لبنان كانت "فيتنام إسرائيل" فماذا عن قطاع غزة؟ (3-3)

لبنان كانت "فيتنام إسرائيل" فماذا عن قطاع غزة؟ (3-3)

لبنان كانت "فيتنام إسرائيل" فماذا عن قطاع غزة؟ (3-3)


07/12/2023

ترجمة وتحرير: محمد الدخاخني

امتدّت المفاوضات حول الحرب، التي توسّط فيها جزئيّاً المبعوث الأمريكيّ الخاصّ إلى الشّرق الأوسط فيليب حبيب، صيف عام 1982. وفي آب (أغسطس)، اتّفق الطّرفان على وقفٍ لإطلاق النّار. وبموجب شروط الاتّفاق، أخلت منظّمة التّحرير الفلسطينيّة وأعضاء الفصائل الفدائيّة – حوالي 14,398 شخصاً – بإخلاء لبنان. كما اتّفقت القوّات الإسرائيليّة والسّوريّة على الانسحاب من بيروت. وتشكّلت بعثة لحفظ السّلام مكوّنة من جنود من المملكة المتّحدة، والولايات المتّحدة، وفرنسا، وإيطاليا في آب (أغسطس) لتسهيل عمليّة الإخلاء، وحماية المدنيّين الفلسطينيّين، والمساعدة في الحفاظ على وقف إطلاق النّار. نقلت منظّمة التّحرير الفلسطينيّة وفتح مقرّهما الرّئيس إلى تونس، في حين توزّعت الفصائل الفدائيّة الأخرى إلى مواقع في بلدان عربيّة مختلفة. ووقعت مجزرة صبرا وشاتيلا بعد أقلّ من شهر.

وكانت المذبحة مجرّد مؤشّر واحد من بين مؤشرات عديدة على أنّ هزيمة منظّمة التّحرير الفلسطينيّة لا تعني نهاية الحرب ولا نهاية المنظّمة. وعلى الرّغم من نجاح إسرائيل في قتل العديد من قادة الفدائيّين وحرمان منظّمة التّحرير الفلسطينيّة من قاعدتها في لبنان، فإنّ المنظّمة أعادت تجميع صفوفها في تونس. وواصلت إسرائيل احتلال جزء كبير من جنوب لبنان، وشكّل المقاتلون الفلسطينيّون الذين نجوا من عمليّة «سلام الجليل» خلايا ووحدات جديدة واستمرّوا في قتال إسرائيل. وأثبتت هذه المجموعات، المنفصلة عن أيّ هيكل قياديّ أو تنظيميّ رسميّ، قدرتها على شنّ هجمات عنيفة وفوضويّة على قوّات الاحتلال الإسرائيليّ واستهداف المتعاونين مع جيش الدّفاع الإسرائيليّ. عملت الجماعات الفلسطينيّة أيضاً في بيئة أخذت تتشكّل على نحو متزايد من المقاومة اللبنانيّة المحلّيّة للاحتلال الإسرائيليّ، بما في ذلك حزب الله - الذي تمّ إنشاؤه لطرد جيش الدّفاع الإسرائيليّ - وجماعات يساريّة مثل الحزب الشّيوعيّ اللبنانيّ. وبشكل جماعيّ، ثبت أنّه من المستحيل هزيمة هذه المنظّمات. احتلّت القوّات الإسرائيليّة مناطق في جنوب لبنان لمدّة 18 عاماً أخرى، وشنّت غارات بعد غارات واعتقالات تلو اعتقالات. لكن على الرّغم من كلّ قدراته – الضّربات الجويّة، والعملاء، والدّوريّات، ووحدات الكوماندوز – لم يتمكّن الجيش الإسرائيليّ من القضاء على خصومه.

المفاوضات

سوف تعتمد النّتائج في غزّة على المفاوضات بشأن قضايا مختلفة تماماً عن تلك التي كانت موجودة في لبنان. الأخيرة دولة ذات سيادة لها حكومتها، ومواطنيها، واقتصادها، وديناميكيّاتها المعقّدة. (أدّت استضافة منظّمة التّحرير الفلسطينيّة والفدائيّين الفلسطينيّين إلى دقّ إسفين في السّياسة الدّاخليّة اللبنانيّة وساعدت في تأجيج الحرب الأهليّة التي دامت 15 عاماً في البلاد). والأولى أرض فلسطينيّة تقول المنظّمات الدّوليّة والجماعات الحقوقيّة إنّ إسرائيل تحتلّها وتحاصرها منذ 16 عاماً. وليس لدى غزّة اقتصاد قائم بذاته أو سيطرة على الكهرباء والمياه.

من الصّعب أن نقول كيف ومتى يمكن أن تنتهي هذه الحرب

لكن الدّروس العسكريّة والإنسانيّة التي تعلّمناها من لبنان تشير بقوّة إلى أنّ الظّروف الكارثيّة الحاليّة في غزة سوف تزداد حدّة، وأنّ هناك عواقب كارثيّة طويلة الأمد سوف تلحق بالأطراف كافة.

 إنّ المقاربة التي تتّبعها إسرائيل منذ فترة طويلة في حرب المدن، وخططها للاحتلال (قال نتنياهو إنّ إسرائيل ستتولّى «مسؤوليّة أمنيّة شاملة» تجاه غزّة لـ«فترة زمنيّة لا نهاية لها»)، وتحالفاتها مع ميليشيّات غير حكوميّة، واستخدامها للسّجن الجماعيّ، كلّها أشياء تعكس ما حدث في لبنان. ولذلك فمن الصّعب أن نتصوّر أنّ النّتيجة ستكون مختلفة بشكل جوهريّ.

 

المقاربة الإسرائيلية في حرب المدن، وخططها للاحتلال واستخدامها للسجن الجماعي، تعكس ما حدث في لبنان. ولذلك فمن الصعب أن تكون النتيجة مختلفة 

 

ويمتدّ ذلك، للأسف، إلى عدد القتلى. لا أحد يعرف على وجه التّحديد عدد الأشخاص الذين قتلوا في حرب عام 1982، ولا تشمل السّجلات الرّسميّة الأشخاص المدفونين تحت الأنقاض، أو الأشخاص الذين دفنتهم عائلاتهم في السّاحات أو على سفوح التّلال، أو الأشخاص الذين اختفوا خلال أحداث مثل مجزّرة صبرا وشاتيلا. لكن وفقاً لتقديرات الحكومة اللبنانيّة وسلطات المستشفيات، قتلت عمليّة «سلام الجليل» 19,085 لبنانيّاً وفلسطينيّاً في الأشهر الأربعة التي تلت انطلاقها، وحوالي 80 في المائة من هؤلاء كانوا من المدنيّين. وقدّرت منظّمة التّحرير الفلسطينيّة أنّ 49,600 مدنيّ قتلوا أو جرحوا، وأنّ هناك  5,300 قتيل في صفوف الفدائيّين. وفي تلك الأشهر الأربعة نفسها، وردت تقارير عن مقتل 364 جنديّاً إسرائيليّاً أثناء القتال وإصابة 2,388 آخرين. وعلى مدار حرب لبنان برمّتها والاحتلال اللاحق لجنوب لبنان من عام 1982 إلى عام 2000، قُتل 1,216 جنديّاً إسرائيليّاً، معظمهم في اشتباكات مع حزب الله.

وبطبيعة الحال، فإنّ أعداد الضّحايا الفلسطينيّين تفوق أعداد الضّحايا الإسرائيليّين - وهو مؤشّر آخر على مدى عدم تناسب تكتيكات جيش الدّفاع الإسرائيليّ. وهذا لا يجعل الخسائر الإسرائيليّة ضئيلة. الضّرر حقيقيّ للغاية، ويمتدّ إلى ما هو أبعد من مجرّد الوفيّات والإصابات الجسديّة. لقد قدّرت دراسة أجراها «المركز الإسرائيليّ للصّدمة النّفسيّة والتكيُّف» أنّ ما يقرب من 20 في المائة من الـ 70 ألف إسرائيليّ الذين خدموا في حرب عام 1982 تظهر عليهم أعراض اضطراب كرب ما بعد الصّدمة، وأنّ 11 في المائة منهم فقط طلبوا العلاج. ويُشار إلى لبنان باسم «فيتنام إسرائيل» لسبب وجيه.

متى تنتهي الحرب؟

ونظراً للتّوترات الشّديدة الحالية، فمن الصّعب أن نقول كيف ومتى يمكن أن تنتهي هذه الحرب. لقد أصبحت قطر مركزيّة بشكل متزايد كوسيط في هذا الصّراع، حيث قامت بالوساطة بين حماس، وإسرائيل، والولايات المتحدة. لكن واشنطن هي الجهة الفاعلة الوحيدة التي يمكنها الضّغط بشكل فعّال على الحكومة الإسرائيليّة لوقف القتل الجماعيّ في غزّة والعنف في الضّفة الغربيّة. ويبقى أن نرى ما إذا كانت إدارة الرّئيس الأمريكيّ جو بايدن ستفعل ذلك.

 

في يوليو 1982، أوقف البيت الأبيض شحنات ذخائر عنقودية إلى إسرائيل، معلناً أنّ الإسرائيليين انتهكوا الاتّفاقيات بعدم استخدام هذه الأسلحة في المناطق المدنية

 

وإذا فعل بايدن ذلك، فإنّه سيتبع سابقة أرساها رئيس أمريكيّ آخر: رونالد ريغان. عندما بدأت حرب لبنان، انقسمت إدارة ريغان: أراد البعض المطالبة بالانسحاب الفوريّ لإسرائيل تحت التّهديد بفرض العقوبات، في حين رأى آخرون أنّ منظّمة التّحرير الفلسطينيّة وسوريا لابدّ أن تُرغَما على الانسحاب أيضاً. ولكن مع تطوّر الصّراع إلى كابوس إنسانيّ، أصبح الرّئيس أكثر انتقاداً. وفي تمّوز (يوليو) 1982، أوقف البيت الأبيض شحنات ذخائر عنقوديّة إلى إسرائيل، معلناً أنّ الإسرائيليّين انتهكوا الاتّفاقيّات القائلة بعدم استخدام هذه الأسلحة في المناطق المدنيّة. بعد قصف جيش الدّفاع الإسرائيليّ المميت بشكل خاصّ خلال حصار بيروت، اتّصل ريغان ببيغن وطالب جيش الدّفاع الإسرائيليّ بوقف القصف. وللقيام بذلك، استخدم مصطلحات عاطفيّة عميقة. قال ريغان: «هنا، على تلفزيوننا، ليلة بعد ليلة، تُعرض على شعبنا رموز هذه الحرب، وهي عبارة عن محرقة». وفي نيسان (أبريل) 1983، أخبر الجمهور أنّ إدارته أوقفت مبيعات طائرات «إف 16» لإسرائيل، وقال إنّها لن تُستأنف حتّى تنسحب إسرائيل من لبنان.

 إنّ وقف إطلاق النّار هو السّياسة الوحيدة المعقولة سياسيّاً والمعزّزة للأمن والتي يمكن الدّفاع عنها أخلاقيّاً

وهناك أدلة على أنّ مطالب الإدارة أجبرت صنّاع القرار الإسرائيليّين على تغيير سلوكهم. وفي تمّوز (يوليو) 1982، كتبت الواشنطن بوست عن الاعتدال «الملفت للنّظر» في سلوك الحكومة الإسرائيليّة - واستشهدت بريغان باعتباره السّبب الرّئيس. وجاء في المقال: «ذكرت وسائل إعلام إسرائيليّة أنّ العامل الرّئيس في «المرونة» الجديدة لحكومة بيغن كان الرّسالة الصّارمة التي وجّهها الرّئيس ريغان الأسبوع الماضي».

بايدن واستخدام نفوذ الولايات المتحدة

واليوم، يجب على بايدن استخدام نفوذ الولايات المتّحدة مرّة أخرى للضّغط من أجل إنهاء الحرب الإسرائيليّة. إنّ وقف إطلاق النّار هو السّياسة الوحيدة المعقولة سياسيّاً والمعزّزة للأمن والتي يمكن الدّفاع عنها أخلاقيّاً، خاصّة إذا كان لدى واشنطن أيّ أمل في أن تظلّ لاعباً يحظى بالاحترام في الشّرق الأوسط. البديل هو الحكم على سكّان غزة ـ الذين يعارض أغلبهم حماس ـ بمزيد من القنابل، والرّصاص، والحروق، وجعلهم يتحمّلون الجفاف، والجوع، والمرض بشكل مستمرّ. البديل هو إعادة أيّ فرصة متاحة للتّنمية - في منطقة سكّانيّة مُفقَرة ومكتظّة بالفعل - عقوداً إلى الوراء. ومن المرجّح أن يؤدّي ذلك إلى خلق جيل جديد من المسلّحين الذين يخاطرون بحياتهم لمحاربة إسرائيل. «لقد حدث كلّ هذا من قبل» هي أقوى حجة لمنع حدوث شيء ما مرّة أخرى.

مصدر الترجمة عن الإنجليزية:

سارة باركنسون، فورين أفيرز، 17 تشرين الثّاني (نوفمبر) 2023




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية