كيف تعاملت حركة النهضة مع عزلتها السياسية والاجتماعية بعد إجراءات 25 يوليو؟

كيف تعاملت حركة النهضة مع عزلتها السياسية والاجتماعية بعد إجراءات 25 يوليو؟


19/06/2022

تمر حركة "النهضة" الإخوانية، منذ سلسلة القرارات التي بدأت في الـ 25 من تموز (يوليو) 2021، ثم تتالت واضعة حداً لعشرية كاملة قادت فيها حركة النهضة منظومة الحكم وسيطرت على كافة مؤسساته في تونس، وهو ما شكل بالنسبة إلى الحركة سياقاً مليئاً بالضغوط والإكراهات، بحكم عزلتها، السياسية والاجتماعية، وانتقالها من موقع الفعل إلى موقع رد الفعل، وهو ما دفعها إلى انتهاج إستراتيجية جديدة، فضلاً عن موجة الاستقالات التي طالت قيادات من الصف الأول في الحركة.

وواجهت حركة النهضة منذ قرارات 25 تموز (يوليو) الماضي، عندما أنهى رئيس الجمهورية قيس سعيد، مهام رئيس الحكومة هشام المشيشي وتجميد عمل مجلس نواب الشعب، سلسلة من القرارات، لعل آخرها إعلان حل مجلس نواب الشعب في 30 آذار (مارس) 2022 عقب انعقاد جلسة برلمانية صادق خلالها 116 نائباً على مشروع قانون يلغي التدابير الاستثنائية المتخذة منذ "25 يوليو"، وقد مثلت تلك الجلسة تهديداً لا لسلطة رئيس الجمهورية وإنما لوحدة الدولة واستقرار مؤسساتها؛ إذ إنها تفتح الباب لتصارع الشرعيات في البلاد.

3 رهانات 

ووفق، دراسة أعدها الباحث التونسي المتخصص في شؤون الحركات الإسلاموية فريد بن بلقاسم، شكلت هذه الظروف بالنسبة إلى حركة النهضة سياقاً مليئاً بالضغوط والإكراهات، بحكم عزلتها السياسية والاجتماعية وانتقالها من موقع الفعل إلى موقع رد الفعل؛ ما يضيّق من هامش تحركاتها ويقلص من قدرتها على التأثير في سيرورة الأحداث. 

وقد أدركت الحركة أنها تواجه تحديات، سياسية وقضائية واجتماعية، تضعها أمام 3 رهانات، الأول؛ رهان وجودي يتمثل في المحافظة على شرعية وجودها من الناحية القانونية المهددة من خلال فتح ملفات قضائية ذات علاقة بقضايا الجهاز السري والتسفير إلى بؤر التوتر والاغتيالات والتمويلات الأجنبية، وهي الملفات التي أثارتها بالخصوص لجنة الدفاع عن شكري بلعيد ومحمد البراهمي.

أدركت الحركة أنها تواجه تحديات سياسية وقضائية واجتماعية

والثاني؛ رهان استعادة موقعها في الساحة السياسية من خلال استئناف علاقاتها مع مختلف الأطراف الحزبية والمدنية. والثالث؛ رهان استعادة شعبية مفقودة تراجعت تراجعاً لافتاً بفعل الفشل في تجربة الحكم وانكشاف وهم شعاراتها الأيديولوجية.

إستراتيجية النهضة بعد 25 يوليو

ويرى الباحث التونسي، في الدراسة التي نشرها مركز "تريندز" بعنوان "إستراتيجية حركة النهضة بعد 25 يوليو 2021.. الخلفيات والرهانات"، أنّ الحركة الإسلاموية انتهجت في ظل هذه الظروف إستراتيجية مستمدة من رصيد خبرتها في التعامل مع مثل هذه الوضعيات تاريخياً من جهة، إضافة إلى تحينها الفرصة في كل مرة للاستفادة من عامل الزمن ومن استمرار تدهور الوضعين؛ الاقتصادي والاجتماعي، من جهة أخرى.

 وقد قامت تلك الإستراتيجية، وفق الباحث، على مجموعة من الثنائيات أولها ثنائية الاعتراف والإنكار، فقد تأرجحت خطابات حركة النهضة تفاعلاً مع الاحتجاجات الشعبية التي رافقت حدث 25 يوليو والأسباب الكامنة وراءها بين الاعتراف بشرعية تلك الاحتجاجات نتيجة تراكم فشل الحكومات المتعاقبة منذ عام 2011 في الاستجابة للمطالب الاقتصادية والتنموية، وبين إنكار مسؤوليتها عما آل إليه وضع الدولة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً؛ بسبب منظومة حكم تحكمت الحركة في أهم مفاصلها.

 يرى الباحث التونسي فريد بن بلقاسم في الدراسة التي نشرها مركز "تريندز"، أنّ الحركة الإسلاموية انتهجت في ظل هذه الظروف استراتيجية مستمدة من رصيد خبرتها في التعامل مع مثل هذه الوضعيات تاريخياً 

وعادة ما يراوح الخطاب النهضاوي بين الاعتراف والإنكار، بعدم الإقرار بالفشل لا تهرباً من المسؤولية فقط، وإنما لأن الإسلاموي يعتبر أنه يَصدُر عن حقيقة دينية متعالية ومطلقة، وأنه بصدد أداء مهمة خلاصية، وهو ما يجعله في حالة إنكار دائمة لفشل المشروع.

أما الثانية، فهي ثنائية الكُمُون والظهور؛ إذ يقول بلعيد أنه ومنذ 25 يوليو وطيلة الأشهر الـ 8 الماضية التزمت ردة الفعل النهضاوية خطاباً وحركة يتسمان بالمراوحة بين الكمون حيناً والظهور حيناً آخر؛ إذ تعمد حركة النهضة في بعض الفترات إلى التخفي، فتقل تصريحات قياداتها وتتراجع وتيرة تحركاتها الميدانية وتغيب لفترة عن إصدار أيِّ بيان أو القيام بأي تحرك، لاقتناص الفرصة المناسبة للظهور، وهي لعبة الحركة الإسلاموية المفضلة؛ لتستنجد بها في كل مرة لاقتناص الفرص الملائمة لتحقيق منافع سياسية. 

ولعل أبرز مثال على ذلك ما حدث في 2011، إذ اختفت حركة النهضة طيلة فترة الاحتجاجات الشعبية على نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، ولم تشارك قواعدها وقياداتها في أحداثها، ولم تظهر في الصورة إلا بعد سقوط النظام في 14 كانون ثاني (يناير) 2011، لتقدم نفسها بديلاً له.

تعمد حركة النهضة في بعض الفترات إلى التخفي، فتقل تصريحات قياداتها وتتراجع وتيرة تحركاتها الميدانية

والثنائية الثالثة، وفق الدراسة، هي ثنائية المظلومية والقوة، يمثل اللجوء إلى مفهوم المظلومية أو الابتلاء ثابتاً من ثوابت الجماعات الإسلاموية الإخوانية، ومن العلامات البارزة في خطاباتها عبر تاريخها، ففي كل مرة تمر الجماعة بأزمة يكون لعب دور الضحية من أهم وسائلها في مواجهة تلك الأزمة.

ولم تشذ حركة النهضة عن هذه القاعدة الإخوانية الراسخة، فروّجت بداية إلى أنّ ما حدث يوم 25 يوليو هو "انقلاب على الديمقراطية وعلى الشرعية الدستورية" وأنّ قرارات الرئيس وإجراءاته تمهد الطريق "للاستبداد والتسلط"؛ أي إنها حصرت المشهد في صراع قوتين سياسيتين آلت نتيجته لصالح الرئيس متغافلة عن دور الاحتجاجات الاجتماعية ضدها، في عملية إنكار لتراجع مكانتها في المجتمع وفقدان شعبيتها، فصورت نفسها بذلك في صورة الضحية التي سُلب منها الحكم ظلماً وعدواناً، بحسب الدراسة.

وتعتقد الحركة الإسلاموية أنّ خطاب المظلومية والضحية يحقق لها عدة فوائد، ولاسيما من جهة تمتين الوحدة الداخلية للتنظيم ورص الصفوف لمواجهة الأزمة/ الابتلاء، فضلاً عن أنّ لعب دور الضحية يجعلها في موقع الضعيف الذي يحتاج إلى العون والإغاثة، وهو ما يمثل وسيلة من وسائل الضغط لاستمالة الآخرين، سواء من الأطراف الداخلية أو الأطراف الخارجية لتحريضها على التدخل في الشأن الداخلي التونسي على الأقل تحت غطاء المطلب الحقوقي والإنساني.

عادة ما يراوح الخطاب النهضاوي بين الاعتراف والإنكار، بعدم الإقرار بالفشل لا تهرباً من المسؤولية فقط، وإنما لأن الإسلاموي يعتبر أنه يَصدُر عن حقيقة دينية متعالية ومطلقة

وفي مقابل الاستنجاد بخطاب المظلومية، تسعى حركة النهضة إلى الترويج لصورتها المتماسكة داخلياً والمحافظة على مكانتها ووزنها سياسياً واجتماعياً، وخصوصاً بعد موجة الاستقالات في أيلول (سبتمبر) 2021 على خلفية الخلافات الداخلية في مسألة تأجيل المؤتمر الـ 11 للحركة والصراع على خلافة راشد الغنوشي في الرئاسة.

ويوضح الباحث الثنائية الأخيرة وهي ثنائية الخارج والداخل، فمن الناحية الداخلية عملت حركة النهضة على أن تتدارك حالة العزلة السياسية والاجتماعية التي وجدت نفسها فيها بعد 25 يوليو، فقد انقطع التواصل بينها وبين أبرز مكونات الساحة السياسية، سواء من الأحزاب أو من المنظمات الوطنية ولم تعد قادرة على حشد الجمهور في تجمعات عامة، فالتجأت إلى أن تتوارى وراء ستار بعض التحركات التي تقودها عناصر غير نهضاوية مناوئة لسياسة رئيس الجمهورية على غرار "حراك مواطنون ضد الانقلاب". وقد اندس بعض العناصر النهضاوية في مثل هذه التشكيلات، وهو ما مكّنهم من التحرك في الشارع تحت غطائها، ومن اختراق بعض مكونات الساحة السياسية، وإن على نحو هامشي، في الوقت الذي ما تزال فيه أهم الأحزاب والمنظمات رافضة التواصل معهم.

أما الوجهة الخارجية فقد احتلت الحيز الأكبر من تحركات الحركة الإسلاموية، وقد اتجهت بالأساس صوب القوى الغربية عموماً والولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً، ولعلها تستند في ذلك، إضافة إلى ما نسجته من شبكة علاقات بمراكز النفوذ والضغط داخل هذه الدول، إلى تبرير فقهي يُجِيز الاستعانة عند الحاجة والضرورة بغير المسلم، وفق الباحث.

تعتقد الحركة أنّ خطاب المظلومية والضحية يحقق لها عدة فوائد، ولاسيما من جهة تمتين الوحدة الداخلية للتنظيم

وقد اتخذت التحركات النهضاوية باتجاه هذه القوى الخارجية عدة أشكال منها حسب ما أوردها الباحث؛ دعوة أحد أعضائها السابقين (قبل أن يعلن استقالته في وقت لاحق) السلطات الأمريكية إلى إعادة النظر في المساعدات التي تقدمها لتونس، ومنها إبرام عقد مع مجموعات الضغط (اللوبي) عام 2021، ويدخل في إطار هذا العقد مقال نشره راشد الغنوشي في صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية للترويج لوجهة نظر حركة النهضة فيما تطلق عليه "الإنقلاب في تونس" وتعزيز موقفها السياسي وتلميع صورتها في المجتمع الدولي وتحريضه لاتخاذ خطوات لدعم موقفها في الداخل.

ولم تستطع حركة النهضة حتى الآن أن تحقق مكاسب ذات شأن يمكن أن تحدث تغييراً ملحوظاً في موازين القوى، سواء على الصعيد الداخلي من خلال قيادة المظاهرات الاحتجاجية واستعادة نسق العلاقات مع الأطراف الوازنة سياسياً واجتماعياً ونقابياً، أو على الصعيد الخارجي بتشكيل موقف دولي ضاغط على رئاسة الجمهورية يقضي بالتراجع عن الإجراءات المتخذة.

وتخلص الدراسة إلى أنّ الاستراتيجية الإخوانية سعت إلى تحقيق جملة من الأهداف والرهانات الإستراتيجية، وهي:

- المحافظة على وحدة جبهتها الداخلية والحد من نزيف الاستقالات والانتقادات لقياداتها، غير أنها لم تتمكن من استعادة القيادات المستقيلة ذات الوزن داخل التنظيم سابقاً من أمثال عبد اللطيف المكي وعبد الحميد الجلاصي وسمير ديلو.

- استئناف علاقاتها السابقة في الساحة السياسية والاجتماعية والنقابية من خلال اللقاءات والمشاورات وتنسيق المواقف. ولم تستطع حتى الآن، برغم مساعيها من خلال البيانات والخطابات، أن تحقق اختراقاً في هذا المستوى، وما زالت تعيش العزلة وتتجنب الأطراف الوازنة التعامل معها.

لعب دور الضحية يجعل "النهضة" في موقع الضعيف الذي يحتاج إلى العون والإغاثة، وهو ما يمثل وسيلة من وسائل الضغط لاستمالة الآخرين، سواء من الأطراف الداخلية أو الأطراف الخارجية

- تحريض فئات واسعة من المجتمع على معارضة إجراءات الرئيس قيس سعيّد، وتجييش الشارع للاحتجاج على سياسته، في مسعى لاستعادة شعبيتها المتراجعة، وبرغم تخفيها وراء تشكيلات من قبيل "حراك مواطنون ضد الانقلاب" فلا يبدو أنّ الدعاية النهضاوية قد وجدت لها صدى لدى أطياف واسعة من المجتمع إلى الآن برغم ما تشهده الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية من صعوبات. 

- المحافظة على صورتها في الخارج والعمل على الاستعانة بالقوى الأجنبية للتأثير في توجهات رئيس الجمهورية، من خلال تصوير الأمر على أنه صراع بين الاستبداد والديمقراطية أو بين الانقلاب والشرعية، ولم تستطع حركة النهضة تحقيق ما ترجوه من نتائج في هذا المضمار، ويبدو أنّ تونس تسير في اتجاه خريطة الطريق السياسية التي رسمها الرئيس قيس سعيد برغم ما قد يحيط بها من صعوبات، من أخطرها تأزم الوضع الاقتصادي.

- لعل أخطر رهان تعمل حركة النهضة على أن تكسبه من خلال كل الخطط التي وضعتها هو المحافظة على تواجدها في الساحة السياسية، باعتبارها حزباً معترَفاً بشرعيته، ولاسيما في مواجهة الملفات القضائية التي تلاحقها، وهي تحاول أن تستغل كل ثغرة ممكنة لتتفادى هذا المصير.

وخلصت الدراسة إلى أنّ الضغوطات تحيط بحركة النهضة منذ 25 يوليو، ومما زاد من تعقيد وضعها أنها افتقدت حلفاء ذوي شأن وتأثير في الداخل والخارج كان يمكن أن تعول عليهم لفك عزلتها. وتدرك الحركة الإسلاموية أنّ نجاح الحكومة في تجاوز الأزمة الاقتصادية واستعادة حالة الاستقرار في الدولة والمجتمع قد يزيد من تهميش موقعها ودورها في الساحة السياسية ويعمق حالة التراجع التي تمر بها. كما أنّ فتح ملف محاسبتها قضائياً محاسبة قانونية شفافة على جملة التهم الموجهة إليها قد يمثل منعرجاً وجودياً خطيراً على مستقبلها تنظيمياً، بالإضافة إلى فشل مشروعها أيديولوجياً.

مواضيع ذات صلة:

"دستور تونس الجديد".. هل يغلق بوابة تسييس الدين أمام حركة النهضة الإخوانية؟‎

بعد حظر الغنوشي من السفر.. هل يطيح ملف "الجهاز السري" بحركة النهضة الإخوانية؟

هل تستغل حركة النهضة الإخوانية "قضية المطار" للتغطية على ملف "الجهاز السري"؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية