
بعد أكثر من نصف قرن من النشاط الدعوي والتنظيمي والسياسي العلني والسري، تجد حركة النهضة الإخوانية بتونس نفسها مهددة بالاضمحلال أو الحظر، مع سجن أبرز قادتها والانسحابات التي طالت عددا آخر إما لتأسيس أحزاب أو يأسا من التغيير من داخل الحركة.
وفي ظل التغيرات الطارئة على الخارطة السياسية والمشهد الانتخابي في البلاد بخاصة بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، يتساءل مراقبون هل تُطوى صفحة حركة النهضة وينتهي فكر الإسلام السياسي في البلاد؟، خصوصا في ظل الملاحقات القضائية التي تطاول عدداً من قيادات الصف الأول في حركة النهضة بينهم رئيسها راشد الغنوشي (83 سنة) الذي يقبع منذ عام ونصف العام في السجن.
يُذكر أن حركة النهضة الإخوانية عانت خلال السنوات الثلاث الماضية من انقسامات داخلية وحالة من عدم رضا العناصر الشابة داخل الحركة عن قادتها، ووقع حوالي 130 عضوا من أعضاء الحركة الشباب بيانا في تموز/يوليو 2021 بعنوان "تصحيح المسار" دعوا فيه القيادة إلى تحمل المسؤولية الكامل عن "التقصير في تحقيق مطالب الشعب التونسي"، وطالبوا بحل المكتب التنفيذي للحزب، ودعوا الغنوشي إلى "تغليب المصلحة الوطنية".
لم تعد تمتلك حضورا دعويا ولا فقهيا
وبحسب تقرير، سابق، نشرته صحيفة "العرب" اللندنية، فإن الحركة لم تعد تمتلك حضورا دعويا ولا فقهيا في الشارع التونسي. لا يعرف لها خطيب لديه شعبية كبيرة أو يعتبر مرجعا فقهيا وإن كان أغلب الأئمة في المساجد يتبعونها ويوالونها، ولكنه ولاء تنظيمي كمّي وليس ولاء فكريا.
وذكرت الصحيفة أن حركة النهضة أقل الحركات الإسلامية إنتاجا فكريا لقادتها. باستثناء رئيس الحركة راشد الغنوشي، الذي انشغل بمواضيع الديمقراطية و”تعصير” الإسلام لإقناع الغرب بفكرة نشوء أحزاب إسلامية على شاكلة الأحزاب المسيحية المحافظة في أوروبا، فلا توجد كتابات واضحة للإسلاميين.
واعتبرت أن غياب الغنوشي وبدرجة أقل نائبه علي العريض يربك أداء النهضة سياسيا وحزبيا خاصة بعد انسحاب عبدالفتاح مورو من المشهد تحت تأثير غياب الدعم الكافي له في الانتخابات الرئاسية.
يضاف إلى ذلك غياب قيادات الصف الثاني إما بالسجن مثل عبدالكريم الهاروني والعجمي الوريمي أو بالاستقالة وتأسيس حزب مثل عبداللطيف المكي وسمير ديلو، أو الانسحاب في صمت لقيادات أخرى كان لها حضور حركي في ما بعد مثل لطفي زيتون 2011.
كل هذا يفقد النهضة إحدى نقاط قوتها، وهي الحضور السياسي والإعلامي وإدارة الصراعات والحرص على إظهار الحركة كحزب يؤمن بالديمقراطية والتداول على السلطة، وخاصة القدرة على ربط التحالفات، وهذا أمر يتقنه قادة الصف الأول ممّن أمكن لهم قبل 2011 وبعدها بناء علاقات حزبية وأحيانا شخصية مع مكونات مختلفة بما في ذلك مع الدولة العميقة.
ملفات ثقيلة
من جهته يتوقع الخبير القانوني التونسي حازم القصوري، أن تمهد محاكمة زعيم الحركة راشد الغنوشي ورفاقه في قضية التمويلات الأجنبية إلى الحسم في عدد من الملفات الأخرى التي ترتبط بجرائم الحركة خلال العقد الماضي، وفي مقدمتها ملف الاغتيالات السياسية لصالح الإخوان.
وفي تصريح لموقع "سكاي نيوز عربية"، يقول القصوري إن النهضة مارست سلسلة من الجرائم بحق التونسيين تستوجب المحاسبة العاجلة، في إطار خريطة الطريق السياسية للبلاد والتي تستهدف بالأساس مكافحة الفساد والفاسدين وإصلاح المنظومة السياسية والهيكلية في الدولة.
النهضة مارست سلسلة من الجرائم بحق التونسيين تستوجب المحاسبة العاجلة في إطار خريطة الطريق السياسية للبلاد
وبحسب القصوري يتعلق الملف الأول بالعمليات الإرهابية والاغتيالات، وفي مقدمتها قضية السياسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وتورط النهضة في مقتلهم بالإرهاب والتي أعلن سابقا من جانب وزير الداخلية التونسية في سياق الحديث عن حيثيات توقيف القيادي الإخواني نور الدين البحيري، ثم من جانب هيئة الدفاع عن بلعيد والبراهمي، مؤكداً على ضرورة فتح هذا الملف خاصة بعد إعلان الرئيس التونسي مرارا عن تعرضه لعمليات اغتيال.
أما الملف الثاني، وفق القصوري يتعلق بالاتهامات الموجهة للحركة بتلقي تمويلات أجنبية والتعاون مع جهات خارجية إبان الانتخابات البرلمانية وهو أمر أقرته محكمة المحاسبات بصدور تقارير تؤكد تورط حزبي النهضة وقلب تونس في تلقي تمويلات خارجية بالمخالفة للقانون.
ويرى القصوري أن الملف الثالث يرتبط بالفساد، ويؤكد القصوري في الوقت ذاته على ضرورة محاسبة جميع المفسدين الذين تسببوا بانهيار الوضع السياسي والاقتصادي التونسي على مدار10 سنوات من الحكم بالبلاد.
فقدت كل قدرة على تحريك الشارع
يقول عادل اللطيفي المؤرخ والناشط السياسي التونسي، في تصريح لـ"بي بي سي" إنه "قد بدا واضحا، أن النهضة فقدت كل قدرة لها على تحريك الشارع، وهو دليل على تراجع الامتداد المجتمعي لهذه الحركة. هناك نقمة سياسية على حزب اسمه حركة النهضة، ولكن المستوى المجتمعي هناك نوع من المحافظة المتصاعدة، لكنه يرفض تسمية سنوات حكمها بـ"العشرية السوداء" لأنها في رأيه أصبحت "مجرد مبرر لإعطاء شرعية ووجاهة لمنحى التسلط الذي تشهده تونس منذ 25 تموز/يوليو 2021".
واعتبر أن النهضة تمثل حركات الإسلام السياسي التي "لا تعتقد في وجود الدولة الوطنية، وتعتقد أن الشريعة بديلة عن قانون الدولة. لكن النهضة كانت واعية بأن المجتمع التونسي له خصوصياته. الوعي لم يأت من مراجعات فكرية للإسلام السياسي، بل أخذ بعين الاعتبار واقع التونسيين. مثلا، لا يمكن الآن إقناع التونسيين بتعدد الزوجات أو التراجع عن حق المرأة في الإجهاض".
ويضيف اللطيفي أنه "في مرحلة حكم النهضة، كانت هناك مشاريع قوانين تبين أنها لم تقطع مع الإسلام السياسي، مثل مشروع قانون المساجد الذي شهد حملة معارضة كبيرة وتم التراجع عنه...رغم أن الحركة تحدثت عن الديمقراطية، لكن لا ننسى أنه كان لها في الشارع ذراع ميليشيا تسمى رابطة حماية الثورة، وفي 2012 و2013، كانت هذه الميليشيا مسلطة على كل الأحزاب المعارضة والجمعيات والصحفيين".
فقدان رأسمال الرمزي
إلى ذلك، قال أستاذ التاريخ المعاصر مدير وحدة البحوث والدراسات التاريخية في المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية بتونس، عميرة الصغير، في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إن "عمر الإسلام السياسي في بلادنا هو نصف قرن تقريباً، وتحول في البدايات من حركة ثقافية إلى سياسية، ومر هذا التنظيم بتجارب عديدة لتحقيق مشروعه الذي لا يختلف عن مشروع الإخوان المسلمين".
واعتبر الصغير أن "المجتمع التونسي مسلم ومنفتح، وعلى رغم ذلك استطاع فكر الإسلام السياسي أن ينغرس فيه، بخاصة بعد 2011، نتيجة انحرافات نظام زين العابدين بن علي في مجال الحقوق والحريات والتهميش الذي سلط على مناطق وفئات كاملة في تونس، وهو ما أدى إلى أحداث 2011 ".
ورأى أستاذ التاريخ أن "حركة النهضة استثمرت في السردية الدينية، وادعت أنها في خدمة الشعب إلا أن أحوال التونسيين لم تتغير، وتبين فشل تجربة حكمها في تونس، وفهم المواطنون أن غاية هذا التنظيم هو المكوث في الحكم وتحقيق مصالحه الحزبية الضيقة، لذلك فقدت الحركة رأسمالها الرمزي الذي تستخدمه لاستمالة التونسيين ويستقي تعبيراته من المظلومية والنقاوة".