دخلت الأزمة السياسية في مالي مرحلة جديدة، عقب قيام قادة عسكريين بالانقلاب على حكم الرئيس إبراهيم كيتا، واعتقاله مع أعضاء حكومته ورئيس البرلمان، ثم إجباره على حلّ البرلمان، والحكومة، ثم تقديم استقالته، في بيان رسمي، بثته القنوات المحلية.
وصبيحة الانقلاب في 18 من الشهر الجاري، كانت البلاد مع موعد لتنظيم أكبر تظاهرة احتجاجية، عرفتها البلاد من قبل؛ وكان من المخطط تنظيم المعارضة لجولة واسعة في مالي، تضم 2000 دراجة نارية، و300 سيارة، تحمل قادة المعارضة، للحشد ضدّ كيتا، وهو الأمر الذي عجل بتدخل الجيش، وفق مراقبين، خوفاً من وقوع صدامات بين المعارضة ومؤيدي الرئيس.
وأعلنت المعارضة دعمها لحراك الجيش، ورفضت تسميته بالانقلاب، موضحة أنّه استجابة وطنية صادقة من أبناء الوطن في الجيش.
ما لم يتوقعه كيتا
ودخّل الحراك السياسي المعارض للرئيس كيتا شهره الثالث، منذ بداية الاحتجاجات في الخامس من حزيران (يونيو) الماضي، وأخذ الحراك اسمه من تاريخ الانطلاق، وعُرف باسم تحالف الخامس من يونيو (M5). ويضم الحراك أحزاب المعارضة، ورموزاً دينية ووطنية، وعلى رأسهم الإمام محمود ديكو، الذي يحظى باحترام كبير داخل البلاد.
وكانت المعارضة دعت إلى تنظيم تظاهرة حاشدة، الثلاثاء الماضي، بعد فشل جولة الوساطة التي رعتها مجموعة دول غرب إفريقيا، نتيجة إصرار المعارضة على رحيل كيتا، وتشبث الأخير بالسلطة، واستخفافه بمطالب الحراك منذ يومه الأول. وزاد سقوط قتلى على يد الشرطة من إصرار الحراك على رحيل كيتا.
ولا يبدو أنّ كيتا تعلم الدرس من تاريخ الاحتجاجات الشعبية، والانقلابات العسكرية في مالي، وغرب أفريقيا، حيث شهدت مالي إطاحة الجيش رؤساء سابقين في عامي 1991، و 2012.
رفض المجتمع الدولي الانقلاب بشكل قاطع، ودعا إلى الإفراج عن الرئيس كيتا. ونددت الأمم المتحدة ورؤساء (الإيكواس) والولايات المتحدة وفرنسا ومفوض السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، بتدخل الجيش
ويوضح ذلك، الأستاذ الجامعي، بكلية الآداب والتربية في مالي، دوكوري مسيري بقوله: "الجيش مهما كان هو من الشعب، وكما أنّ الشارع ينبض بالغضب على إخفاق الرئيس كيتا في علاج الأزمات الاقتصادية والسياسية، فكذلك يشعر الجيش، الذي يعاني من نفس الأزمات، لكنّه لا يتدخل إلا حال تعقد الأزمة".
ويضيف مسيري لـ "حفريات" قائلاً: "تدخل الجيوش لدعم الاحتجاجات الشعبية أمر له تاريخ سابق في مالي، ودول غرب أفريقيا بشكل عام، ويأتي تدخله تلبيةً لمطالب الشعب".
وسبقت إطاحة كيتا إشارات غضب من الأجهزة الأمنية والعسكرية، كان على كيتا التنبه لها، لكنّه لم يلتفت إليها، وظلّ متمسكاً بالسلطة، ضدّ إرادة الشعب. وفي ذلك يقول، الأستاذ في الدراسات القرآنية، محمد مايغا: "كانت هناك دلائل على الحنق ضد الرئيس في المؤسسات الأمنية، منها التهديدات المُبطنة للرئيس التي وجهتها إدارة حرس السجون، والشرطة الوطنية، وإحدى نقابات الشرطة".
تأييد شعبي جارف للجيش
وعقب تدخل الجيش، التفت جموع شعبية كبيرة حول المؤسسة العسكرية، ونظم آلاف من الشباب مسيرة أحاطت قوات الجيش التي اعتقلت الرئيس كيتا، وخرجت مظاهرات للاحتفال.
وعادت الحياة إلى طبيعتها في اليوم الثاني للانقلاب العسكري، وفق ما ذكره، رئيس الاتحاد الوطني لطلاب المدارس العربية في مالي، عبد الله سيدبي، وقال: "الحياة عادت إلى طبيعتها، وذهب الجميع إلى أعمالهم، والأسواق مفتوحة، ونشهد انضباطاً أمنياً نتيجة انتشار الجيش والشرطة في مناطق واسعة من البلاد".
ويصف، محمد مايغا الموقف الشعبي في مالي، لـ "حفريات" بقوله: "أنا لا أسميه انقلاباً، بالمعنى المعروف اصطلاحياً، إنما أضعه في قالب حراك شعبي، أتمّت السلطة العسكرية حلقته الأخيرة، حفاظاً على أكبر قدر من مكتسبات الشعب".
اقرأ أيضاً: ماذا يحدث في مالي؟.. آخر تطورات الانقلاب
ويحلل أسباب تدخل الجيش، وتوقيت ذلك؛ بأنّ المؤسسة العسكرية استشرفت مستقبل البلاد في ظل استمرار الأزمة السياسية، وربما رأت أنّها تنجرف إلى صراع أهلي، يغذيه الرئيس كيتا لتفتيت المعارضة، والبقاء في الحكم، فتدخل الجيش في صبيحة اليوم الذي حددته المعارضة تاريخاً لمسيرتها الكبرى، لتجنيب البلاد مخاطر، قد لا يعلم حجمها أحد، وتجنباً لحدوث انشقاقات في صفوف الضباط الغاضبين، وما يؤدي إليه ذلك من فوضى أمنية، تستغلها الجماعات الإرهابية في شن هجمات إرهابية، والسيطرة على مناطق أوسع.
وكان بعض قيادات المعارضة دعوا الجيش إلى التدخل، ومنهم الدكتور عمر ماريكو، وفق ما ذكره، رئيس الاتحاد الوطني لطلاب المدارس العربية في مالي، في حديثه لـ "حفريات"، بقوله: "يبدو أنّ تدخل الجيش كان معداً من قبل؛ لتخليص مالي من الأزمة السياسية، وتحجيم استبداد الرئيس كيتا".
اقرأ أيضاً: 4 انقلابات عسكرية في مالي.. فقر يتوسع وإرهاب يتمدد
ولا يرى سيدبي في تدخل الجيش أمراً سلبياً على البلاد، على عكس الصورة الذهنية عن الانقلابات العسكرية، التي تشهدها دول أخرى، وأشار إلى أنّ الجيش انقلب عام 1991 على الديكتاتور موسى تراوري، وسلم السلطة للمدنيين بعد عام، وأحلّ الديمقراطية، وفي انقلاب عام 2012، الذي قاده الجنرال أمادوا أيا سانوغو، سلم السلطة لرئيس البرلمان، لكنّ بعد ضغوط دولية، وكلاهما كانا يحاولان العمل لمصلحة الشعب.
ويضيف سيدبي: "المشكلة الحقيقة ليست في تدخل الجيش، بل اللوم يقع على السياسيين الذين يطالبون بإرجاع السلطة إليهم، ثم حين يحصلون عليها، يفشلون بشكل ذريع في إدارة البلاد".
رفض دولي قاطع
وعلى خلاف التأييد الشعبي؛ رفض المجتمع الدولي الانقلاب بشكل قاطع، ودعا إلى الإفراج عن الرئيس كيتا، وأعضاء الحكومة والبرلمان. ونددت كل من الأمم المتحدة ورؤساء المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإيكواس) والولايات المتحدة وفرنسا ومفوض السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، بتدخل الجيش، وعدّوه إنقلاباً على مؤسسات شرعية.
عبد الله سيدبي لـ "حفريات": ليس انقلاباً، بالمعنى المعروف اصطلاحياً، إنما أضعه في قالب حراك شعبي، أتمّت السلطة العسكرية حلقته الأخيرة، حفاظاً على أكبر قدر من مكتسبات الشعب
وتنقسم الدوافع التي تحرك المجتمع الدولي إزاء هذا الموقف؛ فالولايات المتحدة والأمم المتحدة وفرنسا ترفض تدخل الجيش في العملية السياسية، وتفضل التفاوض بين أطراف الأزمة من الأحزاب السياسية والمجتمع المدني. بينما ينبع موقف رؤساء دول الإيكواس من الخوف من انتقال الاحتجاجات الشعبية إلى بلادهم.
ويبين ذلك، أستاذ الدراسات القرآنية المالي، محمد مايغا: "يخشى رؤساء دول الإيكواس من ثورات ضدهم، خصوصاً أنّ بعضهم يريد البقاء في السلطة مخالفةً للدساتير، ففي غينيا قام الرئيس بتعديل الدستور ليحصل على فترة رئاسية ثالثة، وكذلك تشهد ساحل العاج اضطرابات كبيرة".
وذكر مايغا؛ أنّ مسؤولاً كبيراً في وفد المصالحة الأفريقي، صرح علناً؛ أنّ شعوب غرب أفريقيا سيقتدون بشعب مالي لو نجح في إطاحة الرئيس كيتا، ولذلك لن يسمحوا بهذا.
وفرضت دول الإيكواس عقوبات اقتصادية على مالي، عقب اعتقال كيتا، وأغلقت الحدود معها، ممّا يهدد بأزمة اقتصادية كبرى، كوّن مالي دولة حبيسة، لا تطلّ على أية شواطئ بحرية.
ويحتلّ الموقف الفرنسي مكانةً كبرى من بين جميع المواقف؛ لما ترتبط به فرنسا ومالي من علاقات تاريخية، فقد كانت مالي مستعمرة فرنسية سابقة، وتوجد مصالح فرنسية كبرى في البلاد، وأكثر من 5000 عسكري، في إطار التصدي للجماعات الإرهابية في شمال ووسط مالي.
وحول الموقف الفرنسي، يقول، أستاذ الدراسات القرآنية، محمد مايغا: "أدانت فرنسا تدخل الجيش، وعارضت أي تغيير غير دستوري، لكنّ لها مصالح كبيرة في مالي، ويعلم الشعب ذلك، ويعلمون أهمية موقفها، لذلك وجه متظاهرون تهديداً لفرنسا بمهاجمة سفارتها لو تدخلت ضدّ الجيش، كما هاجم آخرون مقراً الشركة توتال كرسالة تحذير".
ويتوقع رئيس الاتحاد الوطني لطلاب المدارس العربية في مالي، عبد الله سيدبي؛ أن يلين الموقف الدولي والفرنسي، لأنهم مضطرون للتعامل مع الجيش؛ لتسهيل انتقال السلطة إلى المدنيين.
فضلاً عن ذلك؛ بعث الجيش في بيانه برسالة طمأنة إلى المجتمع الدولي، عبر تأكيده على احترام المعاهدات الدولية التي وقعت عليها مالي، والعمل على تسليم السلطة للمدنيين، وتطبيق اتفاق الجزائر بخصوص المصالحة الوطنية في شمال مالي.
وكانت الاحتجاجات اندلعت في مالي عقب تزوير الانتخابات البرلمانية، برعاية الرئيس كيتا؛ كي يضمن فوز حزبه بالأغلبية. ووقعت مواجهات بين الشرطة والمتظاهرين أسفرت عن مقتل 23 متظاهراً في حزيران (يونيو) الماضي.