كيف استثمر الرئيس التونسي شعبيته في "مكافحة الفساد"؟

كيف استثمر الرئيس التونسي شعبيته في "مكافحة الفساد"؟


16/09/2020

في العام 2017 أجرت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي استبياناً للتونسيين، لتقصّي الطريقة التي يفكر بها التونسيون في الفساد المستشري في بلدهم، والمهم أنه سألهم:  من يعتقدون أنه يتحمل مسؤوليته أكثر؟ فجاءت الإجابة في صالح الرئيس، حيث تمثلت نسبته الأقل بين الحكومة التي جاءت في المقام الأول، والبرلمان الذي جاء في المرتبة التالية.

وقتها، ربما لم تكن فكرة الرئاسة مطروحة على الرئيس التونسي الحالي، قيس سعيد، كان محض قاضٍ يُنفذ القانون، وينشغل بأوضاع بلاده، وبعد 3 سنوات من ذلك الاستفتاء، خرج الرئيس قيس سعيد في أوج ما يثار من توترات بينه وبين البرلمان والحكومة، معلناً حرباً ضد الفساد.

خلال أقلّ من عام، نجح سعيد بخطب رنانة، وأسلوب حاد في الحديث، ونبرة واثقة هادئة تنم عن رصانة، وخلفية قانونية شاسعة تُستحضر دائماً، أن يكسب ودّ الشارع التونسي

الشارع التونسي المؤهل بالأساس، وفق مؤشر الاستفتاء المشار إليه في البداية، لتنحية رؤساء ما بعد الثورة عن مسؤولية الفساد مقارنة بالمؤسسات الأخرى، بات أمام رئيس، لا يتصدر المشهد بالتنزه عن الفساد فقط، بل يخرج شاهراً سيفه لمواجهته.

وبغضّ النظر عن مدى القدرة الحقيقية لتحقيق تلك المواجهة، أو الحاجة الملحة لتضافر مؤسسات الدولة لتحقيقها، فإنّ مشهد السيف الرمزي ذاك، الذي تجسّد في خطبة رنانة خلال استقبال الرئيس التونسي لوزيرة أملاك الدولة، ليلى جفال، في 15 أيلول (سبتمبر) الجاري، كان كافياً كي يجلب مزيداً من الشعبية للرئيس التونسي.

 

وخلال أقلّ من عام، نجح سعيد بخطب رنانة، وأسلوب حادٍّ في الحديث، ونبرة واثقة هادئة تنمّ عن رصانة، وخلفية قانونية شاسعة تُستحضر دائماً، أن يكسب ودّ ليس الشارع التونسي فقط، بل يلفت الأنظار عامة، كرئيس يجيد خوض "حرب باردة" مع جماعة الإخوان المسلمين، المصنفة إرهابية في عدد من الأقطار العربية، فيما في تونس شريكة في الحكم عبر حركة النهضة.

اقرأ أيضاً: قيس سعيد وإخوان تونس.. تصعيد ينذر بفتح ملفات "إرهاب النهضة"

وفي خضم فصول تلك الحرب الباردة، وفيما حاولت النهضة كسب جولة بسحب الثقة من حكومة إلياس الفخفاخ السابقة بشبهة الفساد، ردّ سعيد في قصر قرطاج الصاع صاعين، بتوجّهات صارمة إلى الوزيرة المعنية بـ"تطبيق القانون على الجميع" لاجتثاث الفساد، وتلميحات لمحاولة عرقلة جهوده، متروك تفسيرها إلى الشارع التونسي، حيث قال: سيتمّ فضح كلّ من يحاول أن يضع عراقيل أمام عمل وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية... لا يمكن مقاومة الفساد جدياً إلا إذا كان المسؤول مسؤولاً أمام المواطن، وليس أمام جهة تُعيّنه".

اقرأ أيضاً: هذا أول تصريح لقيس سعيد بعد تمرير حكومته الثانية... ما علاقة النهضة؟

وأضاف: هؤلاء يدّعون أنهم يحاربون الفساد في تونس، وهم مصدر هذه الظاهرة التي تعود إلى ستّينات القرن الماضي، مردفاً: "يتحدثون عن إصلاحات اقتصادية واجتماعية والشعب يزداد فقراً".

وكان وزير مكافحة الفساد في الحكومة السابقة (الفخفاخ) محمد عبو قد اتهم حركة النهضة بتبييض الأموال، وأوضح في مؤتمر صحافي، هو آخر صلته بالمسؤولية، أنّ ملفاً قضائياً موضوعاً على طاولة القضاء في تلك الاتهامات.

اقرأ أيضاً: قطر تطرق باب قيس سعيد لحماية نفوذها في تونس

وأضاف الرئيس التونسي بحديث يقترب من البسطاء، ويتداول عادة في المقاهي بحسرة من يواجهون أزمات اقتصادية أو يعانون البطالة: تونس من أغنى الدول، لكنها منهوبة، (...) نسمع في نشرات الأخبار بالمليارات التي نُهبت، والأموال المنهوبة في الخارج، وهذا من ضمن المحاور التي سنتناولها في هذا اللقاء.

وأوغل الرئيس في التوجّه الشعبوي بهجوم مضاعف على الفاسدين حين قال: أسراب من الجراد تعبث بالدولة التونسية وبأملاك الشعب التونسي.

اقرأ أيضاً: قناة الجزيرة تقود حملة ضد قيس سعيد... ما هي الأسباب؟

وكان الرئيس التونسي قد قرّر عشية استقباله الوزيرة المسؤولة إنشاء لجنة تتبع مباشرة لرئاسة الجمهورية، لاسترداد الأموال المنهوبة والتجاوزات المتعلقة بأموال الدولة. ولا تُعدّ تلك اللجنة الأولى، إذ يُعدّ ملف الفساد من أبرز الملفات على الطاولة التونسية منذ الثورة، حيث تمّ استحداث "الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد" في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، خلفاً لـ "لجنة تقصّي الحقائق عن الفساد والرشوة"، التي أنشئت في كانون الثاني (يناير) من العام نفسه.

ولم يشهد الملف على حيويته أيّ اختراق، وظلّ الفساد مستشرياً، بل انتشر على نحو أفقي في مؤسسات الدولة وبين المواطنين، ولم تنجح القوانين التي سُنّت في مواجهته، وهو ما ألمح إليه الرئيس سعيد خلال لقائه الوزيرة حين قال: "إمكانيات تونس كبيرة وثرواتها كبيرة، ولكنّ عدد اللصوص كبير كذلك، وكلما ازداد عدد النصوص، تضاعف عدد اللصوص في البلاد".

 

سعيد: سيتم فضح كل من يحاول أن يضع عراقيل أمام عمل وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية... وأسراب من الجراد تعبث بالدولة التونسية وبأملاك الشعب التونسي

 

وتُقدّر الأموال التونسية المنهوبة في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي  بمليارات الدولارات، غير أنّ الفساد الجاري في تونس يُكلف هو الآخر الدولة نحو 3 مليارات جنيه سنوياً، بحسب رئيس الهيئة الوطنية السابق لمكافحة الفساد شوقي الطيب.

وحول تأثير الفساد على تونس، توضح ورقة بحثية لمركز كارنيغي للشرق الأوسط أنّ ثمّة "تبعات واضحة وغير واضحة في آنٍ واحد للفساد. فهو يؤثّر تأثيراً اقتصادياً مباشراً على معيشة المواطنين (عبر سرقة الأموال من خزائن الدولة ووضعها بين أيدي أفراد فاسدين)، وعلى الاستثمار الأجنبي. كما له تأثير على الأنظمة السياسية، فهو يؤدّي إلى تآكل الثقة بين الحكام والمحكومين. وأخيراً، يمكن أن يولّد الفساد عدم الاستقرار، ويساعد على نحو غير مباشر المجموعات الإرهابية على تحقيق أهدافها.

ووفق ما سبق، فإنّ معركة الفساد العميقة في تونس، إذ تؤثر على السياسيين والثقة مع الشارع ضمن تأثيراتها، فقد نجح الرئيس التونسي من جديد في تجنّب ذلك التأثير السلبي، بل واستثمار القضية في مزيد من الشعبوية.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية