كيف أخذ بوتين أوروبا رهينة؟

كيف أخذ بوتين أوروبا رهينة؟


31/08/2022

أحمد الخطيب

في العام 2018 وعلى هامش اجتماعات حلف "الناتو"، انتقد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بشدة في حديث مع الصحافيين، تزايد اعتماد أوروبا، وخصوصاً ألمانيا، على صادرات الغاز الروسي. واعتبر أن ألمانيا بسبب ذلك ستصبح رهينة لروسيا وأنه من غير المنصف أن تقوم الولايات المتحدة بتحمل التكاليف العسكرية لحماية ألمانيا بينما تقوم الأخيرة بتمويل روسيا بمليارات الدولارات عبر استيراد الغاز منها.

لم تكن تحذيرات ترامب أمراً جديداً في ذلك الوقت، فعلى سبيل المثال صدرت ورقة بحثية عام 2008 تحذر من تزايد اعتماد أوروبا على الغاز الروسي (الورقة صدرت عن مركز مارشال للدراسات الأمنية، وهو مركز دراسات قائم بالشراكة بين وزارتي الدفاع في أميركا وألمانيا). في ذلك الوقت كان اعتماد دول الاتحاد الأوروبي على الغاز الروسي قد وصل الى 38 في المئة، فحذرت الورقة من أن استمرار السياسات الأوروبية بتجاهل توفير بديل للغاز الروسي سيجعل النسبة ترتفع إلى ما يفوق 60 في المئة وهو أمر بالغ الخطورة من الناحية الأمنية، ذلك لأن روسيا يمكنها أن تكون الطرف المتحكم بالعلاقة تجارياً وسياسياً.

كان رأي الكثير من القادة الأوروبيين في ذلك الوقت أن أوروبا وروسيا تحتاجان بعضهما البعض في موضوع الغاز كبائع ومشترٍ وليس من مصلحة إحداهما تهديد مصالح الأخرى. لكن الأحداث أظهرت أن روسيا استعدت وتحضّرت بشكل جيد مقابل تجاهل أوروبي تام لموضوع الأمن الاستراتيجي. فبينما كانت روسيا تعزز شراكاتها مع الدول النفطية الرئيسية وتفتح خطوطاً جديدة للتصدير مع عدد من الدول أهمها الصين، كانت أوروبا تنشغل بأزمة تلو الأخرى، بداية من الأزمة المالية العالمية التي أنتجت أزمات مالية في دول أوروبية عدة كان أصعبها في اليونان، تلاها أزمة اللاجئين ومشاكل كاتالونيا مع إسبانيا واستفتاء انفصال اسكتلندا وصولاً إلى الخروج الكبير لبريطانيا من الاتحاد والذي استمرت المفاوضات الخاصة به لسنوات عدة. أما في أزمة كورونا، فكانت أوروبا من أكثر المناطق تضرراً حول العالم صحياً واقتصادياً.

لا شك في أن أوروبا طبّقت الكثير من سياسات الطاقة النظيفة ومن ضمنها إقفال الكثير من المنشآت النووية المنتجة للكهرباء، لكنها لم تحسب احتمال تغير الأوضاع في أسواق الطاقة من بعد جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية. فأسعار الطاقة في أوروبا وصلت إلى مستويات تاريخية تبلغ أضعاف الأسعار في أميركا مثلاً، ومع تخفيض حجم تصدير الغاز من روسيا بذرائع مختلفة، لم يبقَ أمام القادة في أوروبا سوى طلب تخفيض الاستهلاك بنسب تصل إلى 15في المئة كي تستطيع إدارة المرحلة المقبلة. وكما هو متوقع لم يجد هذا الطلب قبولاً عند عدد من الدول الأوروبية مع اقتراب فصل الشتاء والبرد القارس.

أما من ناحية التضخم فقد بلغ مستويات تاريخية، ولا يبدو أن هناك قدرة على وضعه تحت السيطرة في المدى المنظور لعدم توافر الأدوات المالية والنقدية اللازمة حيث يتردد البنك المركزي الأوروبي كثيراً في تشديد السياسة النقدية على غرار ما يفعل الفدرالي الأميركي، خوفاً من الأثر السلبي الذي من الممكن أن يفاقم من تراجع النمو في الاقتصاد. وهناك شبه إجماع عند المحللين الاقتصاديين أن أوروبا على وشك الدخول في ركود اقتصادي صعب قد يمتد لفترة ليست قصيرة. وقد بدأت بوادر الركود تظهر حيث اضطرت بعض المصانع والشركات الكبرى لإيقاف إنتاجها وتسريح أعداد كبيرة من الموظفين بسبب ارتفاع الأسعار إضافة إلى تراجع الكثير من المؤشرات الاقتصادية. أما العملة الأوروبية الموحدة، فانخفضت إلى ما دون مستوى التعادل مع الدولار الأميركي للمرة الأولى منذ 20 سنة ومن المتوقع أن تشهد مزيداً من التراجع في ظل استمرار الدولار في الارتفاع.

من المستبعد جداً أن بوتين كان ليفكر بغزو أوكرانيا لو لم يكن يمسك بتلابيب الاقتصاد الأوروبي ويعرف أن أي خطة اقتصادية في أوروبا لتغيير الوضع ستستغرق سنوات طويلة مع الأخذ في الاعتبار أن اتفاق كل دول الاتحاد على خطط استراتيجية جديدة وتنفيذها ليس أمراً سهلاً، وبالتالي فإن ما ذكره ترامب قبل أربع سنوات كان صحيحاً وأصبحت أوروبا رهينة لبوتين حتى إشعار آخر.

عن "النهار" العربي



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية