة نتيجة أعمال العنف والتطرف والكراهية؛ فعلى سبيل المثال، قدر تقرير دولي للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا «إسكوا»، التابعة للأمم المتحدة -صدر في نوفمبر 2016- حجم الخسائر التي تكبدتها الدول العربية، بسبب موجة الاضطرابات التي شهدتها منذ العام 2011، بفعل موجة الإرهاب والكراهية والصراعات الأهلية الناجمة عن صعود التنظيمات المتطرفة والطائفية، بنحو 614 مليار دولار خلال الفترة من عام 2011 إلى عام 2015، وهي تعادل نحو 6 % من الناتج المحلي الإجمالي في المنطقة في الفترة نفسها، في حين قدر تقرير صدر عن المنتدى الاستراتيجي العربي في دبي نهاية عام 2015 هذه الخسائر بنحو 833.7 مليار دولار، تشمل خسائر إعادة البناء والناتج المحلي والسياحة وأسواق الأسهم والاستثمارات، بالإضافة إلى إيواء اللاجئين.
ومن ناحية ثانية، هناك الموارد المالية الضخمة التي وجهتها العديد من الدول العربية لمواجهة الجماعات الإرهابية واحتواء أعمال العنف والكراهية، فهذه الموارد المالية تشكل فرصاً ضائعة لاقتصادات هذه الدول، حيث كان من الممكن توجيهها إلى قطاعات أخرى تعزز جهود التنمية والتطوير، فعلى سبيل المثال قدر تقرير لمعهد السلام والاقتصاد (IEP)، صدر في عام 2017 تكاليف احتواء العنف والتطرف في سوريا والعراق في عام 2016، بنسبة تزيد على 50% من حجم الناتج المحلي الإجمالي في البلدين، ووصلت هذه النسبة إلى 25% في ليبيا، و19% في اليمن، و9% في مصر.
كوارث بشرية
ومن ناحية ثالثة، أدى غياب ثقافة التسامح في المنطقة العربية، وما ترتب عليه من حروب وصراعات أهلية وطائفية وأعمال عنف وإرهاب، إلى نتائج إنسانية وبشرية كارثية بكل معنى الكلمة، وغير مسبوقة في تاريخ المنطقة العربية؛ ففي عام 2015 على سبيل المثال، أشارت التقديرات إلى أن نحو 143 مليون عربي كانوا يعيشون في بلدان تعاني ويلات الحرب أو العنف والإرهاب، وأن نحو 17 مليوناً طردوا قسراً من منازلهم، وبينما شكل العرب 5% فقط من سكان العالم، إلا أنهم شكلوا في هذا العام أكثر من 50% من لاجئيه.
ومن ناحية رابعة، كان لغياب ثقافة التسامح وقبول الآخر وتزايد أعمال العنف والإرهاب، أثر في تراجع معدلات السياحة في العالم العربي بنِسب كبيرة، ولا سيما أن أعمال الإرهاب كانت توجه بالأساس إلى استهداف الأجانب والمنشآت السياحية، كما كان لها أثر في تراجع معدل الاستثمارات الأجنبية في المنطقة، بل وهروب رؤوس الأموال التي كانت قد وردت للمنطقة في سنوات سابقة إلى وجهات أخرى أكثر استقراراً وتسامحاً مع الأجانب؛ ما أثر سلباً في معدلات النمو الاقتصادي في الكثير من الدول العربية، ولا سيما تلك التي تعتمد على السياحة ورؤوس الأموال الأجنبية.
صورة الإنسان العربي
والأمر الرابع، الذي أعتقد أن العالم العربي تأثر به سلبياً بصورة كبيرة جراء غياب ثقافة التسامح يتعلق بجانب الصورة؛ أي صورة الدول العربية والإنسان العربي في أذهان الشعوب والثقافات الأخرى، ولا سيما في الغرب، فهذه الصورة للأسف تبدو سلبية للغاية، فصورة العربي أصبحت مرادفة في أذهان كثيرين في الغرب لصورة «الإرهابي» و«المتطرف»، وهي الصورة التي نجح الإعلام الغربي في ترويجها وترسيخها في أذهان مواطنيه، منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، ثم تعززت بعد تفاقم ظاهرة التطرف والإرهاب في المنطقة بعد اضطرابات عام 2011.
وبطبيعة الحال، لا يمكن تعميم هذا الوضع العام على كل الدول العربية والإسلامية، التي تتباين فيما بينها بصورة ملحوظة، من حيث مدى ترسخ ثقافة التسامح من عدمها، ولا ينطبق هذا الوضع بالتأكيد على دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تمثل نموذجاً استثنائياً في العالم العربي، بل والعالم كله، في التنمية والتسامح وقبول الآخر، كما أوضحتُ في مقالاتي السابقة، لكن هذا النموذج الاستثنائي المضيء الذي تشكله دولة الإمارات العربية المتحدة لا ينفي الصورة العامة السلبية من غياب ثقافة التسامح أو ضعفها على المستوى العربي، والذي تجسده بوضوح مظاهر العنف والتطرف والإرهاب والصراعات الأهلية والطائفية التي تمزق جسد كثير من الدول العربية والإسلامية، والتي تغذيها بالدرجة الأولى التنظيمات الدينية المتطرفة المنتشرة فيها، والتي تنشر خطابات الكراهية والتطرف. والمَخرج -في تقديري- لن يكون إلا بالمواجهة الجادة والجماعية لهذه التنظيمات المتطرفة، وتعزيز الخطاب الديني المعتدل الذي يحض على قيم التسامح والعيش المشترك، وتجريم كل مظاهر الكراهية والفكر المتطرف وصورها، وترسيخ مبدأ سيادة القانون الذي يخضع له الجميع من دون تمييز على أي أساس عرقي أو ديني أو طائفي، وإعلاء مبدأ المواطنة. ويمكن اختصار كل ذلك بالقول إن المَخرج يكمن في تطبيق النموذج الإماراتي في التسامح، وتعميمه عربياً.

عن "الاتحاد" الإماراتية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية