لماذا يرفض "الإخوان" الاندماج في التجربة الإنسانية؟

لماذا يرفض "الإخوان" الاندماج في التجربة الإنسانية؟


17/10/2020

يقول المثل المصري "من على رأسه بطحة يحسس عليها"، ويعني؛ أنّ من يأخذ الانتقاد العام على شخصه، فهو يقرّ باستحقاقه ذاك الانتقاد، وهو ما فعلته جماعة الإخوان المسلمين مع خطاب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، حول محاربة النزعة الانفصالية الإسلامية، لدى فئات محددة من المسلمين في فرنسا، ممن يتغذون على أفكار الجماعات الإرهابية والإسلام السياسي.

إصرار الإخوان المسلمين والإسلام السياسي على خطاب انعزالي إلى صدام بين المسلمين، والمجتمعات الأوروبية التي يعيشون فيها، مثل الحروب الدينية - العرقية التي شهدتها البلقان

وأكّدت جماعة الإخوان، بانتقادها خطاب ماكرون، الذي لم يسمّها، أنّ خطاب الرئيس الفرنسي، بحسب وصف نائب المرشد، إبراهيم منير؛ "اعتداء على الإسلام، وجرح لمشاعر المسلمين"، على نزعتها الانفصالية، ورفضها للاندماج وفق قيم الجمهورية الفرنسية، وأنّها تعاني من انفصالية شعورية، عن مؤسسات وقيم الجمهورية، وتريد الانفصال بالمسلمين عن الدولة، ليعيشوا حياة أقرب إلى حياة الملل والطوائف في العصور الوسطى، حين كانت الدولة تترك لكلّ طائفة دينية حرية العيش وفق قيمها، ورؤيتها الدينية، المختلفة عن قيم الدولة السائدة.

لكنّ ما فات الإخوان، أو ما لا يريدون الإقرار به؛ هو أنّ حياة الطوائف، سواء في العالم الإسلامي أو غيره، كانت تعني اللا مواطنة، والعيش كإنسان من الدرجة الثانية، يعاني من التمييز والاضطهاد، وما يناله من تسامح لا ينبع من سياسة عامة؛ بل وفق مزاج الحاكم الفرد، وربما يريد الإخوان ذلك، طالما سيكونون هم قادة الطائفة المسلمة، لكن لا يمكن إحياء هذه النماذج في العالم الحديث، الذي يعيش فيه كلّ إنسان كمواطن متساوٍ في الحقوق والواجبات، دون تمييز على أساس الدين أو العرق أو اللون، رغم ما يشوب تطبيق ذلك من شوائب.

اقرأ أيضاً: الإخوان.. لا أحد يراهن على جواد خاسر

ويتناسى الإخوان أنّه بمنطق العصور الوسطى، لو ارتكب شخص من الأقلية الدينية جرماً بحقّ الأغلبية، أو مقدساتها، لطال العقاب كلّ الطائفة، وهو ما لا يحدث في العالم الحديث، الذي يحاسب الفرد فقط على أخطائه، لكنّ خطاب التطرف والانفصال الإخواني يدفع اليمين المتطرف إلى المناداة بمعاقبة كلّ المسلمين، وهي ردة يتحمل الإسلام السياسي وعلى رأسه الإخوان مسؤوليتها.

اقرأ أيضاً: تفاصيل المشروع السري للإخوان بفرنسا.. وما حقيقة الدعم القطري؟

ولم يبقَ أمام الإخوان سوى خيار الاندماج الفاعل، دون نفاق، أو ازدواجية في الخطاب؛ بين خطاب التسامح والتعايش أمام الآخر، وخطاب الانفصال والكراهية للمسلمين، فلن تقبل أوروبا بأن تتحوّل على يد الإخوان والجماعات الإسلامية المتطرفة إلى دولة من العصور الوسطى، لكنّهم، بأيديولوجيتهم الحالية، لا يستطيعون الاندماج.

لماذا غضب الإخوان؟

يدرك المستمع العاقل لخطاب ماكرون، الذي جاء تحت عنوان "مواجهة النزعة الانفصالية الإسلامية"، في الثاني من الشهر الجاري، أنّ المقصود بالخطاب ليس الإسلام ذاته كدين، أو كلّ المسلمين في أوروبا، بل أصحاب النزعات الانفصالية عن الجمهورية الفرنسية، الذين يريدون العيش وفق نماذج حياتية تعادي حقوق الإنسان، وحقوق الدولة، باسم الإسلام.

ولا ترفض العلمانية أن يعيش إنسان حياته وفق رؤية دينية ما، وإن كانت متشدّدة، لكن ترفض أن تُفرض هذه الرؤية على الآخرين، خصوصاً الأطفال، ولو عاش رجل مسلم بقيم متشدّدة في فرنسا، لن يطالبه أحد بتغيير قيمه، لكنّه سيعاني من الانفصال عن المجتمع، الذي لن يغيّر قيمه لتتواكب مع هذا الشخص.

وما سبق لبّ المشكلة التي طرحها ماكرون، وهي قيام حركات إسلامية وأفراد منتمين لجماعات الإسلام السياسي، بنشر قيمهم، والدعوة إلى الانفصال عن المجتمع الفرنسي وقوانينه، عبر المطالبة بتطبيق قوانين تمييزية ضدّ المرأة، باسم الإسلام، وهي لا تعدو كونها رؤية تحقيرية للمرأة، تلتحف باسم الإسلام.

وفي إطار ذلك؛ طرح ماكرون خطة عمل لمواجهة الانفصالية الإسلامية، ترتكز على مكافحة أيّة مطالب تغذّي الشعور بالانفصال، لدى الأطفال المسلمين في المدارس، أو على مستوى الخدمات العامة، مثل المطالبة بالفصل بين الجنسين في المسابح العامة، وتقديم وجبات خاصة لطلاب المدارس.

الباحث أحمد زايد لـ"حفريات": الإخوان يعيشون في ازدواجية، كما جاء في بيان مرشدهم: "الإخوان مع فكرة سيادة الله فوق أحكام البشر"، ثم قال: "الإخوان يحترمون قوانين الدول

وتتضمن خطة ماكرون مكافحة خطاب التطرف الذي تغذيه الجمعيات والمراكز الإسلامية، والتي يهيمن الإخوان والسلفيون على أغلبها، عبر التدقيق في تمويل وأنشطة هذه الجمعيات، ومنع استقدام الأئمة من تركيا والجزائر، واستبدالهم بأئمة فرنسيين، يدرسون في مراكز إسلامية، تعدّ لذلك، وتعمل على إنتاج خطاب إسلامي حداثي، يتوافق مع القيم العصرية للإنسانية.

ولم يخرج ماكرون على الشعب بهذا الخطاب من فراغ؛ فمنذ عام 2015، تعرّضت فرنسا إلى 69 هجوماً إرهابياً، على يد مواطنين مسلمين، خلّفوا 258 قتيلاً، ومئات المصابين، دون جريمة من الفرنسيين في حقّهم، وحتى إن وجد تمييز أو تهميش من الحكومة بحقّ بعض المسلمين، فهل يكون الحلّ بتبنّي أفكار إرهابية، وقتل المسالمين ودهسهم في المسارح والشوارع.

فعلام إذاً غضبت جماعة الإخوان من الخطاب، حتى يخرج القائم بأعمال المرشد العام، إبراهيم منير، ببيان، يؤكد فيه وللرئيس، "وللشعب الفرنسي، ولكلّ شعوب الأرض؛ أنّ فكر جماعة الإخوان النابع من دينها، الذي يلتزم به أصحابه، قد انتصر على تجاوزات بعض الأنظمة التي تتعمّد دفعهم إلى التخلي عنه، بتجاوزات غير قانونية وغير إنسانية، بغية تشويهه، والجميع يعلمها ويتابعها".

اقرأ أيضاً: الإخوان المسلمون يحرفون تصريحات مفتي مصر ... ما علاقة ماكرون؟

ومن حيث لا يقصد، دان مرشد الإخوان الجماعة، فأقرّ بأنّ لها فكراً يتصادم مع الدولة الفرنسية، وأنّه المقصود بقانون مكافحة الانفصالية، وأنّ كلّ نقد قاله ماكرون ينطبق على أفراد الجماعة، الذين يؤيدون فصل أسرهم عن المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها، ثمّ يتحوّل بعض أبنائهم إلى إرهابيين، يقتلون ويدهسون بعد ذلك.

