لماذا لم نتعلم كيفية العد إلى عشرة؟

لماذا لم نتعلم كيفية العد إلى عشرة؟


23/06/2019

لا شك أنّ تعامينا عن مشكلة ما لا يعني غيابها، وربما هذا التعامي يزيد فعالية ما نتجاهله، ويمنحه شرعية ضمنية، وقابلية الاستمرار والانتشار، وبهذا يمكن للاستفزاز الذي نتداوله كسلعة رائجة فيما بيننا، أن يكون أحد المؤشرات العميقة على تردي ونكوص إنسانيتنا: "كنتُ مستفَزاً، لقد استفزني"، جملٌ كهذه تتردّد بوفرةٍ على ألسنتنا، تحمل في طياتها تبريراً لانفعالاتنا، وتخفيفاً لإدانتنا على ما قمنا به، وكي تتضح لنا أسباب هذا التبرير، علينا أن نقف على المعاني الضارية للاستفزاز.

اقرأ أيضاً: "السوار الأرجواني"...هل هو حلّ لتذمّرنا؟

الاستفزاز في اللغة، حث وتحريض يؤدي للغضب، وقصدَ استفزازه، جعله يضطرب ويفور غضباً، أما بيولوجياً فانّ اللوزة الدماغية تطلق إشارة تحذير عندما يستشعر الإنسان خطراً معيناً؛ حيث تفرز هرمونات التوتر في أنحاء جسدنا لتهيئنا فوراً للقتال أو الفرار، وتغلق المسار العصبي المؤدي إلى الفصوص الأمامية المسؤولة عن التفكير والتخطيط وحلِّ المشكلات، وتعطي أوامر مباشرة دون المرور بها، حتى أنّ ذاكرتنا تفقد مصداقيتها، فلا نعود قادرين على تذكر أشياء من الماضي تهدئ من روعنا، وهذا ما جعل "دانييل غولمان" في كتابه "الذكاء العاطفي" يصف عملها "باختطاف اللوزة الدماغية للإنسان".

من ينظر إلى المشكلات المزمنة في مجتمعاتنا سيجدها عالقةً في عنق زجاجة عدم فهم متبادل بين الجميع

ومن ينظر إلى المشكلات المزمنة في مجتمعاتنا، سيجدها عالقةً في عنق زجاجة عدم فهمٍ متبادلٍ بين الجميع؛ فالزاوية التي ينظر الجميع منها إلى الجميع تقترح لاشعورياً إدانة مضمرة، تجعل من الآخر مستَفزاً ومن الأنا مُستفِزة، يكفي أن نأخذ عيّنة من مجتمعاتنا كأطفال المدارس، لنلمس التصفية النفسية التي تحكم العلاقة فيما بينهم وبين معلّميهم، في ظل تربية وتعليم يوفران هامشاً واسعاً للاستفزاز، ليساهما في صناعة الفرد الموتور.

وقبل أن نتساءل ما الذي جعل من الأنظمة التربوية والتعليمية أنظمة استفزازية؟ ربما علينا أن نبحث في واقع المجتمعات التي تنتج هذه الأنظمة.

يتنامى الاستفزاز في المجتمعات التي ترتهن علاقاتها للقهر والغلبة، الاستفزاز الذي لا يمكن أن يتكشف إلا عن عداء أو الرغبة به، وهذا العداء يضمر عدم الرغبة في الفهم والاعتراف بالآخر.

في كتاب "سيكولوجية الإنسان المقهور" رصد مصطفى حجازي بدقّة تنامي الاستفزاز في مجتمعاتنا؛ حيث إنّ تمظهرات العنف الفاقعة عند إنسان العالم المتخلف ليست وليدة بدائية نفسية بزعم بعض علماء الغرب، بل هي وليدة وضعية مأزقية تشكّل إحدى خصائص بنية القهر التي يتميّز بها هذا العالم.

اقرأ أيضاً: حتى لو عفوتُ عنك... أنت لست بريئاً

وبرأيه إنّ الحالة المزمنة من الإحباط والإهمال، تجعل إنسان المجتمع المتخلف في حالة تعبئة نفسية دائمة استعداداً للصراع، وهذا ما يقلّص هامش العقلانية والحوار المنطقي، فتصبح شريعة الغاب هي الضامن لوجودٍ يقوم على الإزاحة، مما يجعل علاقات التعاطف والتفاهم تنهار، لتحل محلّها علاقات اضطهادية، يصبح الآخر فيها العقبة الوجودية في وجه تأمين المصلحة الذاتية، لذا لابد من إعلان الحرب عليه، أو الاحتياط للحرب التي قد يعلنها علينا، وهذا ما يفسح المجال للتعصب أن يزدهر في غياب الوعي وتعليقه، ويضمن شرعيةً دائمة للأنظمة الاستبدادية، فكلما زاد جمود البنى الاجتماعية وانغلاقها، زادت بدورها الميول العدوانية التي تدفع الفرد في النهاية إلى أحضان هذه السلطة، والتي تحتكر العنف وتنظمّه بما يخدم بقاءها.

إنّ الإجهاد العصبي الناجم عن تعلّقنا بوسائل التواصل الاجتماعي يعمل على تحفيز الاستفزاز واقعياً

التحديدات المعجمية والبيولوجية والنفسية والاجتماعية الدقيقة التي يمكن أن نعرّف من خلالها الاستفزاز، لم تساهم في تجفيف هذه الآلية اللاواعية، بل جعلت منه استثماراً ناجحاً في زيادة نسب الإقصاء والعنف، طالما بالإمكان اعتباره مبرراً قوياً، لتخفيف الإدانة إزاء العنف الذي ارتكبه الشخص المُستفَز.

فالاستفزاز يُعرّف قانونياً على أنّه "الحالة النفسية والعصبية التي يصاب بها المتهم، متأثراً بأي فعلٍ أو سلوكٍ يصدر من المجني عليه، بحيث يكون المتهم فاقداً للشعور والإحساس بطريقة فجائية ومؤقتة، وغير قادر على تملك أعصابه وتحكيم عقله"، وهذا ما يجعله يأخذ حكماً مخففاً.

ولكن ما تعامى عنه المشرعون بعمد، أنّ طبيعة الاستفزاز يكوّنها المجتمع؛ حيث تكمن خطورة الاستفزاز أنّه لم يعد يتغذى على منابعه الطبيعية، إنما أصبحت الحقائق الوهمية الغذاء الرئيسي له، والتي يتم ترسيخها؛ سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

اقرأ أيضاً: ماذا لو ربّت الذئاب طفلاً؟

جميعنا ندرك أنّ ما يستفز فرداً في بيئة اجتماعية ما، لا يستفز آخر في بيئة اجتماعية مختلفة، وكما أنّ هناك قوانين تؤدي إلى تطور مجتمعاتها، فهناك قوانين تؤدي إلى تأخرها، فأن نصنع الإنسان المقهور ومن ثم نضع قانوناً يتماشى مع قهره، ما هو إلا تكريس وتعميق للتأخر، فالقانون الذي خفف الحكم عن المُستفَز يكرّس ضمنياً الحقائق الوهمية التي تؤدي للاستفزاز، وبالتالي لا يمكن أن ينتفي الاستفزاز إلا عندما تتغير النظرة لهذه الحقائق، وهذا يحتاج أولاً لإرادة سياسية تعي ذلك وترغب به، وربما ما يجري في تونس مثال على ذلك.

اقرأ أيضاً: ما الصيغ التي ابتلعت إنسانيتنا؟

"فالتغييرات السياسية والاجتماعية الجذرية من شأنها أن تبدل العلاقات الإنسانية، بما في ذلك البنية العائلية، وبنية التربية والتعليم والدين، والعلاقات بين الأفراد في العمل وفي وقت الفراغ"، بتعبير "أريك فروم" في كتابه "تشريح التدميرية البشرية"، ولكن إلى أن تحدث هذه التغييرات هل نستسلم لما يهَيَّأ لنا؟ وإذا سلّمنا أنّ هذا الاستفزاز المجتمعي هو قدر الإنسان المقهور، هل يعفينا من جريمة إلقاء كائن جديد تحت سماء اللافهم بحجة أنّنا "محكومون بالأمل"؟، أمام هذا التغوّل أليس من الأجدى أن نكون محكومين بالفهم، كي لا نعيد إنتاج القهر في أطفالنا؟ 

من خلال إذعاننا لآليات القهر الاجتماعي التي تحفز الجوانب اللاواعية أو ما قبل إنسانية، نمارس على ذواتنا عملية كفٍّ للإدراك والتأثر، هذا الكفّ يجعل الفهم غائباً عن العلاقة التي تربطنا بأنفسنا، مما يدفعنا لحشو أدمغة أطفالنا بحقائقنا الوهمية العدوانية، إن كان عن طريق التلقين أو الممارسة التي يتبنّاها الطفل، من خلال "الملاحظة والتقليد" بحسب "باندورا"، كما أنّ العلاقة التي تربطنا بأطفالنا لن تحظى بمفهومي التفاهم والتفهم؛ لأننا قررنا سلفاً أنّ عليهم أن يكونوا بمقاس طموحاتنا التي هزمها القهر.

اقرأ أيضاً: نعلّم أطفالنا القراءة.. فأين يختفي القارئون؟

فعقد التفوق التي تتشكل في حواضن التربية وتغذيها عناصر التنافس، والملكية، والشهرة، تحمل في عمقها طابعاً استفزازياً وهذا الطابع الاستفزازي هو ما نزوّد أطفالنا به، لنعيد رد الاعتبار لطموحاتنا المغدورة، وبالطبع سنفرح باستخدامهم الدقيق لهذه العقد، خاصةً أثناء مسيرتهم التعليمية، ولكن قد لا تتبدى فداحة ما قمنا به إلّا حين يبدأ الطفل بممارسة دور المُستفِز والمُستفَز علينا، حينها سنبدأ بالتنكّر لسلوكه، ونتلبس براءة أطفالنا ونسأل: لماذا هم مستفَزون؟ لماذا يعملون على استفزازنا؟ من أين أتت كل هذه العدوانية؟

أن نصنع الإنسان المقهور ومن ثم نضع قانوناً يتماشى مع قهره ما هو إلا تكريس وتعميق للتأخر

وما يثير الدهشة، العناوين العريضة التي تقدم نصائح للتعامل مع الطفل الاستفزازي، والتي تربط المشكلة بالطفل، متناسيةً الدور الذي نلعبه في خلق هذا السلوك عنده، ابتداءً بجملنا المغلقة التلقينية، وطموحاتنا التي تصادر رغباته، وسلوكنا المنفعل معه ومع غيره، وصولاً إلى تنمّرنا اللفظي الذي يقتل التفكير الإبداعي لديه، بما ينطوي على "إغاظة وسخرية وتهديد واستفزاز وتعليقات غير لائقة"، والأهم جهلنا بمراحل نمو الطفل الذي يجعل من سلوكه الطبيعي سلوكاً مستفِزاً لنا، كما أنّ الإجهاد العصبي الناجم عن تعلّقنا بوسائل التواصل الاجتماعي (التسلية الحديثة)، يعمل على تحفيز الاستفزاز واقعياً، وهو أول ما نمارسه على أطفالنا، هذا يدعونا لأن نسأل أنفسنا قبل أن ندين أطفالنا: لماذا نحن مستفَزون؟

اقرأ أيضاً: "عقلية الضحية".. كيف نورثها لأطفالنا؟

هناك جمل يتم تداولها والقصد منها احتواء الموقف الاستفزازي، كأن يقال (سمِّ بالرحمن) من قبل المتدينين، أو (خذ نفساً عميقاً) من قبل الروحانيين، أو (عدَّ للعشرة) من قبل العامة، إنّها جمل ذات هدف واحد -إذا ما ربطناها بالدراسات العلمية للدماغ- وهو إعطاء فرصة للإدراك أن يعمل، ولكن في واقع كواقعنا لم تعد تجدي نفعاً، مادام اللاوعي هو من يحكمنا، وما دمنا لم ندرك بعد أنّ ردات الفعل عبر التاريخ لم تتمكن من إنتاج التقدم، ولكنها استطاعت أن تساهم بفعاليةٍ قصوى في الحدّ من الوعي، وإعاقة تشكل الإنسان.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية