كيف خرجت السلفية من رحم الإصلاح الديني؟

كيف خرجت السلفية من رحم الإصلاح الديني؟


02/12/2018

"تجديد الخطاب الديني"؛ عبارة أضحت شائعة على عديد من المنصات الثقافية والإعلامية؛ بل تتبنّاها القيادة السياسية في عدد من الدول العربية، على سبيل الخلاص من التطرف والإرهاب المسلّح.

لطالما ارتبط تجديد الخطاب الديني بالحداثة في عقول الجماهير، لكنّ خطاب التجديد وقعت به مفارقات عدة، من بينها؛ تبنّي الجهاديين لخطاب تجديد الخطاب الديني بالعودة لزمن الغزوات، بالتالي؛ شنّ الغارات في الداخل والخارج، وعُرف أسامة بن لادن، قائد تنظيم القاعدة، بالإمام المجدِّد في هذا الإطار.

اقرأ أيضاً: الخطاب الديني السلفي وصناعة الأسطورة 1/2

كما ارتبط مفهوم تجديد الخطاب الديني بقدرة الفقه على التطور، فيما سُمّي بـ "فقه الواقع"؛ وهو مصطلح من المصطلحات الفقهية الحديثة، إلّا أنّ ابن القيم الجوزية (المتوفَّى 751هـ)، يعدّ أوّل من أشار إليه، ونبّه عليه.

هل كان ابن القيم الجوزية مجدداً؟

ورد مصطلح "فقه الواقع" على لسان ابن القيم الجوزية، في كتابه "إعلام الموقعين عن ربّ العالمين" (ج 1، ص 69)؛ إذ يرى ابن القيم أنّ الفتوى تعتمد على فقه الواقع وفقه الواجب.

إن طالعنا الحركة الإصلاحية في الإسلام مطلع القرن العشرين نجد في ملامحها ثوباً من السلفية متخفّياً في عباءة الإصلاح

فقه الواقع، بحسب ابن القيم، هو استنباط حقيقة ما وقع من أحداث أدّت إلى حكم الله في واقعة بعينها. أما فقه الواجب؛ فهو فهم الواجب في الواقع، أي فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله.

وقد ذهب ابن القيم الجوزية إلى أبعد من ذلك، في الجزء الرابع (ص 157)، من الكتاب نفسه؛ حين أثنى على ما قاله الإمام أحمد بن حنبل في صفات المفتي، ومنها: "معرفة الناس"، وهنا قال ابن القيم: "إنّ المفتي لا بدّ من أن يكون فقهياً في معرفة مكر الناس واحتيالهم وعوائدهم، فإنّ الفتوى تتغير بتغيّر الزمان والمكان والأحوال، وذلك كلّه من دين الله".

لكن، هل يعدّ ابن القيم مجدداً إصلاحياً في الخطاب الديني؟ خاصّة أنّ مفتي الجمهورية المصرية، د. شوقي علام، دائماً ما يستشهد بقوله بخصوص تغير الفتوى بحسب المكان والزمان.

اقرأ أيضاً: الخطاب الديني السلفي وصناعة الأسطورة 2/2

لربما يعدّ ابن القيم مجدداً، إن اجتزأنا العبارات الواردة أعلاه عن سياق مؤلفاته، لكن لا يعدّ ابن القيم مجدداً إن طالعنا، مثلاً، فتواه في كتاب "أحكام أهل الذمة" (ج 1، ص 195)، التي يقول فيها: "إنّه، سبحانه، قد حكم، ولا أحسن من حكمه؛ أنّه من تولّى اليهود والنصارى فهو منهم ﴿ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾، فإذا كان أولياؤهم منهم بنصّ القرآن، كان لهم حكمهم، وهذا عامّ خصّ منه من يتولاهم ودخل في دينهم، بعد التزام الإسلام؛ فإنّه لا يقرّ ولا تقبل منه الجزية؛ بل إما الإسلام أو السيف، فإنّه مرتد بالنصّ والإجماع".

هذه الفتوى، على سبيل المثال لا الحصر، قد تقرّبنا إلى إشكالية ما يُعرف باسم "تجديد الخطاب الديني"، أو "إصلاح الفكر الديني في الإسلام" في العصر الحديث؛ فالقضية ُتختزل بشكل كبير في تبني الأئمة لعبارات دالة على مرونة الفتوى، والتجدد، ومسايرة الزمان والمكان، إلّا أنّ الفتاوى ذاتها قد لا تكون كذلك.

ثوب السلفية يتوارى في عباءة الإصلاح

وإن طالعنا الحركة الإصلاحية في الإسلام، في مطلع القرن العشرين، قد نجد في ملامحها ثوباً من السلفية متخفّياً في عباءة الإصلاح، ولا نقصد هنا الخروج عن السياق التاريخي، والحكم بمعايير هذا الزمان، وإسقاطه على زمن سابق؛ إنما محاولة استيعاب هذا الخطّ الواصل بين كتب التراث والفكر الديني الحديث.

اقرأ أيضاً: شيوخ السلفية.. سلطة الماضي على الحاضر

تجلّت أبرز تلك التجارب في العصر الحديث؛ من خلال مجلة "المنار" (1898-1935)، التي ترأّسها رشيد رضا، وُوصف بأنه من أشدّ المنادين بالإصلاح الديني، وحتى يومنا هذا، يُشار إليه في المقررات الدراسية بالإصلاحي والمجدّد، وتدرّس أقواله المأثورة، على غرار: "سعادة الأمم بأعمالها، وكمال أعمالها منوط بانتشار العلوم والمعارف".

ارتبط مفهوم تجديد الخطاب الديني بقدرة الفقه على التطور فيما سُمّي بـ "فقه الواقع"

إلا أنّ رشيد رضا كان من أكبر المناهضين للتعليم المدني، فقال في كتابه "الخلافة": "إنّ أنصار الحكومة وتعليمها المدني هم الجهلاء بالشريعة، الذين تولّوا أمر التعليم، ويسعون لإبعاد رجال الدين عنه، وإعادتهم إلى زوايا مساجدهم"، ونعت أهل القانون الوضعي بـ"الملاحدة المتفرنجين".

وفي مجال تعليم المرأة؛ نشر رشيد رضا، في مجلة "المنار"، عام 1903، مقالاً بعنوان "مضارّ تربية النساء الاستقلالية"، واعتبر رشيد رضا أنّ تعليم المرأة قد يجعلها متمردة على الإذعان للرجل، فلا تلازم المنزل، فرأى أنّ المساواة في التعليم تجوز في المراحل الأولى من التعليم، على أن تتعلم المرأة تدبير المنزل والاقتصاد، وعلوم الصحة والتربية والأخلاق المستمدة من الأديان، وذهبت "المنار" إلى الربط بين التعليم والانحلال الخلقي بين المتعلمات، وهو الفكر الذي تبناه مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، حسن البنا، عام 1928، ورغم ذلك؛ إلا أنّ القراءة التاريخية تتغاضى عن نقد رؤية رشيد رضا، وتنتقد الجماعة في رؤيتها للمرأة.

اقرأ أيضاً: تجديد الخطاب الديني... رؤية مختلفة

أما في كتب التربية الوطنية؛ فقد ورد في مقرّر الصف الثاني الثانوي (ص 20، بحسب طبعة عام 1992، مصر)، تاريخ مفصل عن بطولات رشيد رضا في محاربة الاستعمار البريطاني، وبالفعل قاوم رشيد رضا الاستعمار، لكنّه كان يحارب من منطلق الدفاع عن "دار الإسلام"، وليس بالضرورة مفهومنا الحالي عن الوطن، بل كان لرشيد رضا رؤية سلبية عن الوطنية الحديثة، فيعترض على الأناشيد التي تغذي الحسّ الوطني، ويقول: "تتمّ تربية الأجيال الناشئة في المدارس والجيوش على العصبية الجنسية، لتحلّ محلّ الوجدان الديني، فتلك الأناشيد تمحو كلّ ما هو إسلاميّ، بدلاً من الفخر برجال الإسلام والسلف الصالح"، ووصف هذه الأساليب بوسائل المتفرنجين لإماتة الدين (كتاب "الخلافة"، رشيد رضا، طبعة مؤسسة "هنداوي" بالقاهرة، ص 62).

كتب رشيد رضا مقالاً بعنوان "مضارّ تربية النساء الاستقلالية"،واعتبر أنّ تعليم المرأة قد يجعلها متمردة على الإذعان للرجل

ولطالما استند رشيد رضا إلى قول الإمام مالك: "لا يصلح آخر هذه الأمّة، إلا بما صلح به أوّلها"؛ فالخطاب الإصلاحي في الفكر الإسلامي لرشيد رضا في مطلع القرن العشرين، كان سلفي النزعة، احتكم إلى مبدأ تأسيس ديمقراطية الأمة الإسلامية؛ أي تأسيس الوطنية الحديثة من خلال الإسلام، ومن هنا نبعت فلسفة الوطن الإسلامي، فكان بديلاً عن مفردات تراثية مثل دار الإسلام، اختلفت المسميات لكن ظلت المفاهيم متقاربة بين الأمة الإسلامية ودار الإسلام، فما تغيّر كان صكّ المصطلحات.

ولعلنا نعود إلى ما كتب في مجلة "المنار"، عام 1923، في مقال "أحوال العالم الإسلامي"؛ الذي جاء فيه: "إنّ نصارى الشرق شرّ آلة في يد دولة الاستعمار"، هذه النظرة ولّدت حالة رفض لتولي مسيحيّ منصباً سياسياً أو تنفيذياً في البلاد التابعة للخلافة العثمانية، فحقوق المسيحيين هي حقوقهم في ذمّة المسلمين وفي دار الإسلام، وليست نابعة من كونهم مواطنين كاملي الأهلية.

اقرأ أيضاً: الخطاب الدينيّ الشعبيّ واختراق الأصوليات الإسلامية له

هكذا أضحى رشيد رضا أبا السلفية في نظر العديد من الإسلاميين، ومن بينهم محمد رشاد غانم (1916- 1922)؛ وهو من الرواد الأوائل لجماعة "أنصار السنّة" في الإسكندرية.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية