لماذا يترك أثرياء القاهرة فيلاتهم الفخمة هرباً إلى الصحراء؟

مصر

لماذا يترك أثرياء القاهرة فيلاتهم الفخمة هرباً إلى الصحراء؟


30/07/2019

في ليل القاهرة المكتظة بسكانها، تضيء عدة لوحات إعلانية ضخمة أعلى كوبري أكتوبر، الذي يربط وسط العاصمة بشرقها. وتحت شعار "امتلك الخصوصية"، تروج إحدى شركات التسويق العقاري، لوحداتها السكنية من شقق وفيلات فاخرة تبدأ أسعارها بملايين الجنيهات، في بلدٍ يسكن 7 ملايين شخص من أبنائه بجوار الموتى؛ لأنّهم لم يجدوا مكاناً غير القبور يسكنون فيه أحياءً ثمّ أمواتاً.

اقرأ أيضاً: ما تأثير الإسلام السياسي على المجتمع الجزائري؟
ويبدو شعار امتلاك الخصوصية موحّداً بين كلّ إعلانات التجمعات السكانية الفاخرة على أطراف القاهرة "الكومباوند"، فهل تصبح الحياة الطبيعية سلعة تتوفر لمن استطاع إليها سبيلاً؟

هل تصبح الحياة الطبيعية سلعة تتوفر لمن استطاع إليها سبيلاً؟

من دفاتر الفصل العنصري
تُعرَّف جريمة الفصل العنصري، حسبما نصّت عليه قوانين روما، بأنّها جريمة ضدّ الإنسانية، إذا توافرت فيها واحدة أو أكثر من الأمور الآتية: "حرمان فئة أو فئات من الحقّ في الحياة والحرية الشخصية، سواء بقتل عضو من تلك الفئات، أو إلحاق أذى بدني أو عقلي بهم، أو إخضاع فئة أو فئات عنصرية عمداً لظروف معيشية، يقصد منها أن تفضي إلى الهلاك الجسدي كلّياً أو جزئياً". وقد أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة تلك الشروط عام 1973، لتدخل حيّز التنفيذ بعد ذلك بثلاثة أعوام، باعتبار أنّ جريمة الفصل العنصري هي تهديد للأمن والسلم في العالم أجمع، ولعل أبرز الأمثلة الواضحة من التاريخ على تلك الجريمة، ما فعله الفرنسيون في مستعمراتهم، والبيض ضدّ السود في الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك جنوب إفريقيا، لكن مصر تواجه فصلاً عنصرياً من نوع آخر، يتمّ على أساس حالة من الاستقطاب الطبقي بين شرائح المجتمع، وإعادة هيكلة الطبقات الاجتماعية طبقاً لما تقتضيه الضرورة السياسية.

عندما هبّت رياح الانفتاح على مصر، لم يقتصر ضرر الرأسمالية على اتّساع فجوة اللامساواة بل شمل تخريب الثقافة الوطنية

في روايته "يوتوبيا"، الصادرة عام 2008، تخيّل الكاتب الراحل أحمد خالد توفيق، ما سيكون عليه شكل المجتمع المصري بعد أن يصل الصراع الطبقي ذروته؛ إذ إنّ هناك طبقة الأثرياء المحتكرين لكافة وسائل الإنتاج، والمعزولين داخل أسوار الكومباوند على أطراف القاهرة الصحراوية، وخارج أسوارها في قلب المدينة القديمة يقطن الأغيار؛ وهم طبقة الفقراء المتساوون في الجهل والفقر والمرض، تتشابه تفاصيل حياتهم اليومية مع حياة فقراء أوروبا في عصور الظلام، في تقارب مع وصف المجتمع الأوروبي كما قدّمه الأديب الإنجليزي، تشارلز ديكنز، في روايته الأشهر"أوليفر تويست".
تلك المنازل الفاخرة، ذات الأسوار العالية، بحسب رواية خالد، ما هي إلّا مجرد شكل جديد للفصل العنصري، الذي تمارسه البرجوازية الجديدة بحق الأغلبية، بحجّة الهرب من الضوضاء والزحام، ومظاهر الفقر والتسوّل، التي لا تخلو منها أرقى شوارع العاصمة، ولا يجدون حرجاً في تشريح أسباب هروبهم، دون أن يعلموا أنّ الموارد التي يستهلكونها تكفي لأن يعيش الجميع في حالة من الرخاء، إذا ما توقفت الثروة عن التراكم في قطب واحد، على حساب قطب آخر.
 اتّساع فجوة اللامساواة بين أبناء المجتمع الواحد

ثقافة البناء وبناء الثقافة
عندما هبّت رياح الانفتاح على المجتمع المصري، لم يقتصر ضرر الرأسمالية على اتّساع فجوة اللامساواة بين أبناء المجتمع الواحد فحسب، بل امتد هذا الضرر إلى تخريب الثقافة الوطنية للشعوب التي تقوم بغزوها، وإحلال ثقافة دخيلة محلها؛ بل هي تنفي الثقافة من الأساس، وهذا لُبّ ما فعله الانفتاح الاقتصادي من طمس الثقافة الشعبية، وقد حلّ بدوره على العمران بشكل غير مسبوق، فقديماً عاش الأغنياء والفقراء جنباً إلى جنب في أحياء متجاورة، ففي حيّ الزمالك، أحد أقدم أحياء الأثرياء في القاهرة، يعيش سكان حي "بولاق" من الطبقات الأدنى، بفاصل كوبري يصل بين المنطقتين، لم تنعزل تلك الطبقة الأرستقراطية داخل أسوار مدينة معزولة هرباً من جيرانهم الفقراء، كما يحدث، والحال نفسه في حي هيلوبوليس، الذي يتقارب مع حي عين شمس، الذي سكنته الطبقات الوسطى؛ إذ يبدو أنّه لم توجد تلك الرغبة بالانفصال الاجتماعي التام، كما هو الحال في الوقت الراهن.

وكما تخلق التجمعات السكانية الجديدة، على أطراف الصحراء، حالة من الانفصال، فإنها أيضاً تُجسد حالة من الاستعراض الزائف، كما وصفها كتاب "مجتمع الاستعراض"، للفيلسوف الفرنسي، جي لويس ديبور، ونظرته لهذا المجتمع لم تُختزل في الصور فحسب؛ بل امتدت لتوصيف أكثر عمقاً؛ حيث إنّ مجتمع الاستعراض الذي يقدّم نفسه على أنّه المجتمع ذاته، وهو القطاع الذي تتركز فيه كلّ نظرة وكلّ وعي، ونظراً لطبيعته المنعزلة؛ فإنّه موضع النظرة المخدوعة، والوعي الزائف، والتوحد الذي يتحقق عن طريق تبنّي لغة واحدة ورسمية لهذا الانفصال المعمّم؛ إذ إنّ الاستعراض أيضاً كامن في علاقات اجتماعية تتوسط فيها الصور، وهو ما أكده المفكر المصري الراحل، السيد ياسين، من حيث أنّ هناك حالة من الوعي الزائف تتشكل لدى أبناء سكان الكومباوند؛ حيث يتخيل الجيل الجديد، أنّ هذا هو شكل الحياة الطبيعي؛ بيت فخم بحديقة، وخدمات توفر ما لذّ وطاب من الرفاهية، لأنّه لم يتعرض لباقي عناصر المجتمع المصري، ولا يمكن أن نطلق لفظ مجتمع على سكان الكومباوند، لأنّ المجتمع هو نسيج من العلاقات الاجتماعية لشرائح مختلفة تتعايش مع بعضها البعض وتتكامل، وهو ما يتنافى داخل أسوار تلك المستعمرات.

 كتاب "مجتمع الاستعراض" للفيلسوف الفرنسي جي لويس ديبور

استغاثات البرجوازية
بقرار جمهوريّ (رقم 191)، لعام 2000، تمّ إنشاء مدينة التجمع الخامس، على مساحة 70 ألف فدان، أكثر من نصف تلك المساحة مخصص للحدائق والشوارع، ويعتبر المهندس ووزير الإسكان السابق، حسب الله الكفراوي، صاحب الفضل في إنشائها، مستهدفاً 2.5 مليون من فقراء القاهرة ليملؤوا تلك المدينة، لكنّ ما حدث؛ أنّ حكومة أحمد نظيف، قدّمت تلك الوحدات السكنية الفاخرة إلى رجال أعمال، خاصة بعد عرضها بأسعار باهظة، لا تقوى على دفعها حتى الطبقة الوسطى، فيما تتعالى مؤخراً، منذ نهايات العام الماضي، صيحات سكان التجمع، بإيقاف الزحف العمراني وعشوائية المحلات التجارية داخل مدينتهم الفاضلة.

كما تخلق التجمعات السكانية الجديدة على أطراف الصحراء حالة من الانفصال فإنها أيضاً تُجسد حالة من الاستعراض الزائف

في هذا الصدد؛ تحدّث عضو مجلس إدارة ورئيس قسم الهندسة المعمارية بمعهد السلام العالي للهندسة والتكنولوجيا بالقاهرة، الدكتور هشام عدلي، إلى "حفريات" قائلاً إنّ "ما يحدث في حيّ التجمّع ليس جديداً، هذا هو النهج الذي تسير نحوه كلّ المدن، فمبجرد أن تبني الدولة أو شركات القطاع الخاص تجمّعاً سكنياً فاخراً، تحاول التسويق له، يكون لزاماً عليها أن تقوم بإخلاء المنطقة القديمة، وهذا لن يتم إلّا إذا هرب السكان إلى مدينة أكثر رقياً وهدوءاً توفّر لسكانها تطلعاتهم في الانضمام إلى الطبقات الأعلى".

ويستطرد: "حدث هذا مراراً، منذ أن تسربت العشوائيات والباعة الجائلون إلى مناطق مثل وسط القاهرة، ومصر الجديدة، والمعادي، وما كان إلّا أن ترك السكان منازلهم، وهرعوا إلى المدن الجديدة على أطراف القاهرة، وأنا أجدها إستراتيجية تسويق لهذه المدن، فما الدافع لأن يترك أثرياء المعادي فيلاتهم الفخمة، هروباً إلى الصحراء، إلّا إذا تمّ إجبارهم على الرحيل؟".
فوق أشلاء المدينة
في كتابه "المدينة"، يرى عالم الاجتماع الحضري الأمريكي، روبرت بارك أنّ "المدينة هي أكثر محاولات الإنسان اتساقاً، وبشكل عام أكثرها نجاحاً في إعادة تشكيل العالم، الذي يعيش فيه بما يتفق بدرجة أكبر مع رغبات قلبه"، من تلك النقطة ننطلق إلى تساؤلات أكثر تعقيداً، حول ماهية المدينة التي يتطلع إليها الإنسان، وما طبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة فيها، وأي عقد اجتماعي يتبناه الناس في معيشتهم مع بعضهم، وكيف تتشكل علاقاتهم مع الطبيعة والموارد المتاحة؟ كلّ هذا يحيلنا إلى إشكالية هدم المدينة المقامة وبنائها من جديد، فداخل أسوار الكومباوند عالم منفصل عما خارجه، وبالتالي فليس ثمة مجتمع داخل القطبين؛ حيث تعتمد الإرادة السياسية على خلق مجتمع من الصفوة المنتقاة بعناية، يعيشون كلّهم في المستوى المعيشي نفسه، ويتشابهون في زيّهم وطريقة حديثهم التي يجب أن تتداخل فيها اللغة الإنجليزية أكثر من العربية، كلّ أبناء تلك الطبقة يذهبون إلى المدارس الدولية؛ لأنّها تمنحهم الشعور بالتميز، ويأبون جلب مربية محلية إلى أطفالهم، خوفاً أن تتسلل العربية إلى لسان الأبناء الذين يدفعون مبالغ طائلة سنوياً لأجل أن يتحول أبناؤهم إلى "خواجات"، وتصبح مصر بالنسبة إليهم معسكراً للعمل أو الدراسة.

اقرأ أيضاً: "انتظر وانظر"... هل لعنة ميدوزا حاضرة في مجتمعاتنا؟
وطبقاً لما أخبر به الفيلسوف الألماني، كارل ماركس، في مخطوطاته الفلسفية؛ فإنّ محور عمل النظام الرأسمالي دائماً ما يرتكز على البحث عن فائض القيمة (الربح)، ومن أجل تحقيق هذا الفائض، يتعيّن على الرأسماليين تحقيق فائض إنتاج، وهذا الفائض هو لبّ ما تتطلبه عملية التطوير العمراني، والتي ترتكز بالأساس على طابع طبقي، فالحضرنة هي ما يتطلبه امتصاص فوائض الإنتاج التي تحققها الرأسمالية دوماً، وهو ما تناوله مقال نشرته صحيفة "الغارديان" الأمريكية، في شباط (فبراير) 2019، بعنوان "نحن في خضمّ حمّى المدن الجديدة". وطبقاً لكلام مديرة مختبر المدن الجديدة بجامعة مكغيل الكندية، البروفسورة سارة موسر؛ فإنّ دول العالم الثالث، من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، قد طغت عليها حمّى التوسع العمراني في الصحراء، وتوضح أنّ المراد من تلك المستعمرات التوسعية ليس سوى جني مزيد من الأموال، تقدّر بمليارات الدولارات، قائلة: "هناك شركات عقارية وشركات تكنولوجيا تدور مثل أسماك القرش، لجني مزيد من الأرباح"، وقد تطرقت في حديثها، إلى مدينة القاهرة الجديدة، موضحة أنّها استهدفت 5 ملايين شخص، منذ 20 عاماً، بينما اليوم لا يسكنها سوى بضعة الآف من الأثرياء الجدد، وهو ما يعني فشل الهدف الذي تروّج له حكومات العالم الثالث.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية