لماذا يخسر التيار المدني في العراق؟ هل يصب قانون الانتخابات في صالح الإسلاميين فقط؟

لماذا يخسر التيار المدني في العراق؟ هل يصب قانون الانتخابات في صالح الإسلاميين فقط؟

لماذا يخسر التيار المدني في العراق؟ هل يصب قانون الانتخابات في صالح الإسلاميين فقط؟


27/12/2023

لم يدر في خلد القوى المدنية التي شاركت في العملية السياسية التي انبثقت بعد نيسان (أبريل) 2003، أن تكون خارج السلطتين التنفيذية والتشريعية، وغير فاعلة في صناعة القرار السياسي للنظام "الديمقراطي" الحاكم في العراق. عملَ المدنيون الديمقراطيون مع الإسلاميين على تشكيل جبهة معارضة موحدة ضد نظام حزب البعث، وسلطة الرئيس الأسبق صدام حسين، كما شارك الطرفان مع الغزو الأمريكي في الإطاحة بمنظومة "البعث" التي حكمت البلاد على مدار (35) عاماً بقبضة من حديد. 

كان للعلمانيين دورٌ فاعل في مجلس الحكم الانتقالي (2004)، والحكومة المؤقتة برئاسة الليبرالي إياد علاوي (2005)، لكن مع فوز قوى الإسلام السياسي الكاسح في أول انتخابات تشريعية، أضحى العلمانيون خارج معادلة الحكم التي قامت على قواعد طائفية وقومية، ليس للعلمانيين مساحة للتفاعل معها؛ وهو ما جعلهم في خانة المعارضة البرلمانية التي أصبحت تتلاشى مع انبثاق أكثر من دورة برلمانية جديدة، كيف؟ وماذا فعل الإسلاميون لمنع القوى المدنية من إثبات حضورها الانتخابي والنيابي فيما بعد؟ وهل يلعب الطرفان ضمن قواعد سياسية منصفة لهما؟ 

تعديل القانون الانتخابي

حضر العلمانيون بمقاعد وازنة خلال الدورة النيابية الأولى، التي تمخضت عن الانتخابات التشريعية في عام (2005)، وهي أول انتخابات تشريعية ديمقراطية حقيقية في تاريخ العراق الجمهوري (1958-2005)، حيث يسمح النظام الديمقراطي التعددي بمشاركة جميع القوى السياسية الفاعلة، وغير الفاعلة، في العمل السياسي، والاحتكام لصناديق الاقتراع دون تدخل السلطات الحاكمة في النتائج فيما بعد. وهذا ما جعل لجميع الطوائف، والمكونات، والهويات الإيديولوجية، تمثيلاً على صعيد البرلمان الاتحادي أو مجالس المحافظات المحلية. 

قوى التغيير الديمقراطية آخر المظلات السياسية التي تضم القوى المدنية التقليدية والناشئة عن حراك تشرين الاحتجاجي

وجاءت الانتخابات الأولى بفوز كاسح للقوى الإسلامية التي تمكنت من ضخ الخطاب الطائفي في مشاعر المكونات المضطهدة في عهد سلطة الرئيس الأسبق صدام حسين، وتمكنت من خلال نغمة الطائفية التي اعتمدها التشيع السياسي، والنغمة القومية التي برع في تفعيلها حليفه الكردي، من الهيمنة على إدارة السلطتين التشريعية والتنفيذية. كما أدامت إفرازات الحرب الأهلية المؤقتة (2006-2008)، الخطاب الطائفي الذي أخذ يعمل بقوة في الانتخابات البرلمانية الثانية، ومنح الإسلاميين فوزاً كاسحاً أيضاً، ولكن هذه المرة بالاشتراك مع قوى الإسلام السياسي السنّي، التي قررت المشاركة الانتخابية بعد مقاطعتها الدورة الأولى لعدم قناعتها بالنظام السياسي الجديد. 

 

جاءت الانتخابات الأولى بفوز كاسح للقوى الإسلامية التي تمكنت من ضخ الخطاب الطائفي في مشاعر المكونات المضطهدة في عهد سلطة الرئيس الأسبق صدام حسين

 

وتقلّصَ دور العلمانيين أكثر في الدورة البرلمانية الثانية، حيث لا مجال للخطاب الليبرالي واليساري خصوصاً، والمدني عموماً، في ذلك المناخ الصاخب بالعنف الطائفي بين الشيعة والسنّة تحديداً. وقد استثمر الإسلاميون وجودهم في الدورة النيابية الأولى، وتمكنوا من تعديل قانون الانتخابات، وجعل البلاد دوائر متعددة بعدما كانت دائرة انتخابية واحدة، وهو قانون يقوم على أساس مكوناتي ديموغرافي، يمنح القوى الطائفية والمناطقية قوة الحضور النيابي في كل موسم انتخابي جديد، لاسيّما أنّ الديموغرافيا العراقية مقسّمة على أساس الهويات المذهبية والقومية، وهو ما جعل شمال البلاد كردياً، وغربه سنّياً، ووسطه وجنوبه شيعياً، ومع تثوير خطاب الشحن القومي والطائفي في تلك المساحة من البلاد، تكون الغلبة الانتخابية دائماً لمن يمثل تلك العقائد.

بالفعل، عبر ذلك القانون الانتخابي المُعدّل تقلص حضور القوى المدنية في البرلمان العراقي في الدورات البرلمانية التي تلت، وصولاً إلى الدورة الحالية، ونتائج الاقتراع المحلي الأخير.

  الاستثمار في المدنية

أثبت المدنيون حضورهم من خلال قيادة الشارع الاحتجاجي فقط، وتمكنوا من إدارة الصراع الميداني مع الإسلاميين الماسكين بالسلطة، وتحديداً التحالف الإسلامي الشيعي، وحليفه الحزب الإسلامي العراقي، وبدأت تلك الاحتجاجات تزعج الإسلاميين وهم في سدة الحكم قرابة العقد من الزمن، حيث انخرط الكثير من الشباب المثقف في أولى الاحتجاجات التي بدأت في شباط (فبراير) 2011، ومن هذا الوقت بدأت سُنّة الاحتجاج تعتمد لدى أغلب العراقيين الذين كانوا لا يعرفون التظاهر السلمي والاحتجاج في عهود الأنظمة الديكتاتورية السابقة. وتطورت تلك الاحتجاجات وصولاً إلى الاحتجاجات الواسعة في أعوام (2015-2018)، وهي احتجاجات ضاغطة طالبت بإصلاح النظام، ودخل على الخط أيضاً (التيار الصدري)، أكبر القوى الإسلامية الشيعية في العراق. 

قوى التحالف المدني الديمقراطي تفشل بالظفر في مقاعد بمجالس المحافظات الأخيرة

ترحيب القوى المدنية بالصدريين كان من باب توسيع الاحتجاجات الشعبية، لأنّ التيار الصدري يمتلك قاعدة جماهيرية واسعة، بإمكانها أن تهدد المنظومة الحاكمة، وإرباك النظام الهش. لكنّ نوايا التيار وزعيمه مقتدى الصدر كانت تهدف إلى الاستثمار في الهوية المدنية، وكسب مشروعية وطنية من خلالهم، ومحاولة تجميل الماضي الطائفي المسلح الذي خاضه الصدريون في أتون الحرب الأهلية في الأعوام الأولى من عمر النظام. 

اقتراح الائتلاف بين الصدريين والمدنيين في تحالف انتخابي موحد شطرَ القوى المدنية إلى نصفين، حيث رفض البعض منهم الاندماج مع الصدريين لخلاف فكريّ وسلوكيّ يجمعهم مع الأخير، بينما علل المندمجون، وتحديداً (الحزب الشيوعي العراقي)، أنّ الاندماج يقوم على أساس تحالف انتخابي وطني، لمواجهة القوى الإسلامية المدعومة من إيران، وهذا ما جعل القوى المدنية تنزل في انتخابات 2018 بـ (3) قوائم انتخابية، لم تثمر سوى عن مقاعد قليلة، بينما تضاعف حضور التيار الصدري على حساب القوى المدنية المتحالف معها. وتمكن مقتدى الصدر من أن يطرح نفسه زعيماً وطنياً مناهضاً للتدخل الخارجي في العراق، وعرّاب بناء الدولة والقانون، جاء ذلك بفضل تكتيكاته السياسية، واستثماره في المفاهيم الوطنية المدنية، والاستثمار في الحلفاء الذين يرفعون لواء التمدن السياسي. 

الانتخابات الأخيرة 

بعد مقاطعة سائر القوى المدنية العراقية للانتخابات التشريعية في 2021، كان التنافس يدور بين القوى الإسلامية فقط، علماً أنّ هناك مشاركة مدنية ناشئة تحسب لحركة (الامتداد الوطني)، وهي حركة سياسية ناشئة من رحم احتجاجات تشرين الأول (أكتوبر) التي أسقطت حكومة عادل عبد المهدي، ومهدت لحكومة مصطفى الكاظمي. رأي القوى المدنية بالمقاطعة أربك الحضور المدني في البرلمان الجديد، على الرغم من صعود شخصيات مدنية للدورة النيابية الجديدة، ولكن بعناوين مستقلة، ذات طابع مناطقي أحياناً، وتشريني في أحايين أخرى. 

 

استثمر التيار الصدري في الهوية المدنية، وكسب من خلالها مشروعية وطنية، وتمكن من محاولة تجميل الماضي الطائفي المسلح الذي يعود إلى أعوام الحرب الأهلية

 

حضور الإسلاميين في مجلس النواب الأخير كان حضوراً قوياً، ومثل أغلبية ساحقة، كما كان الحال في الدورتين النيابيتين الأولى والثانية. وتمكن الصدريون من خلال وجودهم المكثف في البرلمان السابق من تغيير قانون الانتخابات وجعل المحافظة الواحدة دوائر انتخابية متعددة، ممّا منح فوزاً للمرشحين المستقلين، وهي فرصة كانت متاحة للقوى المدنية للظفر بالحضور النيابي المقبول، لكنّ رأيهم في المقاطعة الانتخابية عاد عليهم بالتراجع النيابي حينذاك. 

مع انسحاب الصدريين من البرلمان الحالي، احتجاجاً على عدم إناطتهم مهمة تشكيل الحكومة، وتوسع مقاعد الإسلام السياسي الشيعي الموالي لإيران، استثمر الأخير فرصة الأغلبية العددية من جديد، وتمكن من تعديل القانون الانتخابي لمرة ثالثة، وإعادته كما كان عليه سابقاً، أي جعل المحافظة الواحدة دائرة انتخابية واحدة، ومن ثم النزول بانتخابات مجالس المحافظات الأخيرة، والتي قرّرت نصف القوى المدنية المشاركة فيها، تحت مسمّى (تحالف قيم المدني)، لكنّ النتائج جاءت خلاف المتوقع، حيث جاء الحضور المدني في المجالس المحلية بأقلّ من 10%، وهي خسارة مدوية لم يتوقعها المدنيون في ظلِّ تذمر الشارع المحلي من سطوة الإسلاميين، لكنّ التعليلات تذهب إلى خدمة القوانين الانتخابية للقوى الإسلامية التي تفصل تلك القوانين وفقاً لمساحتها الجماهيرية، التي تدعمها دائماً بالفوز والوصول إلى السلطة، ممّا يجعل "المدنية العراقية" في تراجع ونكوص. 

مواضيع ذات صلة:

القوى الموالية لإيران تتقدم في الانتخابات المحلية في العراق.. نتائج أولية

بدء الانتخابات المحلية في العراق... هل يُحكم الإطار التنسيقي قبضته على العراق؟




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية