كيف يمكن للعراق تجاوز أيام الطائفية المريرة؟

كيف يمكن للعراق تجاوز أيام الطائفية المريرة؟

كيف يمكن للعراق تجاوز أيام الطائفية المريرة؟


08/09/2024

عامر الطيب

حي حين جرى الاستفتاء حول الانتخابات التي أجريت عام 2005 في العراق، وصف 89 في المئة من الشيعة الانتخابات بالنزيهة، فيما وصفها 94 في المئة من السنة بغير النزيهة، ولم تكن رؤية الشيعة مغايرة للرؤية ذاتها التي يبديها السنة تجاه نظام صدام الدكتاتوري إذ يمنحه الأفراد – أغلبهم وليس الجميع – السنة العاديون شرعية معقولة حتى عندما يبدون ناقمين منه أو عليه.

مفهوم ملتبس

من هذا التلاعب بجوهر المعايير تنطلق الهوية الطائفية في جو من الأدلة الدينية التي يسهل استمالتها ضمن سياق خاص ومعين وبالتالي فإن الطائفية مشكلة سياسية أكثر مما تبدو مشكلة دينية أو صراعا مذهبيا لعله كان منذ بدايته خلافا على إدارة السلطة لا على طريقة عيش الناس.

مسار الدولة العراقية الحديثة منذ بدايته لم يكن مسارا وطنيا خالصا، فقد تم إقصاء الشيعة ووضعهم في زاوية الفرس أو المرتبطين بالأجنبي الفارسي، وهي النظرة التي ترسخت مع الصراع الصفوي العثماني، ليبدو السنة عربا وينسب الشيعة إلى الفرس، حتى إن قولا شائعا نسب للنبي؛ “ما حن أعجمي على عربي قط”، ظل يغمز به الشيعة بسبب ارتباطات دينية معينة مع أن العجم هم غير العرب وليسوا الفُرس فحسب.

عام 1920 وصف مزاحم الباجه جي، وهو أفندي عراقي مؤثر آنذاك، الاحتجاجات التي اندلعت قائلا “إن الحركة ليست حركة عربية خالصة بل هي ممتزجة بعنصر أجنبي”. وهو قول يريد به ربط أي معارضة شيعية بالعنصر الفارسي، ولعلها السياسة ذاتها التي اعتمدها صدام حسين بعد انتفاضة عام 1991 حيث تم التنكيل بالشيعة وتجريدهم من أصولهم العربية وربط مذهبهم العربي العريق بالطموح الإيراني.

قسمتْ الدولة العراقية الناشئة العراقيين إلى أصلاء وغير أصلاء، والأصلاء هم الذين سجلوا كرعايا عثمانيين بينما غير الأصلاء هم المسجلون كرعايا أو تبعية إيرانية، وقبل إصدار قانون الجنسية كان الدستور العراقي عام 1921 يسير لصالح الرعايا العثمانيين أي العراقيين الأصلاء، ليمضي عام 1922 قانون انتخاب الجمعية التأسيسية بعيدا ويعرف العراقيين بوصفهم “كل من كان من الرعاية العثمانيين ممن يقيم في العراق الآن ولا تجوز عليه جنسية أجنبية”.

ولا يعني هذا الكلام بأننا ننسب الطائفية لطرف دون طرف بقدر ما نعني أن مشكلة الطائفية هي مشكلة عجز الدولة العراقية عن حماية نفسها من الهويات الدينية وهي الملاحظة التي يمكننا أن نبديها تجاه ما حدث في المظاهرات العراقية الأخيرة في أكتوبر، إذ بذلت الحكومة الشيعية جهدا كافيا لإقناع جمهورها بارتباط ذلك الحراك بدول أخرى أو بالسفارة الأميركية في لحظة استثنائية حاولت فيها السلطة الشيعية تجريد أبنائها من هويتهم دون مراجعة إخفاقاتها الكارثية على مستوى الأمن والصحة والاقتصاد.

الطائفية مفهوم ملتبس ليس لصعوبة تفكيكه إنما لتداخله الديني والاجتماعي والثقافي، ويبرز هذا التداخل بشكل أوضح في العراق الحديث مع أن بدايته ظهرت مع العصر الأموي، وتبلورت مع العصر العباسي مرورا بالعصرين الصفوي والعثماني.

جذور الطائفية

يبدو الإسلام أقل الديانات انقساما لأن جميع الطوائف تؤمن بالإله الواحد والكتاب الواحد والنبي الواحد، وتتجه نحو القبلة الواحدة في عبادتها، لكن تلك النظرة ما تلبث أن تتلاشى بمجرد الاطلاع على الصراعات المذهبية وحروب التكفير، وهي وإن بدت سياسية فإنها لا تخلو من جانب ديني في بنيتها.

يقر القرآن بالاختلاف بل يذهب إلى أبعد من ذلك إذ يعتبره ضرورة في بناء أي مجتمع، حتى نقرأ في سورة هود “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين” لكن محاولة كل مذهب انتزاع الأحقية في فهم القرآن ومعرفة مقاصده صنعت لنا مشهدا آخر.

برز الاختلاف الطائفي على مسرح الأحداث لأول مرة بصورة جلية حين توفي النبي، إذ اختلف المهاجرون والأنصار على من يخلفه فيدير الأمور من بعده ويرعى المصالح، ثم ما زاد الاختلاف شراسة هو عدم وجود وصية دقيقة للنبي يسند فيها أمر الخلافة لأحد من الصحابة.

غير أن الطائفية لم تتبلور على نحو من الجدية إلا مع حرب صفين حيث سينقسم المسلمون انقساما مؤلما بين معسكر علي ومعسكر معاوية، وهو الانقسام الذي كان من تبعاته واقعة كربلاء في العراق.

أريد للعراق أن يكون مسرحا للصراعات الطائفية إذ حدثت على أرضه معظم ثورات العصر الإسلامي، وقد ساهم اضطهاد الشيعة في العصرين الأموي والعباسي باتساع الفجوة بين السنة والشيعة، وهو الاضطهاد الذي لم تتخفف حدته إلا مع مجيء المأمون، وقد كان شيعي الهوى، فقرب الإمام الرضا منه وأعلنه وليا للعهد.

يرى المؤرخ المصري أحمد أمين أن المأمون اتخذ هذا الإجراء لأسباب يشرحها يهمنا منها أن المأمون استعرض الفتن التي حدثت في تاريخ الإسلام فوجدها تضعف الكلمة وتشتت المسلمين، وأساس تلك الفتن هو اضطهاد مذهب يدين به جزء كبير من المسلمين مثل مذهب الشيعة.

وإذا كان عهد المأمون عهدا منطقيا من الناحية السياسية فإن المتوكل أقصى جميع المذاهب وحاربها عدا مذهب أهل الحديث أي أهل السنة من أتباع الحسن الأشعري، سفك المتوكل دماء كثيرة من المعتزلة والشيعة وهدم قبر الحسين حتى سماه المستشرقون “نيرون الشرق”، وبالتالي كان المتوكل استمرارا لتأسيس دولة شديدة على أساس طائفي وهي الصيغة التي لا تزال تجر المزيد من الويلات على أبناء الطوائف وتمنعهم من التعايش ضمن بلد واحد بسلام ورفاهية.

ما يمكن ملاحظته أن الطائفية تزداد وتختفي حسب الصراعات والرهانات السياسية وهو ما نراه بشكل جلي في العهد العثماني إذ شاء أن يكون ثمة صراع بين إمبراطورية عثمانية سنية وإمبراطورية صفوية شيعية، وأن يكون العراق مسرحا لهذا الصراع الكبير.

يكشف التاريخ أن الولاة العثمانيين ساهموا مساهمة كبيرة بتمزيق الروابط الدينية والاجتماعية في نسيج المجتمعات التي سيطروا عليها، فما الذي يفسر عدم تعيين وال شيعي في العراق خلال الـ400 سنة من حكم العثمانيين؟

إذ جرت أكبر حملات إبادة الشيعة في أوائل هذا العهد على يد العديد من ولاته ولم يسمح للشيعة مثلا حتى بإقامة مجالس العزاء للحسين في أيام عاشوراء.

وتشير حادثة الهجوم على كربلاء في العام 1801 إلى نظرة الولاة العثمانيين للشيعة، فقد هاجمت مجموعات مسلحة مدينة كربلاء وتزامن الهجوم مع أحد أعياد الشيعية وهو عيد الغدير، حيث ذهب أكثر أهالي كربلاء إلى مدينة النجف لزيارة مرقد الإمام علي.

قتل المهاجمون من أهالي مدينة كربلاء حتى الشيوخ والنساء والأطفال فتجاوز عدد القتلى 2000 – 5000 شخص واستولوا على مرقد الحسين وهدموا القبة ومع استمرار الهجوم لثماني ساعات فإن القوات العثمانية لم تحرك ساكنا، بل إن الجندرمة اكتفت بالتفرج. ويشير ستيفن لونكريك في كتابه “أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث” إلى أن هناك تواطؤا سريا من قبل عمر آغا (حاكم كربلاء) مع المهاجمين من الحركة الوهابية، إذ يقول “لكن الملاحظ أن عمر آغا هرب إلى قرية قريبة من كربلاء أول ما علم بالخطر فلم يدافع قط، مع أن الناس كانوا يتهمونه بالتواطؤ”.

متى بدأت الفتنة الطائفية الأخيرة؟

وجد العراقيون أنفسهم فجأة في صراع لإثبات هوياتهم الدينية والمفارقة أن الهويات القبلية أصبحت دالة على مذهب الشخص، إذ يشير لقب أحد ما إلى مذهبه فهناك عشائر شيعية وأخرى سنية وأخرى فيها كلا المذهبين، وهو ما كان يدفع السيطرات الوهمية إلى اختبار الشخص عبر امتحان لمعلوماته الفقهية ضمن المذهب الذي يدعيه.

قتل أشخاص كثر بسبب قبائلهم وأسمائهم، وهي اللحظة التي يبدو فيها مصطلح المفكر اللبناني أمين معلوف “الهويات القاتلة” مصطلحا دالا على نحو هائل من الواقعية حين يتعدى حالته المجازية تماما.

إن السؤال من بدأ الفتنة؟ سؤال طائفي مهما كانت النوايا التي تحاول تفكيكه، أما السؤال الحقيقي فهو كيف بدأت ومتى؟ ولأن المقال ينبغي أن يكون قد قدّم عبر خطابه الكلي جوابا عن كيفية حدوث الطائفية، فإن سؤال متى كسؤال عن زمن الحدث الراهن هو ما يتوجب إجابته.

الجواب حين يتم تبسيطه يشير إلى الساعة السادسة وخمس وأربعين دقيقة في فبراير عام 2006 حين انفجرت عبوة ناسفة داخل ضريح الإمامين العسكريين في سامراء، لم يخلف الانفجار أضرارا بشرية، لكن مشاهدة القبة الذهبية للإمامين علي العادي والحسن العسكري وهي تنهار دفع الشيعة إلى الغضب الانتقامي الذي لم توقفه أي قوة قانونية رادعة، بل إن الدولة الهشة سمحت به بطريقة أو أخرى وهو ما يكشفه زلماي خليل زاده السفير الأميركي في العراق في مذكراته “السفير من كابول إلى البيت الأبيض رحلة في عالم مضطرب”.

يقول زاده إنه ذهب إلى إبراهيم الجعفري رئيس الوزراء آنذاك ليطالبه باتخاذ إجراء لخطورة ما حدث، فاكتفى الجعفري بأن العراقيين بحاجة إلى التنفيس عن غضبهم. وبصرف النظر عن دقة ما نقله زلماي أو عدم دقته فإن الكلام الذي ينقله له مقابله الموضوعي في الواقع العراقي إذ لم يحرك الجعفري أي ساكن، بل إن الميليشيات الشيعية كانت تقتل السنة بسيارات الدولة وأحيانا تستخدم سيارات الإسعاف لاختطاف الأفراد السنة وقتلهم في عمل همجي يبرز خلو الحالة العراقية لا من الدولة فحسب، إنما أيضا من الأخلاقيات المعهودة في أي حرب.

اشتعل الشارع العراقي غضبا وفورانا، وصار الأمان آخر ما يمكن التفكير به، إذ لم يعد العراقيون يعرفون من العدو ومن الصديق؟ من الملثم ولأي جهة ينتمي؟ لمن قواطع التفتيش للميليشيات السنية أو الشيعية أم للدولة الهشة؟

لقد نشطت الميليشيات لتمثل بديلا سيئا للدولة بالحفاظ على حياة مكوناتها عبر قتل أبناء المكونات الأخرى، وإذا كان الشيعة مدفوعين بسبب القهر الذي عاشوه طوال العقود، وهو القهر الذي تلمسوه بأيديهم في المقابر الجماعية حيث عثر الأهالي على جثث أولادهم وأقاربهم ممن نكل بهم النظام البعثي المحسوب على السنة، فإن السنة اندفعوا بغضب فقدانهم السلطة وخروجهم من إدارة الحياة العراقية وقلقهم من عدم وجود دولة عراقية تعاملهم كعراقيين لا كأبناء نظام سني مخلوع.

خلص “تنفيس الشيعة عن غضبهم” حسب رؤية الجعفري إلى أن أكثر من 66 ألف مدني لقوا مصرعهم بين عامي 2006 و2008، وهي الفترة التي وصلت الحرب الطائفية فيها إلى ذروتها. لتظل تلك السنوات أبشع ما يتذكره العراقيون، سنوات الخوف والدم وعدم الثقة وفقدان الحكمة، سنوات تعلم منها هذا الجيل درسا متأخرا: العراق يسع الجميع لكنه لا يكفي لأن يكون وطنا لأحد دون أحد.

دفاعا عن التنوع

هل انتهت الطائفية بالفعل؟ تلزم الإجابة على هذا السؤال إعادة التعريف بالطائفية والبحث عن أسبابها وهي الأشياء التي حاولنا مقاربتها، فالمسألة الطائفية في بعدها السياسي غالبا ما تعزى من قبل الناس البسطاء وبعض النخب أيضا إلى تدخل العالم الغربي أو المستعمر على نحو أدق، وهو كلام لا يمس جوهر المشكلة وإن كان يحمل شيئا من المعقولية.

يرى الأكاديمي اللبناني أحمد خليل أن “الطائفية في لبنان والعراق تعكس الحرب على الإسلام وهي الطريقة التي تصب في خدمة الاستعمار الجديد للشرق الأوسط”.

 تبدو نظرية المؤامرة جوابا جاهزا لمشكلة الطائفية بدلا من الذهاب أبعد نحو إعادة تعريف الهوية الطائفية بغية كشف هشاشتها وبدائيتها والتركيز على قيم المواطنة أو تحويل المواطنة إلى سلوك راسخ وهو الأمر الذي يقع على عاتق الدولة والمؤسسات سواء الحكومية أو غيرها.

الخوف من الطائفية وكراهيتها لا يقود إلى التخلص منها، بمعنى أن اعتبارها تابوها محرما يزيد من خطورتها، وقد ظل هناك تهرب من الحديث عن الطائفية في العراق حتى أدى هذا التهرب إلى انفجار طائفي فظيع وهو التهرب الذي بدأت معه كلمتا سني وشيعي كلمتين للتفرقة، مع أن الانتماء المذهبي لا يتقاطع مع القيم الوطنية الجامعة والقوانين والدساتير التي ترسخ تلك القيم وتحمي انحيازها الإيجابي للإنسانية.

العراق بلد متنوع، وذلك التعريف الصغير بحاجة إلى الإيمان به وفهمه مجددا، ولن يتحقق هذا الفهم إلا مع شجاعة الاعتراف بتلك التنوعات.

ما هو أخطر من الطائفية هو الطائفية الخفية وهذا ما ينبغي التركيز عليه وتحليله، ونعني بذلك الصراع الذي يتم إخفاؤه مع ترسيخه إذ يضطر كل مذهب إلى خلق جيوب سرية لا تجد الوقت مناسبا للظهور كشبح، إنها تنتظر الفرصة المناسبة، وقد عاش العراق في عصوره كوارث هذا الانفجار الطائفي.

عام 1950 كتب السير البريطاني هنري ماك السفير البريطاني في العراق “إن الصراع بين الطائفتين يبقى مخفيا ويخجل من الحديث عنه كلا الطرفين وكلاهما يرغبان بحله دون حدوث صدام سياسي علني”.

إن الهوية الطائفية هوية هشة رغم أنها متأصلة لأن فطرة العراق المتعدد أكثر رسوخا منها حتى تجد من الصعوبة تسويق فكرة إنهاء مكون طائفي بكامله، ولا أحد يفكر بذلك غير بعض رجال الدين محدودي الفكر، ومع تذكر ما حدث في 2007 و2008 فإن معظم العراقيين وجدوا أن العراق المتعدد هي الفكرة الأسلم والأفضل حتى إن تلك القناعة أصبحت تحاصر الخطاب الديني الذي يتغذى غالبا على تضخيم العقد الدينية وتهويل الفجوات التاريخية بين المذهبين.

إن صناعة هوية عراقية ينبغي ألا تكون على حساب إلغاء الهويات المتنوعة بل على فهمها واحترامها ومحاولة التركيز على خيوط التقارب بينها، بما أنها هويات توحدها الرؤية إلى الأرض والمصير والمستقبل.

يقترح الباحث العراقي سليم مطر في كتابه “الذات الجريحة” حوارا شاملا بين الطوائف إذ يرى أن التأكيد على هوية موحدة على حساب تفهم الاختلافات الطائفية كان له أثر ضار على التماسك الاجتماعي.

إن أغلب العراقيين لا يملكون معلومات عن التنوعات الدينية التي يؤمنون بها إذ تبدو الثقافة الدينية منحصرة بالمذهب الذي يدينون به لذا من اللازم تأسيس معرفة شاملة لا تبحث في نشوء المذاهب الدينية في العراق إنما في ضرورة وجودها وحمايتها فلا جمال للعراق ولا قيمة لهويته الموحدة مع فقداننا أي مكون صغير من مكوناته الدينية أو العرقية، وعبر هذا الفهم ينبغي أن تؤسس الإرادة العراقية دولتها الحديثة إذا كانت ترغب ببناء عراق أكثر سلاما وازدهارا.

العرب




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية