كيف ومتى تخرج تونس من أزمتها الدستورية؟

كيف ومتى تخرج تونس من أزمتها الدستورية؟


08/04/2021

مختار الدبابي

السياسيون منقسمون إلى فريقين كل منهما يسجل النقاط على خصمه ويرقص فرحا بانتظار "نصر جديد" في موضوع جديد. وتدفع هذه العقلية إلى تعطيل كل شيء والاستنفار فقط لأجل المعركة السياسية بين الخصوم، ما يطرح أسئلة بشأن مستقبل الأزمة التي تعيشها تونس: كيف نخرج من مرحلة الفراغ ومتى؟

منذ 2011 تقاد تونس بأسلوب تحقيق النقاط على الخصوم ولأجل ذلك يتم عرقلة كل شيء، والأمر يشمل جميع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

الإضرابات والاعتصامات وقطع الطرق كان أسلوب الطبقات الوسطى والفقيرة لإجبار الدولة على تحقيق تنازلات تحت الإكراه. لكن في السياسة المعركة من نوع آخر وبأشكال أكثر راديكالية، تقوم على تعطيل المؤسسات لأجل تسجيل النقاط على الخصوم بانتظار ضربة قاضية لا أحد مرشح للسقوط بها أكثر من البلد نفسه الذي لم يعد يقوى على تحمل هذه اللعبة السمجة.

جاءت قضية المحكمة الدستورية لتظهر للناس حجم المعركة بين الفرقاء السياسيين الظاهرين في المشهد وحلفائهم في الظل.. الرئيس قيس سعيد، ومؤسسة البرلمان ورئيسها راشد الغنوشي، ورئيس الحكومة هشام المشيشي سرعوا معركة تسجيل النقاط في الأشهر الأخيرة، إلى أن بلغنا قضية المحكمة الدستورية التي توحي بأن المنتصر فيها سيفوز بالضربة القاضية.

كل المؤشرات تقول إن التحالف البرلماني بين حركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة سيدفع نحو انتخاب ما تبقى من أعضاء المحكمة من كوتا البرلمان، وقد تخرج إلى العلن محكمة عرجاء يغيب عنها ممثلو رئيس الجمهورية، وتصبح أداة جديدة في الحرب الحامية بين الطرفين.

قيس سعيد يقول إن المحكمة لن تمر، وقد فات أجلها القانوني، وإنه لن يخرق الدستور لأجل عيون من فوتوا فرصة تشكيل المحكمة لحسابات حزبية وشخصية خلال ست سنوات، وهو أمر سيعني آليا أن حالة البلوكاج ستستمر إلى فترة طويلة وأننا قد نصل إلى انتخابات 2024 ونحن كما نحن الآن، كل شيء معطل ومؤجل ومحكوم بأمزجة السياسيين.

ليس المهم من هو على حق، المهم أن نصل إلى نقطة ارتكاز وسطى يمكن أن تفضي إلى حل عبر التسويات والوساطات، حل يقوم على التوافق وليس المغالبة التي ستقود البلاد إلى فراغ دستوري يعطل عمل المؤسسات وينقلب تأثيرها سلبا على صورة الأطراف التي تعتمدها.

وإذا كانت تجربة عشر سنوات قد كانت كافية لتهرئة صورة الأحزاب، وخاصة حركة النهضة الإسلامية التي كان الحكم يتمركز حولها سواء كانت في القيادة العلنية أو من وراء الستار، فإن الاستمرار في مسار المغالبة سيؤثر على صورة سعيد بصفة مباشرة.

وليس خافيا أن الغنوشي يعتمد تكتيكا مستفزا لقيس سعيد يدفع فيه إلى أن يظهر في حالة تشنج وهجوم دائم على “المؤامرات” و”الغرف المظلمة”.. لكن الناس، التي أعجبت بصراحة سعيد وجرأته ونظافة يده ورغبته في مواجهة لوبيات السياسة والفساد وعدم الانجرار إلى لعبتها، لم تعد تقدر على الانتظار طويلا لتعرف حقيقة ما يجري، وهل أن الرئيس فعلا يحارب كل هؤلاء أم أن الأمر ليس أكثر من معركة مع طواحين الريح.

ولا شك أن الرئيس ومحيطه واعيان بهذه المشكلة التي لا يمكن التغافل عنها، فنسبة الداعمين لسعيد بدأت بالتراجع التدريجي، وفق ما تظهره استطلاعات الرأي الأخيرة، وهو يقترب مع الوقت ليكون من ضمن الطبقة السياسية الميؤوس من صلاحها، والتي تضم أبرز منافسيه وعلى رأسهم الغنوشي الذي تقدمه الاستطلاعات كأسوأ شخصية لدى الجمهور.

لكن الأهم من هذا أن تونس لم تعد قادرة على انتظار صراع سعيد والغنوشي، وهو صراع شخصي في نظر الكثيرين حتى وإن كانت مفرداته تتعلق بالحرب على الفساد أو تمتين المؤسسات الديمقراطية.. والتحليل المنطقي يفضي إلى هذه الحقيقة، فقيس سعيد أخذ الكثير من الوقت لإثبات ذاته كـ”رئيس وحيد”، والغنوشي الذي يتقن التحالفات والمعارك من وراء الستار يمنع خصمه من تحقيق هدفه ويلاعبه لإدامة المعركة وإخراجها من بعدها المبدئي القيمي إلى واجهة الصراع على السلطة، وهذا جوهر خطة استنفاد شعبية سعيد وصورته كبديل نظيف لبيئة مختنقة بالتلوث السياسي.

وإذا ابتعدنا عن حسابات المصالح الشخصية، ومن يقدر على الصبر كأثر في معركة لي الذراع بين رؤوس الحكم، سنجد أن البلاد مقبلة على وضع صعب سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وأن الجميع سيتحمل نتائج ذلك.

ولعل أهم ملامح هذه الصورة هو سير تونس نحو انقسام سياسي حاد بين فريقين، الأول يقوده رئيس الجمهورية ومن حوله “الحزام الثوري”، وهو حزام ضعيف تشقه الخلافات حتى داخل الحزب الواحد (التصعيد بين الصافي سعيد وحركة الشعب، والتوتر داخل التيار الديمقراطي رغم عودة أمينه العام غازي الشواشي عن الاستقالة). ويحاول سعيد استمالة جمهور الدساترة والتجمعيين (حزب نظام ما قبل 2011)، وهذا ما تحمله الرسالة من وراء زيارته ضريح الزعيم التاريخي الحبيب بورقيبة منذ يومين.

الفريق الثاني يضم الغنوشي والمشيشي وبقية فصائل الحزام البرلماني، وهو أقوى عدديا وأقدر على المناورة واللعب على الوقت خاصة أنه بات يضم عددا لا بأس به من النواب المستقلين والكتل التي تضم محسوبين على نداء تونس ممن يدعمون حكومة المشيشي ويلعبون دورا مؤثرا في تركيبتها.

ومن شأن السباق الواضح نحو المغالبة أن يفرز “شرعيتين” داخل الدولة، شرعية البرلمان والحكومة التي تنبثق عنه وفق الدستور، وشرعية رئيس الجمهورية، وكل شرعية ستعمل على كسب الدعم المحلي والخارجي، ولا أحد يفكر في التنازل ولو تكتيكيا وإلا بدا وكأنه المنهزم في ملعب سياسي تحكمه الشعارات والمزايدات و”الخطاب الثوري” القائم على ثنائية الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش “من ليس معي فهو ضدي”.

وقد أفشل خطاب المغالبة مبادرة الحوار الوطني التي عرضها الاتحاد العام التونسي للشغل، والتي تسعى لإيجاد توافقات للخروج من الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحادة للبلاد. ويضع رئيس الجمهورية شرطا رئيسيا للتعاطي مع هذه المبادرة، وهو استقالة حكومة المشيشي، لكن الغنوشي يتمسك ببقاء رئيس الحكومة.

وقال الغنوشي، الثلاثاء، بعد تسريبات عن شرط الرئيس سعيد، “المشيشي رجل دولة ويقوم بواجبه رغم العراقيل وسيجد دعما مطلقا منا في كل خطواته (…) ولا تفاوض في شان بقائه علی رأس الحكومة مع أي طرف”.

وكل المؤشرات تقول إن مبادرة اتحاد الشغل لم تعد ممكنة بالرغم مما قيل عن استعداد الرئيس سعيد لدعمها، وخاصة الحديث عن كونها مسنودة من دول غربية وجهات مانحة تريد أن تدفع تونس إلى الاستقرار لبدء الإصلاحات الاقتصادية العاجلة.

وليس هناك شك في أن المؤسسات الدولية المانحة، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، لن تقبل بالتعامل مع سلطتين مختلفتين، وهو ما يعني وقف القروض والمساعدات، وهو ما ستفعله الدول المانحة الأخرى غربية وعربية خاصة وسط تسريبات عن تنافس “الشرعيتين” في عرقلة مساعي حصول تونس على أموال خارجية.

وفي ظل غياب حل في الأفق لخلاف “الشرعيات”، فإن الرهان سيكون متروكا للمجهول، وقد يقود تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إلى احتجاجات شعبية عنيفة، كما قد يبقى الأمر على حاله إلى حدود انتخابات 2024، ومن يدري ربما تأتي تأويلات دستورية تجيز تأجيل تلك الانتخابات.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية