على الرغم من عودته ليلاً من عمله، إلا أنه لم يتوجه إلى سريره ليسترح من يومه الشاق كعادته، فراحته في تلك الليلة ليست النوم؛ بل الاستعداد ليوم العيد. ففي الصباح يصطف مع الشمامسة أمام مذبح كنيسته، ويرتل الألحان مثلما فعل أهل أورشاليم عندما استقبلوا المسيح. اتجه إلى غرفته ليجهز "تونيته" البيضاء ودفه لينضم في الصباح إلى فريق المرتلين. لم يكن ليله طويلا، فـليالي العيد تمر سريعًا؛ هكذا هي لحظات السعادة، يبدأ "مينا" يومه بمرافقة صديق عمره إلى الكنيسة، وعلى الرغم من طول الطريق، إلا أنّ المسافات تقصر عندما تتزين الأحاديث بوهج الذكريات، كانا يتبادلان أطراف الحديث عندما كانا صغيرين يتسابقان صباحاً ويتنافسان على من يصل إلى هيكل الكنيسة أولاً، يتذكران أول لحن تعلماه معاً من معلمهما في مدارس الأحد، وانتهى حديث الذكريات بنهاية طريقهما عند بوابة الكنيسة وخضعا لإجراءات التفتيش، بعد عبورهما بقليل أطلقت البوابة إنذارها، لكنّ أحداً من أفراد الأمن لم يكترث لذلك.
عمليات إعادة إعمار الكنيسة لم تمنع مسيحيي المحافظة من أداء شعائرهم بالمبنى الملحق، حيث تتزين الجدران بصور الشهداء
في صحن كنيسة مارجرجس بطنطا، وقبل بدء قداس عيد السعف التقى مينا وصديقه بمعلمها، وقاموا بتجهيز كل مسلتزمات قداس العيد، ها هو "الخولاجي" أي كتاب صلوات القداس وآلات الموسيقى الكنسية "الدف والترينتو" جاهزة، وكورَس الشمامسة مستعد لبدء القداس، وكهنة الكنيسة يقودون الصلاة، مرت ساعات الصلاة واقترب القداس من نهايته التي اختلفت عن نهايات القداسات الأخرى، فاليوم تنتظر الكنيسة انتهاء قداس أحد السعف لترتدي ثوباً أسود، وينتزع الشمامسة الشارات البيضاء التي تحمل صور دخول المسيح لأورشليم، وتستبدل بشاراتٍ سوداء عليها صور المسيح مصلوباً، وتتحول التراتيل المبهجة في قداس أحد السعف إلى تراتيل حزينة تنتزع دموع المصلين، وتذكرهم بآلام المسيح، حيث قرر أحدهم أن تحزن الكنيسة مبكراً، وأن تبكي حزناً على رحيل من ليس لهم ذنب إلا أنهم قرروا أن يصلوا، وفي لحظة افترق الصديقان وارتفعت الأدخنة وفقد مينا وعيه. ولكنه عاد سريعاً؛ ليرى أشلاء متناثرة من حوله واستغاثات لم يسمعها جيداً من شدة الانفجار، وصديق عمره بجانبه جثة هامدة، بينما الدماء تغطي ملابسهما البيضاء، وعلى باب هيكل الكنيسة معلمه يلفظ أنفاسه الأخيرة. حاول مينا أن يستعيد توازنه ويقف على قدميه، لكنه فوجئ بأنه فقد أجزاءً من وجهه، وتفرقت شظايا الانفجار والنيران في مختلف أنحاء جسده.
بدأ مينا يتعافى جسدياً من آثار الحادث ويعتاد آثار الشظايا بجسده، ولكن الألم النفسي، وأوجاع الفقد أكبر بكثير من أن يعتادها، يقول:"حزني كبير وخسارتي فادحة، فقدت زملاء وأصدقاء ومعلمين وعشرة عمر، وحزني الأكبر أيضاً على من فجر نفسه، الذي أمتلأ قلبه بالكراهية وخسر دنيته وآخرته".
أربعة أشهر على الحادث، ولم يعد المصلون إلى الكنيسة التي تعتبر كاتدرائية المحافظة، ويؤكد القس موسى واصف كاهن كنيسة طنطا أنّ المسألة مسألة وقت، ولا توجد مشاكل أخرى لإعادة فتح الكنيسة أمام المصلين من جديد.
الإصلاحات وعمليات إعادة إعمار الكنيسة لم تمنع مسيحيي المحافظة من أداء شعائرهم بالمبنى الملحق، حيث تتزين الجدران بصور الشهداء وسيرتهم الذاتية، كما تم تغيير اسم الكنيسة إلى "كنيسة مارجرجس والشهداء"؛ بعدما أعلن الأنبا بولا أسقف الكنيسة تغيير اسمها إلى مارجرجس والشهداء، إلى جانب وضع صورهم في بهو الكنيسة المرتقب تم إلى جانب أيقونة القديس مارجرجس الشهيرة التي يظهر بها قائد فرقة الحرس الإمبراطوري الروماني، على جواده وفي يده حربة يطعن بها التنين وقد وقفت على بعد عروس، فالحصان يرمز إلى الرعب والفزع؛ حيث إنّه يقفز ويصهل لأنّ الحيوان لا يعرف الإيمان، والحربة ترمز إلى قوة المسيحية التي ستبدد الوثنية وسلطان ظلامها، والتنين هو الشيطان مجسماً في دقلديانوس الامبراطور الطاغية الذي عذب مارجرجس لسبع سنوات، أما العروس الجميلة الواقفة غير بعيدة عن البطل الفارس، فترقب معركته مع التنين في سكون فهي الكنيسة المسيحية.
القس بافليوس سكرتير أسقف طنطا رفض الإفصاح عن حجم الخسائر، حيث أكد أنه من الصعب حصر حجم الخسائر في الوقت الحالي؛ لأنّ ثمة مناقصات وحسابات لم تنته بعد، ولكن من المؤكد أن يتم افتتاح الكنيسة قريباً، كما أنّ الكنيسة ستقيم احتفالات عيد الميلاد. ويضيف أن الإصلاحات بالكنيسة الآن تشمل معالجة آثار التدمير الذي نتج عن الحادث الإرهابي، وكذلك إصلاح المباني التي كانت تحتاج إلى ترميم قبل الانفجار.
تهديدات تنظيم داعش بحق الأقباط متجددة، ولكن مينا يقول إنهم لايخشون ذلك، فلا بديل في رأيه عن الإيمان: "هكذا تعلمنا منذ بداية المسيحية من قصص القديسين والشهداء، فلا شيء يفصلنا عن محبة المسيح، المحبة التي أحاطتني في زيارات المصريين، حيث قامت إحدى السيدات المسلمات بتقبيل رأسي، وجعلتني أشعر بأننا رأينا قلباً أسود واحداً و90 مليون قلب أبيض".
بدأت الصلاة، وانطفأت الأنوار، ولم أسمع سوى صرخات النساء حولي واستغاثات الرجال. لم تعد حياة نعمان لطبيعتها
يستمد مينا إيمانه من شفيعه وقدوته وحامل اسم كنيسته، القديس مارجرجس، القائد الروماني الذي كان يقود خمسة آلاف جندي، ولكن الملك دقلديونس وقتها بدأ في حملة عنيفة لاضطهاد المسيحيين، فلم يقف مارجرجس مكتوف الأيدي، بل صرح بدينه واستعد لمواجهة الاضطهاد، وعندما فشل الملك في إغرائه صار يعذبه لسبع سنوات، وحسب القصص المتداولة، ساندته يد الله ليقتنص نفوساً كثيرة للإيمان من خلال عذاباته، فقد مات ثلاث مرات، وكان الرب يقيمه ليتمجد فيه، حتى استشهد في المرة الرابعة، كما كان ينعم برؤى سماوية وسط الآلام تسنده وتعينه.
في المستشفى العسكري بالمعادي تجلس زوجة نعمان البالغ من العمر 50 عاماً، تنتظر زوجها الذي يخضع لإجراء عملية جراحية بالأذن. إصابات نعمان متعددة؛ فقد أصيب بحروق متفرقة بجسده إثر تناثر الشظايا وكذلك ثقب بالمعدة وضعف بالبصر والأذن.
تتذكر زوجته تفاصيل ذلك اليوم جيداً: استيقظت وزوجها في السابعة صباحاً لتذهب مبكراً إلى الكنيسة كي يتمكن من الجلوس في الصفوف الأمامية. تتوقف عن الحديث لحظات كمن يتذكر شيئاً مهماً، فتقول كنا نعتاد قضاء العيد في دير الأنبا بيشوي، ولكن امتحانات نهاية العام منعتنا من الذهاب إليه، ففضلنا أن نذهب إلى الكنيسة الكبيرة حيث يكون للاحتفال معنى مختلف.
في ذلك اليوم ذهبا معاً إلى الكنيسة في تمام الثامنة صباحاً، وفي أحد الشوارع الجانبية تركا سيارتهما ودخلا إلى الكنيسة، جلس نعمان في مكانهما المعتاد في الصف الثاني من الأمام، وترك زوجته أمام الهيكل في المقاعد المخصصة للنساء. تتوقف زوجته مرة أخرى قبل أن تكمل حديثها: "على باب الكنيسة كانت هناك إجراءات أمنية مشددة، ومع ذلك عندما أصدرت صفارات الإنذار تحذيراتها، ولم يتحرك أحد لتفتيش حقيبتي الخاصة، أو يطلب الاطلاع على البطاقة الشخصية".
بدأت الصلاة، وانطفأت الأنوار، ولم أسمع سوى صرخات النساء حولي واستغاثات الرجال. لم تعد حياة نعمان لطبيعتها؛ إذ فقد عمله بمحافظة مطروح الساحلية، حيث كان يمتلك مشروعاً سياحياً يعتمد على تأجير مستلزمات البحر للمصطافين.
الأنبا بافليوس أكد أن القوات المسلحة تتكفل بعلاج المصابين في الداخل، بينما تحملت الكنيسة، التي فتحت باب التبرعات في اليوم التالي للحادث، تكاليف علاج بعض الحالات الحرجة في الخارج، كما تقدم الكنيسة دعماً مالياً لأسر الشهداء والمصابين، حتى يكبر أطفالهم.
حادث استهداف حافلة رحلات دير الأنبا صموئيل المعترف بالمنيا، جعل الأمن يتخذ إجراءات أمنية مشددة بمنع الرحلات الدينية والطقوس التي كانت يقوم بها المسيحيون بتوصية من البابا تواضروس بابا الاسكندرية.
التوصية، حسب المصادر الكنيسة شفاهية ولم يوقع قرار بذلك، ولكنها أرسلت إلى "الأبرشيات" داخل مصر حتى يتم العمل بها، حرصاً على سلامة الأقباط، بعد توصيات أمنية. تقول زوجة نعمان إن أولادها كانوا يجدون في هذه الرحلات ترفيهاً في العطلة الصيفية، ولكن الطاعة تجلب النعم، فالجماعات الإرهابية لا تستهدف أبناء الكنيسة وحدهم، وإنما إرهاب البلد كلها بمسلميها ومسيحييها، وهم عاجزون عن تحقيق ذلك لأنه "مَن الذي يقول ما يقول، وربنا لم يكتب".