وفي فقرة أخرى من بيان المرشد، أكّد أنّ رؤيتهم الانعزالية باسم الدين، هي جزء من قيم الحرية وحقوق التعبير، ما يؤكّد أنّ الإخوان يبتزون أوروبا باسم الحرية، فهم يريدون أن يستغلّوا مناخ الحرية في تقويض الحرية ذاتها، عبر التذرّع بأنّها تكفل لهم العيش وفق نموذج انفصالي، يُلقي بالشباب في أتون الإرهاب.

الانعزالية الشعورية عند الإخوان

ويعيش الإخوان المسلمون عزلة شعورية عن جميع المجتمعات؛ سواء العربية والإسلامية، أو الغربية، أو غيرها، وهو جزء أصيل في تربية أفراد الجماعة، فلا ينخرطون في المجتمع إلا بما يحقق لهم غايتهم الكبرى، وهي السيطرة، وفرض رؤيتهم الحياتية.

اقرأ أيضاً: كيف اخترقت جماعة الإخوان الجالية المسلمة في فرنسا؟

وحول ذلك، يقول الباحث في العلوم الاجتماعية، أحمد سعد زايد: "الإخوان، وأيّ تيار أصولي يرفض أيّ اندماج في التجربة الإنسانية، يريدون فرض تصوّرهم عن أستاذية العالم، والسيطرة على العالم لصالح معتقداتهم، وكلّ فكر إنساني آخر لا قيمة له عندهم، ويرون أنّه ضلال من البشرية، ويرفضون الدولة، بكلّ أشكالها، وهي طاغوت وفق توصيفهم الديني، لا بدّ من الخلاص منه".

ويتابع زايد في تصريح لـ "حفريات": "لذلك من الطبيعي أن ينزعجوا من خطاب ماكرون، وكلّ شخص يواجههم بحقيقة أفكارهم، فهم يريدون أن يتركهم الآخرون ينفذون أجنداتهم، دون أيّة مضايقات، وإن لم يفعل، يُتَّهم بأنّه يعادي الحرية".

وفي كتاب "معالم في الطريق"، وصم سيّد قطب جميع المجتمعات البشرية بالجاهلية، وطالب بالانعزال عن تصوّراتها وتقاليدها، وقال: "ليس لنا أن نجاري الجاهلية في شيء من تصوّراتها، ولا في شيء من أوضاعها، ولا في شيء من تقاليدها، مهما اشتدّ الضغط علينا، حين نعتزل الناس؛ لأنّنا نحسّ أنّنا أطهر منهم روحاً، أو أطيب منهم قلباً، أو أرحب منهم نفساً، أو أذكى منهم عقلاً".

اقرأ أيضاً: ماكرون... قيم الجمهورية والجلبة "الإخوانية"

أما عن كيفية التعامل في ظلّ تلك العزلة، فيقول قطب: "إنّ العظمة الحقيقية أن نخالط الناس مشبعين بروح السماحة والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم، وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم، ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع، ليس معنى هذا أن نتخلّى عن آفاقنا العليا ومثلنا السامية، أو أن نتملّق هؤلاء الناس، ونثني على رذائلهم".

ويتكشّف من كلام قطب؛ أنّ الإخوان يتعاملون بنفاق وازدواجية مع المجتمعات التي يعيشون فيها، فإذا كان كلام قطب وهم في مجتمعات ذات غالبية مسلمة، فكيف الحال وهم في فرنسا أو أوروبا؟!

ويعلّق زايد على كلام قطب: "النزعة الانفصالية الشعورية موجودة عند الإخوان، وصاغها ونظّر لها سيد قطب، في كتبه، حين طالب بالعزلة الشعورية عن المجتمع الجاهلي، حتى ينشأ جيل فريد يسيطر على العالم، وهي فكرة لدى جميع أطياف الإسلام السياسي، وهذا ما يؤثّر في اندماجهم في المجتمعات التي يعيشون فيها؛ سواء مسلمة أو غير ذلك، فهم لا يريدون الاندماج، بل السيطرة وإخضاع الآخرين لتصوراتهم عن الحياة".

الإخوان وتغذية الإسلاموفوبيا

ولم يقتصر رفض الإخوان لخطاب ماكرون على بيان القائم بأعمال المرشد، بل كُتبت مئات المقالات التي تهاجم فرنسا، وماكرون، وهاجم الرئيس التركي، أردوغان ماكرون، وقال: "تصريح ماكرون بأنّ (الإسلام متأزم) في مدينة ذات كثافة سكانية مسلمة استفزاز صريح، فضلاً عن كونه قلّة احترام".

واستعاد كتّاب من الإخوان سرديات من زمن الاستعمار لمواجهة ماكرون، وأعادوا الحديث عن مؤامرات الغرب ضدّ الإسلام، محوّلين القضية من زمان ومكان محددين، إلى أبعاد ماضوية، تؤدي لتأزيم الواقع، لا أكثر.

ولم يسلم حتى العقلاء من المسلمين من هجومهم، ففي لقاء تلفزيوني، لمفتي مصر، شوقي علام، أقرّ الرجل بأنّ المسلمين يعيشون أزمة في الغرب، بسبب انتشار التطرف بينهم، والتحاق الآلاف من أبنائهم بداعش في سوريا والعراق وغيرها. واتّهم المفتي معظم المراكز الإسلامية في أوروبا بنشر التطرف، وهي حقيقة معروفة، ورصدتها المراكز البحثية الغربية والعربية.

لكنّ لم يسلم المفتي منهم، وحرّفوا كلامه، واتهموه بأنّه يصف نصف المسلمين في أوروبا بالدواعش.

فإذا كان ذلك حال أكبر جماعة تسيطر على المراكز الدينية الإسلامية في أوروبا، فمن الطبيعي أنّ تتنامى ظاهرة الإسلاموفوبيا، خاصة بعد أن فقه الأوروبيون ازدواجية خطاب الإسلام السياسي، وباتوا يترجمون خطابهم باللغة العربية، وهو ما حصل مع خطاب إبراهيم منير، الذي وصفته صحف فرنسية عدّة؛ بأنّه هجوم وتحريض على الرئيس ماكرون والدولة الفرنسية.

وعن توصيف ماكرون لأزمة الإسلام، يقول أحمد سعد زايد: "الإسلام حقيقةً في أزمة، وكثير من رجال الدين يعلمون ذلك، وربما يختلفون في كيفية علاجها، لكنّ المتفق عليه أنّ هناك أزمة في الفكر الديني".

اقرأ أيضاً: لإخوان المسلمون بين العزلة الشعورية وأرض الحياد: قراءة في خطاب ماكرون

ويردف زايد، لـ "حفريات": "الإخوان يعيشون في ازدواجية، كما جاء في بيان مرشدهم؛ حين قال "الإخوان مع فكرة سيادة الله فوق أحكام البشر"، ثم قال: "الإخوان يحترمون قوانين الدول التي يعيشون فيها"، وإلى جانب ذلك، فالإخوان يحتكرون الحديث باسم الله، ويظنّون أنّ تفسيرهم للدين هو الوحيد الصحيح، الذي يجب أن يسير على هديه كلّ مسلم".

ويتوقع زايد؛ أن يؤدّي إصرار الإخوان والإسلام السياسي على خطاب انعزالي إلى صدام بين المسلمين، والمجتمعات الأوروبية التي يعيشون فيها، مثل الحروب الدينية - العرقية التي شهدتها البلقان، ولا بديل سوى اندماج حقيقي للمسلمين، ولن يتأتى ذلك إلا بالتخلص من أفكار الإسلام السياسي والأصولية الدينية.

وشهدت فرنسا، منذ عام 2015، هجمات إرهابية مروّعة، راح ضحيتها المئات، وبلغ عددها 69 هجوماً، حتى الشهر الجاري، ومنها؛ هجوم شارلي إيبدو، عام 2015، الذي خلّف 17 قتيلاً، وهجمات باريس، في العام نفسه، وخلّفت 130 قتيلاً و430 مصاباً، ومجزرة نيس عام 2016، وخلفت 86 قتيلاً و458 مصاباً، كما تعرّضت مساجد إلى حوادث إرهابية، نفّذها اليمين المتطرف.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية