في 30 حزيران (يونيو) من عام 2013، أزاح الشعب المصري، مدعوماً بمؤسساته، وفي القلب منها المؤسسة العسكرية، حكم الفاشية الدينية التي تسلّط فيها الإخوان المسلمون على الشعب المصري، محاولين فرض تصورهم عن الدين في حكم البلاد، وتغيير هويتها القومية التي التصقت بها عبر قرون طويلة، رفض الشعب المصري استخدام الدين قناعاً لأحلام الجماعة في الحكم، كما فرض إقحام الدين في السياسة، على نحو ما فعلت الجماعة.
بقيت تلك المسألة؛ إقحام الدين في السياسة، أمراً مستهجناً من قبل هذا الشعب المتديّن بطبيعته، الذي حفظت حكمته الجمعية أنّ "الدين لله والوطن للجميع".
وفي إطار حالة ردّ الفعل التي وسمت الصراع بين الفريقين؛ الدولة والجماعة، التي وظّفت الدين طويلاً في خدمة أهدافها، تورّطت بعض مؤسسات الدولة في استخدام الدين للردّ على تشكيك الجماعة، في كلّ جهد وطني مبذول من قبل الحكومة لتحسين حياة المصريين، أو مواجهة الركام الطويل للبيروقراطية المصرية، وتأجيل خطوات الإصلاح الاقتصادي، التي رفعت كلفة الإصلاح بشكل كبير، بدعوى حماية مكتسبات الشعب التي لم تكن سوى رشاوى لتأجيل الإصلاح الحقيقي.
الناس يصلحهم الغنى والاكتفاء ويفسدهم الفقر والعوز لن تصلحهم الموعظة التي لا تنسجم مع أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية
حتى الآن، في أداء كلّ الحكومات المتعاقبة، لم ننجح في تحرير علاقة صحيحة بين الدين والشأن العام.
حرصت الأنظمة المتعاقبة على توظيف سياسي ضارٍّ بالمؤسسة الدينية، أضعف مصداقية خطاب المؤسسة، وفتح الباب لإنتاج خطاب ديني من قبل المجموعات الحركية، التي تسلطت على الوعي والوجدان المصري، عبر عقود من الضعف الذي اعترى المؤسسة الدينية الرسمية، فانتشر الخطاب الإخواني والسلفي والجهادي، وزاحم النسخة المعتدلة الوسطية التي جسدها الخطاب الأزهري.
فكان يتم إقحام الأزهر لإبداء رأيه في بعض المسائل السياسية، التي هي من شؤون السيادة لأي نظام مسؤول في مواجهة مواطنيه واحتياجاتهم، وهو أمر لم تعهده مسيرة أية دولة في العالم، إلّا الدول الدينية، ومصر كانت، وستبقى، دولة مدنية.
الدين فيها هو منظومة قيم وخطاب ضمير يتوجه للحاكم والمحكوم، يخاطب الفطرة، ويدفعها دفعاً إلى نيل رضوان ربّها، بالتمسك بالقيم التي تجعل حياتها على الأرض أفضل، وطريقها إلى رضوان الله معبَّد وممهَّد.
الدولة العصرية يجب أن تكون أهدى حالاً وأقوم قولاً فتجعل خطاب مؤسساتها خطاباً متوازناً
تتوجّه للحاكم، فتوصيه بالعدل والشورى والحرية والتورّع عن مال الأمة، وحراسة أحوالها، والدفاع عنها، وعن أرضها، وشرفها، وتذكّره بحساب الله في الآخرة، والانسجام مع العصر وموازينه وقيمه، وتدعو له ما استقام على الجادة، وتزجره وتعظه إن انحرف عنها، أو فرّط في قيمة من قيم الدين، عبر مؤسسات ديمقراطية تعيد توزيع السلطة والأدوار، بتوازن يحول دون الاستبداد والفساد، ليس من أدوار المؤسسة الدينية أن تمتدح صلاة الحاكم، أو صومه، أو ورعه الشخصي، فذلك شأنه مع ربّه؛ بل هي معنيّة بعدله وحرصه على الشورى، وعدم الانفراد بالرأي، واحترام القانون والدستور وأحكام الدين وقيمه، وهي تتعهّد الحاكم دوماً في ذلك بخطاب عام.
ليس من أدوارها أن تمتدح، أو تذمّ، سياسة يومية للحكومة، فتقول مثلاً: إنّ رفع أسعار الوقود، أو ارتفاع الأسعار، شأن إلهي، كما أشارت وزارة الأوقاف تجاه سياسة حكومية، حين دعت المصريين إلى الاقتداء بالسنة النبوية الشريفة، في التعاطي مع أزمة ارتفاع الأسعار، مدلِّلة على ذلك بحديث نبوي عن "التحكم الإلهي بالأسعار"!
وعبر صفحتها الرسمية على موقع "فيسبوك"، نشرت دار الإفتاء حديثاً نبوياً عن غلاء الأسعار، رواه الصحابي أنس بن مالك، رضي الله عنه، وقال الترمذي (أحد أئمة علم الحديث) إنّه حديث صحيح.
وفي الحديث النبوي، قال الناس: "يا رسول الله، غلا السعر (الأسعار)، فسعّر لنا، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إنّ الله هو المسعِّر، القابض، الباسط، الرازق، وإنّني أرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة من دم ولا مال".
وفسّرت دار الإفتاء الحديث، بأنّ "الناس لَمّا اشتكوا إلى رسول الله غلاء السعر، نبّههم إلى أنّ غلاء الأسعار ورخصها، إنما هو بيد الله تعالى، وأرشدهم بذلك إلى التعلق بالله والدعاء".
الإخوان تورّطوا بتوظيف الدين لتبرير سلوكهم وأهدافهم السياسية فأباحوا العمليات الانتحارية وفتحوا الباب لشرّ عظيم
الحكومة، بدورها، دافعت عن زيادة أسعار الوقود، وعدّته ضرورياً لتعزيز خطة ترشيد دعم السلع، وخفض العجز في الموازنة، كان من المهم أن تشرح الحكومة في أعلى مستوياتها للناس، أسباب تلك الزيادة، على أنّها جزء من فاتورة الإصلاح المرتبطة ببرنامج الإصلاح الاقتصادي، المتَّفق عليه مع صندوق النقد الدولي، ويأتي ضمن متطلباته رفع أسعار الوقود، أو بالأحرى، تحرير تدريجي لأسعارها، وقالت: إنّه يأتي في إطار تعزيز خطة ترشيد دعم السلع، وخفض العجز في موازنة العام الحالي.
يقول العلامة ابن خلدون: إنّ "الإنسان لا يستطيع أن يجمع في نفسه كلّ الصفات الحسنة، كما يشاء، فالإنسان يستمدّ أخلاقه من المجتمع الذي يعيش فيه، والمجتمع بدوره خاضع في أخلاقه للأحوال، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، التي تحيط به".
الناس يصلحهم الغنى والاكتفاء، ويفسدهم الفقر والعوز، لن تصلحهم الموعظة التي لا تنسجم مع أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية.
قد يصبر الفقير نفسه بحديث، أو آية، يعدانه بأنهار الجنة، لكنّ موسيقى أمعائه ستفسد عليه هذا اللحن، طوال ليله البائس.
إذا كانت جماعة الإخوان قد تورّطت في توظيف الدين في تبرير سلوكها وأهدافها السياسية، فأباحت العمليات الانتحارية، وفتحت الباب لشرّ عظيم، أنتج داعش، وتفجير الأطفال والنساء، وجعلت المشاركة في الاستفتاءات، أو في أية استحقاقات انتخابية، واجباً دينياً ما وافق مراد مكتب الإرشاد والجماعة، وحراماً في أحوال أخرى، حتى ذهب مفتيهم إلى إصدار فتوى تجيز إفطار مؤيدي جماعة الإخوان، أثناء تظاهرهم في نهار رمضان، على اعتبار أنّهم في جهاد ديني، يبيح الإفطار دون كفارة، مؤكداً أنّ التظاهر هو عمل وعبادة تقرّب إلى الله، وأنّ العصيان المدني هو أحد وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أو ذاك الداعية السلفي الذي سبق وتوعّد الشعب المصري، في مناسبات معروفة، وبرّر أعمال الإخوان أثناء اعتصام رابعة، وعدّه أهم من أداء العمرة.
أو ذاك الداعية التكفيري، الذي أطلق فتواه في أعقاب ثورة 30 يونيو، التي أباحت قتل رجال الشرطة والجيش، تحت زعم أنّهم يلقون القبض على كلّ من يعتلي منابر المساجد.
هذه نماذج من استخدام الإخوان للخطاب الديني في تبرير سياساتهم وسلوكهم، وهو أمر يعرفه القاصي والداني، هذا أمر نعلمه عن الإخوان، وربما كان من أهم دوافع خلعهم.
أمّا الدولة العصرية؛ فيجب أن تكون أهدى حالاً، وأقوم قولاً، فتجعل خطاب مؤسساتها خطاباً متوازناً، دون توظيف ضارٍّ في تبرير سياسة، أو التمهيد لغيرها، فالاستقلال هو عماد كلّ مؤسساتنا، ولن يستقيم أمر هذه الأمة إلّا إذا عملت كلّ مؤسسة في إطار أهدافها، ولم تخرج عنها لفضاء غيرها، وتحرير علاقة صحيحة بين الدين والشأن العام، سيفتح الباب أمام دولة مدنية، نريدها نموذجاً يحتذى به، في منطقة تمور بالتطرف والإرهاب والفوضى، حفظ الله بلادنا الغالية من كلّ شرّ.