لماذا استبعد المستشرق بلاشير أسرة زهير بن أبي سلمى من العائلات الشعرية؟

لماذا استبعد المستشرق بلاشير أسرة زهير بن أبي سلمى من العائلات الشعرية؟


17/02/2022

يتبوّأ المستشرق الفرنسي ريجي بلاشير (1900 - 1973) مكانة خاصة في عالم الاستشراق لأكثر من سبب؛ فهو مدرّس ضليع للّغة العربية وآدابها، ونال الدكتوراه لقاء أُطروحته المشهورة عن المتنبي، وأمضى سنوات صباه وشبابه متنقّلاً بين المغرب والجزائر. هو إذن خبير بالعربية والعرب والعروبة، وليس مجرّد دارس لها عن بُعد مثل كثير من المستشرقين، لكن بعض أبحاثه مثير للاستغراب حقاً رغم جدّيته ودقّته النسبية. ولعلّ دراسته الموسومة (التأثيرات الوراثية والمصاعب التي تثيرها رواية الشعر القديم) التي أهداها لهاملتون جِب وترجمها عبدالرحمن بدوي، تبرز بوصفها أكثر مساهماته إثارة للتعجّب.

اقرأ أيضاً: هل مات الاستشراق حقاً؟

حاول بلاشير في هذه الدراسة، تخفيف العبء الذي يلقى عادة على كاهل الرواة، وخاصة الرواة الذين اتهموا بإفساد الشعر العربي مثل حماد الرواية وخلف الأحمر. واتجه -بدلا من ذلك- لتحميل جانب من هذا العبء، لأبناء الشعراء وأحفادهم الذين أفادوا بطريقة أو بأخرى من مجد آبائهم وأجدادهم، ولم يدّخروا وسعاً لتكييف هذا المجد وتوظيفه وفقاً لمصالحهم الشخصية أو لتوجهاتهم الإيديولوجية والسياسية. 

 

وقع اختيار بلاشير، على ثلاث عائلات شعرية هي: عائلة حسان بن ثابت وعائلة بشير بن سعد وعائلة جرير، ولم يدّخر وسعاً للتدليل على إفادة الأبناء والأحفاد في هذه العائلات

 

 وقع اختيار بلاشير في هذا السياق، على ثلاث عائلات شعرية هي: عائلة حسان بن ثابت وعائلة بشير بن سعد وعائلة جرير، ولم يدّخر وسعاً للتدليل على إفادة الأبناء والأحفاد في هذه العائلات الثلاث، من قرابتهم الشعرية ناهيك بدورهم في حذف أو إضافة ما يناسبهم من موروثهم الشعري.

بخصوص الشاعر حسان بن ثابت، يحمّل بلاشير ابنه عبدالرحمن وحفيده سعيد، مسؤولية الاضطراب الذي يسِم ديوانه الشعري، جرّاء التفاوت الفني الملحوظ بين قصائده في الجاهلية وقصائده في الإسلام، ناهيك بالتفاوت الموضوعي الملحوظ بين الوجهة الدينية لشعره بوصفه شاعر الرسول -صلى الله عليه وسلّم - والوجهة السياسية لشعر ابنه عبدالرحمن بوصفه شاعر الأنصار في عهد معاوية بن أبي سفيان والوجهة الغنائية لشعر حفيده سعيد بوصفه شاعر الحب !

 

اقرأ أيضاً: ما الحاجة لإعادة التفكير في الاستشراق اليوم؟

وبخصوص الشاعر بشير بن سعد، يحمّل بلاشير أحفاده على نحو غير مباشر، مسؤولية طمس كثير من أشعاره وأشعار ابنه النعمان الذي اضطلع بأدوار سياسية خطيرة في عهد معاوية بن أبي سفيان؛ فأبقوا على ما يعزّز الزهد والورع في شخصيتهما، بوصفهما صحابيين ومحدّثين جليلين. ووفقاً لبلاشير فقد تصادى هذا النزوع لتغييب الجانب الدنيوي في شعر الشاعرين، مع رغبة أهل الحديث من جهة ومع تجاهل علماء العراق لشعراء الشام وخاصة الشعراء الذين ناصروا الأمويين من جهة أخرى.

وبخصوص الشاعر جرير الذي ورث الشعر ثم ورّثه لأبنائه وأحفاده؛ لا يدخر بلاشير وسعاً لتأكيد استبسال أفراد عائلته في تخليد ذكره وتجميل سيرته فضلاً عن استثمار علاقتهم الوطيدة مع علماء اللغة والنحو والأخبار لإعلاء صورته.

 

وقع اختيار بلاشير، على ثلاث عائلات شعرية هي: عائلة حسان بن ثابت وعائلة بشير بن سعد وعائلة جرير، ولم يدّخر وسعاً للتدليل على إفادة الأبناء والأحفاد في هذه العائلات

 

ومع ضرورة التنويه بأنّ المثال الأول الذي ساقه بلاشير قد انطوى على قدر من المغالطة -لأن ديوان حسان بن ثابت تضخّم جداً وتفاوت مستوى قصائده الفني كثيراً بسبب تسابق القرشيين والأمويين والزبيريين إلى تقويله قصائد لم يقلها... ناهيك باختلاط أشعار أبنائه وأحفاده بشعره- فإنّ من المدهش حقاً أن يتجاهل المثال الشعري العائلي الأشهر والأبرز في الأدب العربي القديم بلا منازع، وأعني به عائلة زهير بن أبي سلمى الذي ورث الشعر عن أبيه وخاله وزوج أمه وأورثه لابنيه بجير وكعب اللذين أورثاه بدورهما لأبنائهما وأحفادهما! فلماذا تعامى بلاشير عن هذا المثال الوراثي الصارخ في الأدب العربي؟

اقرأ أيضاً: لماذا نحب قراءة الكتب الرديئة؟

أحسب أنّ بلاشير ارتضى لنفسه الوقوع في هذه الزلّة التي لاتغتفر، إدراكاً منه لحقيقة أنّ زهير بن أبي سلمى -شخصاً وشعراً- موضع إجماع وتبجيل وتوثيق في الجاهلية والإسلام؛ فلم يحتج إلى من يحذف أو يضيف إلى مناقبه الشخصية أو إلى إرثه الشعري الموثّق برواية بصْريّة عالية. كما أنّ ابنه كعباً قد أصاب أضعاف شهرته ومجده بعد أن قال في الرسول -صلى الله عليه وسلم- قصيدته اللامية المدويّة. ناهيك بأنّ زهيراً لم يدرك الإسلام حتى يُستثمر من جانب التيارات السياسية والإيديولوجية المتصارعة بعد مقتل عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وقد آثر كعب بعد إسلامه النأي بنفسه عن  كل ما يثلم الدين أو المروءة؛ أي إنّ مثال عائلة زهير بن أبي سلمى، لا يخدم من قريب أو بعيد أطروحة بلاشير التي تقوم على تكييف الموروث الشعري وفقاً لمآرب الورثة الشخصية والإيديولوجية والسياسية،  فاستبعده تماماً، حتى لا يثلم الاطّراد الذي جهد لتوفيره في أطروحته.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية