نعلّم أطفالنا القراءة.. فأين يختفي القارئون؟

نعلّم أطفالنا القراءة.. فأين يختفي القارئون؟

نعلّم أطفالنا القراءة.. فأين يختفي القارئون؟


03/10/2022

علينا أن نتخلى عن التّصوّر البسيط للقراءة بوصفها مسحاً آلياً وفك شيفرة، إنّها عملية عاطفية وآنية وذاتية، تُرَسّخ بها النصوص وتصبح إشكالية. ولقد وضع الروائي الأمريكي، فيليب روث، يده على المعنى العميق للقراءة، ففي مجتمعاتنا يتعلم الأطفال القراءة ولكن قلّة من يصبح قارئاً، بالطبع هناك أسباب كثيرة ولكن لكل خلل نقطة يبدأ منها.
في أحد الاختبارات لطلبة الصف الأول، ورد السؤال التالي: الطفل صديقته الأزهار أم المياه؟ من اختار "الأزهار" لم يحصل على علامة السؤال؛ لأنّ الإجابة المفروضة هي المياه، بناءً على أحد دروس الكتاب، مع أنّ هذا الخيار يشير إلى أنّ الطفل تعامل مع السؤال على المستوى الإشكالي، ووضع ذاته داخل الإجابة من دون أن يقوم بعملية الاستذكار والمسح الآلي كما القسم الآخر من الأطفال الذي اختار "المياه". من خلال تتبّع التيارات التي بحثت في مفهوم تعلم القراءة ربما يمكننا أن نرصد الهوة التي تفصل بين الإجابتين.

يشير إلكايند إلى أنّ أطفالنا يتعلمون القراءة ولكن بثمنٍ باهظ فهم لا يشعرون بمتعة القراءة لأنها فُرضت عليهم بالإكراه

وبحسب، فتحي محمود إحميدة، في دراسته التحليلية "بزوغ القراءة والكتابة عند الأطفال"، فقد ذهبت مسألة تعلم القراءة في ثلاثة اتجاهات؛ الأول برز في العشرينيات من القرن الماضي، ويرتكز على أنّ الاستعداد للقراءة ناتج عن النضج العصبي، وأوصى بتأجيل تعلم القراءة إلى أن يبلغ الطفل عمراً عقلياً مناسباً، وهو ستة أعوام وستة أشهر.
وفي أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي، ظهر تيار عارض الأول واعتبر أنّ الاستعداد للقراءة ناتج عن الخبرة، وتم الاعتماد على برامج هدفت إلى تمكين الطفل من إتقان مهارات الاستعداد للقراءة وتجاوز اختباراتها.
أما التيار الثالث، وهو ما سمّي بمرحلة بزوغ القراءة والكتابة، إذ يشير هذا المصطلح إلى سلوكيات القراءة والكتابة التي يظهرها الأطفال الصغار في المراحل المبكرة من حياتهم؛ كالرسم والخربشة، والاستماع للقصص والتظاهر بالقراءة، والاهتمام بالكتب وتقليبها، ومحاولة الكتابة المبكرة بمختلف أنواعها، والتي تسبق القراءة والكتابة المتعارف عليها، فتعلم الطفل للقراءة والكتابة لم يعد مقتصراً على ما يتلقاه الطفل في الروضة، وبالتالي ينبغي للروضة أو المدرسة أن تكون مستعدة للطفل بدلاً من أن يستعد هو لهما، ونتيجة لذلك بات لزاماً على رياض الأطفال أن تدخل تعليم القراءة والكتابة في مناهجها، مع توصيات خاصة للآباء بالقراءة اليومية للأطفال، وتوفير مواد القراءة في البيت، واصطحاب الطفل إلى المكتبة، والجلوس مع الأطفال والكتابة معهم.

بالمقارنة بين التيارات السابقة نلمس تسارعاً تدريجياً لجعل عملية تعلم القراءة تُنجَز بأسرع وقت، فمن تيار لمَ العجلة؟ إلى لمَ الانتظار؟ إلى كونوا مستعدين. ويبدو أنّ المناهج الجديدة في مجتمعاتنا وقعت على الخيار الثالث،  فالمنهاج الجديد للصف الأول، كما في سورية، على سبيل المثال، وُضِع لطفلٍ قطع شوطاً في تعلم مبادئ القراءة والكتابة في سنواته التي أمضاها في الروضة. والسؤال ما الدافع وراء ذلك؟ هل هو حقاً من أجل الطفل وتماشياً مع رغبته وميله ونموه؟

في كتاب الطفل المستعجل، لديفيد إلكايند، هناك ما يناقض ذلك؛ إذ يشير إلكايند إلى أنّ أطفالنا يتعلمون القراءة، ولكن بثمنٍ باهظ، فهم لا يشعرون بمتعة القراءة؛ لأنها فُرضت عليهم بالإكراه. وهذا الإكراه لا يعكس حاجة الطفل أو ميله، إنما يعكس العنف الذي نمارسه على أطفالنا كي يتكيفوا مع احتياجاتنا وتطلعاتنا، والتكيف مع برامج حياتنا بدل أن نتكيف نحن مع برامجهم الطفولية، إنها الطريقة الأقل تطلباً في التعامل معهم، حيث توفر الكثير من الطاقة والجهد اللازمين لمعرفة الطفل والاعتراف به. وبحسب إلكايند، فإنّ القراءة المبكرة لا تؤدي بالضرورة إلى قارئ متلهّف، ولا تُعتبر مؤشراً على النجاح المهني، أن يتعلّم  الطفل القراءة شيء، وأن يصبح قارئاً شيء آخر.
ما جاء به إلكايند يفسر الهدف من تشديد الأمريكيين على ضرورة التعليم المبكّر، فعندما شعروا بتفوق الروس في أبحاث الفضاء أثناء حربهم الباردة، تمت إعادة النظر في المناهج التعليمية، وتم الاتفاق على جعل المناهج أكثر تشدداً وصرامة، وجعل التعليم يبدأ في سن مبكرة من حياة الطفل، للوهلة الأولى يبدو هذا الموقف إيجابياً؛ فالولايات المتحدة أرادت لأطفالها مستقبلاً أن يبدأوا بالتعليم المبكّر وينتهوا في الفضاء. ولكن هذا الموقف يخفي وراءه الأجندات التي تعمل على لي عنق التربية، من أجل تحقيق مصالحها، وتواطؤ يجعل من العلم غاية تستنزف الإنسان وتُهمّش إنسانيته.

بالمقارنة مع مجتمعاتنا يبدو أننا والأمريكيين متفقون على جعل التعليم يبدأ في سن مبكرة، ولكننا مختلفون بالأهداف، بالتأكيد عجلتنا لا علاقة لها بالحصول على أكاديميين لسوق العمل، وليس تسابقاً على الاختراعات، ولا من أجل أن نخلق قارئين، فمؤشر البطالة المرتفع، وتهميش وطمس المخترعين في بلادنا، ونسبة الجهل والتجهيل، كل هذا واضح للجميع، إنّ أسبابنا تنتمي لبيئتنا الاقتصادية والسياسية والدينية، فرغبة الوالدين في تعليم أطفالهما القراءة يعكس طموحاً أجوف يتماهى مع الصورة الاجتماعية والاقتصادية للواقع، وبالنسبة للمدرسة إنّها تنفذ البرنامج الذي يُملى عليها، وهذا البرنامج لا يُعترف به إلا إذا مرّ من تحت يديّ السلطتين السياسية والدينية؛ حيث تستعجلان تلقين الطفل مبكراً للجمل المغلقة، قبل أن يبزغ ريشه ويبدأ بإقامة علاقة بينه وبين الكلمة.

تركز الروضات الحكومية للدول ذات التجارب التعليمية الناجحة على التعليم التجريبي الذي سمح للأطفال بالتعلم بشكل فطري

ما تبنّته مجتمعاتنا حديثاً تجاوزته الدول المصدرة له، فالروضات الحكومية للدول ذات التجارب التعليمية الناجحة، تركز على التعليم التجريبي، الذي يسمح للأطفال بالتعلم بشكل فطري وفق شروطهم الخاصة، من خلال الاستكشاف والتجربة والإبداع والتفاعل مع العالم من حولهم، بواسطة نشاطات مثل؛ اللعب والفن والموسيقا والرقص، واستكشاف الطبيعة والبيئة المحيطة بالطفل، بعيداً عن بنية المنهاج المدرسي، بالإضافة لانتشار ما يسمى "بمدارس الغابات"، ولا يتم تعليم القراءة إلا إذا أظهر الطفل رغبة في ذلك، خبراؤهم يقولون "نحن لسنا في عجلة من أمرنا، الأطفال يتعلمون بشكل أفضل عندما يريدون ذلك، فلماذا نقوم بإجبارهم ونضع ضغوطات نفسية نحن وهم في غنى عنها؟"

اقرأ أيضاً: تطوير المناهج التعليمية في مجتمعاتنا.. حصان طروادة

إذا كان عالمنا اليوم محصّلة الحركة البشرية التي تنتج،  فنحن من حيث لا ندري ساهمنا في خلق تسارعٍ جهنمي، سيقذف الكوكب عمّا قريب إلى ما لا يُحمد عقباه، هذه السرعة لا تشير إلى نشاط جنسنا البشري كما نتوهم، بل تشير إلى العجلة الناتجة عن الأعباء المترتبة على الحياة، والتي تدفعنا لننهي العمل بأقصى سرعة، كي نقبض على المستقبل، ولكن هذا بالضبط "ما أعمى بصيرتنا لا عن رؤية ما ليس متوقعاً فحسب، بل وعن رؤية ما هو متوقع" بتعبير إدغار موران.

اقرأ أيضاً: أين المشكلة.. في التعليم المختلط أم في أنماط التربية؟

لنتخيل حركة البرغي الذي نضعه في الجدار، مع كل حركة دورانية سيتقدم أكثر حتى نصل إلى ثباته، الآن نحن مطمئنون، لوحتنا لن تسقط، هناك من سيحملها بجدارة. فعندما ينغرس أطفالنا تماماً في الجدار نكون قد أنجزنا المهمة ووضعناهم في المكان الذي نريد، وبهذا نتأكد أن عالمهم لن يختلف عمّا سنتركه لهم، فازدياد عدد المتعلمين لم يغيّر من الواقع شيئاً، ولمن يضع إشارات استفهام ويستغرب ارتفاع نسبة المتعلمين بين المتطرفين، هؤلاء تم تعليمهم القراءة ولكن لم يتم تعليمهم كيف يكونون قارئين، ليتجنبوا ما وصلوا إليه. هل تخيل أحدنا فداحة اللوحة التي نرغب في تعليقها؟ طوبى للفراشات التي هربت من اللوحة واختارت الأزهار مسكناً لها.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية