هل مات الاستشراق حقاً؟

هل مات الاستشراق حقاً؟


12/01/2022

كثير من الدارسين العرب المتحمسين، يتصدّون للكتابة عن المستشرقين، ويشبعونهم شتماً أو نقضاً، دون أن ينظروا بعين الاعتبار الشديد إلى جملة من الحقائق التي لا يجوز إغفالها، في معرض الاشتباك مع المدوّنة الاستشراقية الواسعة وأبرزها:

أولاً: أنّ الخطاب الاستشراقي موجّه في المقام الأول للقرّاء الغربيين وليس للقرّاء العرب؛ أي إنه يهدف إلى زيادة معرفتهم بنا، أكثر من زيادة معرفتنا بهم، ومن منظورهم هم وليس من منظورنا نحن.

الخطاب الاستشراقي موجّه في المقام الأول للقرّاء الغربيين وليس للقرّاء العرب؛ أي إنه يهدف إلى زيادة معرفتهم بنا، أكثر من زيادة معرفتنا بهم

ثانياً: أنّ الخطاب الاستشراقي نسق معرفي وضعي؛ أي إنه يتعامل مع الإسلام ونبي الإسلام - بما في ذلك القرآن الكريم والحديث الشريف- بوصفهما ظاهرتين تاريخيتين دنيويتين، وليس بوصفهما ظاهرتين مقدّستين.

ثالثًا: أنّ الخطاب الاستشراقي ومهما حاول التخلّص من سلطة التاريخ والدين، سيظل متأثراً - بهذا القدر أو ذاك- بالإرث الإغريقي من جهة وبالرؤية التوراتية من جهة أخرى.

رابعاً: أنّ الخطاب الاستشراقي – كأي خطاب آخر- ليس بريئاً؛ لأن بعضه موظّف سياسياً واقتصادياً، وبعضه موظّف إيديولوجياً، وبعضه موظّف ثقافياً، وبعضه موظّف شخصياً.

خامساً: أنّ الخطاب الاستشراقي – كأي خطاب آخر- يعبّر عن استشعاره لأزمة انسداد الآفاق، عبر البحث عن منافذ وشقوق وتشرّخات، يمكن أن تتكفّل بإطلاق مغامرات فكرية جديدة وبرّاقة.

اقرأ أيضاً: ما الحاجة لإعادة التفكير في الاستشراق اليوم؟

وإذا نظرنا مرة أخرى بعين الاعتبار الشديد، إلى حقيقة أنّ الاستشراق قد لفظ أنفاسه الأخيرة في مؤتمر المستشرقين الذي انعقد في المكسيك عام 1974، وأسدل المشاركون فيه الستار على حقبة طويلة من المعرفة المعجمية بالشرق، وأنّ إدوارد سعيد تسبّب – دون أن يقصد- بإعادة الحياة إلى جثّة الاستشراق التي كانت قد ووريت التراب، أدركنا أهمية إقدام الناقد الدكتور عبد القادر الربّاعي على إصدار كتابه الموسوم (من الاستشراق إلى الاستغراب؛ تفكيك كتاب – محمد والغصن الذهبي-) الذي استهدف بوجه خاص إماطة اللثام عن التناقضات والأغاليط التي اشتمل عليها كتاب المستشرق الأمريكي ياروسلاف ستيتكفيتيش (محمد والغصن الذهبي) الذي صدر بالإنجليزية عام 1997 وترجمه إلى العربية الناقد الدكتور سعيد الغانمي بعنوان (العرب والغصن الذهبي) عام 2005؛ ما يعني أنّ الاستشراق ما زال حياً يُرزق، رغم كل ما لحق به من ضربات ورضات معرفية عميقة. والحق أنّ كتاب الدكتور الربّاعي يستحضر بقوّة، أكثر من مفارقة يصعب تجاهلها: فأطروحة ياروسلاف استشراقية كلاسيكية بحتة رغم أنه كان من أوائل الناقدين للمنهج الاستشراقي القديم، ومن أوائل المطالبين باعتماد (الدراسات العربية الإسلامية) مسمى ومنهجاً جديداً. وياروسلاف – مثل مرجليوث- لم يدّخر وسعاً للتعامل مع نبي الإسلام بوصفه شخصية مسوقة بدوافع وأهداف وغايات ذاتية ودنيوية بحتة، ومع ذلك فقد كُرّم واحتُفي به مراراً في الوطن العربي، بوصفه باعث ومحرّر الميثولوجيا العربية المغدورة!.

الخطاب الاستشراقي – كأي خطاب آخر- ليس بريئاً؛ لأن بعضه موظّف سياسياً واقتصادياً، وبعضه موظّف إيديولوجياً، وبعضه موظّف ثقافياً، وبعضه موظّف شخصياً

وأياً كان الأمر، فقد تصدّى الدكتور الربّاعي في كتابه (من الاستشراق إلى الاستغراب) لتقويض أطروحة ياروسلاف ستيتكفيتيش، التي يمكن تلخيص فحواها بالقول: إنّ جيمس فريزر صاحب كتاب (الغصن الذهبي) قد أخطأ خطأً فادحاً، حينما تجاهل الأسطورة العربية بوجه عام، ولم يُعن على وجه الخصوص بحكاية أبي رغال الذي نجا من العقاب الإلهي الذي حاق بثمود التي عقرت ناقة النبي صالح - عليه السلام- لأنه كان في البيت الحرام، لكنه سرعان ما التحق بقومه وأدركه العذاب فور ابتعاده عن حدود الحرم. واستناداً إلى بعض كتب التفسير والسّير والتواريخ، وليس استناداً إلى كتب الحديث النبوي الست الموثوقة، يزعم ياروسلاف أن النبي محمد – صلى الله عليه وسلم- قد جرّد غزوة تبوك عامداً متعمّداً لسببين اثنين وهما: الابتعاد عما راح المنافقون يسببونه له في المدينة من إحراجات... وإضمار المرور في طريق العودة بقبر أبي رغال وتوجيه أصحابه لنبش القبر بحثاً عن الغصن الذهبي المدفون فيه، وذلك من باب تأكيد صدق نبوّته فضلاً عن تأكيد انتقال المثل الأعلى من النبي صالح إليه. وقد ظل ياروسلاف ينفخ في نيران هذه الحكاية ويقلّبها ذات اليمين وذات الشمال، وصولاً إلى القول بأنّ (أبا رغال) هو العتبة الفاصلة بين سردية الجاهلية المطموسة وسردية الإسلام التي فُرضت بالقوة!

لم يدّخر الناقد الدكتور عبد القادر الربّاعي وسعاً للتنويه برصانة ياروسلاف العلمية، وسعة اطلاعه على الثقافة العربية بوجه عام وعلى الأدب العربي بوجه خاص، فضلاً عن التنويه بالصداقة الوطيدة التي تربطه بهذا المستشرق الأمريكي، لكنه لم يدّخر وسعاً في المقابل للتدليل على تهافت أطروحة (الغصن الذهبي) استناداً إلى عدد من الحجج التي تمثّل أبرزها في تعلّق ياروسلاف بحديث شعبوي ثبت كذب نسبته إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأكثر من وجه. ومع أنّ هذه الحجة تمسّ من جانب آخر مصداقية بعض كتب التفسير والسير والتاريخ التي تساهلت في إيراد الحديث وترويجه، إلا أنّ الدكتور الربّاعي عمل بالقاعدة التي تقول بأنّ الضرر الأكبر يجب أن يدفع بالضرر الأصغر، كما خلص إلى ما لم يخلص له كثير من الدارسين بخصوص الجامع المشترك بين كثير من المستشرقين اللامعين الذي أكثروا الحزّ لكنهم لم يوفقوا في إصابة المفصل؛ وأعني به سهولة انجرارهم خلف بعض التفاصيل والهوامش والأخبار الجانبية وانبهارهم الشديد بها، إلى درجة تعميهم عن رؤية السياق العام والمتن الموثوق، وتجعلهم يظنّون بأنهم قد وقعوا على صيد ثمين، مع أنّ كثيراً مما وقعوا عليه وحاولوا أن يضخّموه تنبه له نقادنا القدامى، فوضعوه حيث يجب أن يوضع دون تهوين أو مبالغة، وما حديث ابن سلاّم الجمحي بخصوص النحل والانتحال في شعرنا القديم – على سبيل المثال- عنا ببعيد، ومع ذلك فقد أقام (مرجليوث) الدنيا ولم يقعدها بخصوص بطلان الشعر الجاهلي كلّه!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية