هل في وسع الأناشيد أن تصنع وطناً. وهل بمقدور الأمل أن يستعيد بيارة سلبها الصهاينة ذات فجر اختلطت فيه نسمات الهواء الرطب بدخان القنابل قبل سبعين عاماً؟
وهل يمكن للتاريخ أن يحفظ الوصايا، ويترفّق بصيحات الضحايا الذين ثقبت نداءاتهم سقف السماء، عندما تخلت العدالة عن رأفتها، وراحت تقلّد شكل الخنجر وهو يتجوّل في خاصرة شعب أدمن الرحيل؟
لا شيء يُسعف اللاجئ، في هذه الذكرى المعتمة، سوى بضع كلمات يرتق بها شرخ الجغرافيا، وهي تسيل، فتشكّل كيانات تتخذ هيئة دولة بعلم ونشيد وطني صاغه شاعر يهودي من شرقي أوروبا، يتحدث عن "الأمل". كأن المأساة لا تكتمل إلا بالأمل، وكأن شذّاذ الآفاق الذين ضاق بهم الوعي الأوروبي، قد صدقوا كذبتهم، بعدما عثروا مصادفة على لحظة تاريخية رخوة، فاغتنموها، وهم التجار المرابون، وآزرتهم عتمة الروح الاستعمارية، فجرى إحلالهم مكان شعب آخر، في غمرة إغماضة عين مديدة للحق، صار عمرها سبعين عاماً، وقد تطول فتصبح قروناً، وقد يصاب الحق بالعمى، فتتأبّد المأساة، ويصاب الأمل بالبكم!
لن تكون الذكرى السبعون لانهيار الحلم الفلسطيني سوى قنطرة نحو التمسك بالحق حتى لو ظلّ مصاباً بـ"الكوما"
لا بأس، فالتاريخ ترسمه المدافع وفوهات الموت. وهو نادراً ما يعبأ بالضحايا، ولا يصغي إلى أوجاعهم، وإذا أصغى فإنما يفعل ذلك على عجل، وبلا انتباه.
ولا بأس في أن يندلع شجار على الحق بين الضحية والجلاد. ولا بأس، في غضون ذلك، أن يناصر كثيرون الجلاد، ويساهموا في توسيع سجونه، وبناء ترسانته من الموت. ولا بأس أيضاً في أن يتنادى زعيم من هواة الآكشن، يدعى ترامب، إلى "الوفاء بوعوده" فيقرر نقل سفارة بلاده الأمريكية إلى القدس، كي يتنسّم نتنياهو وليبرمان رائحة القداسة وهي ترفرف في الريح..
وما علم هؤلاء أنّ ازدياد الترسانة، وتوسيع السجون، إنما هو تعبير عميق عن لون الخوف الذي يسري مع دم الغزاة، فلا يعرفون طعم السكينة، ولا يأمنون على أنفسهم، ولا يزعمون أن بوسعهم أن يواصلوا مسيرة الأمل حتى منتهاها، فدون المنتهى ثمة عواقب وعقبات.
وفي مقابل مسيرة الأمل التي أوهم بها الغزاة مشروعهم المسيّج بالكراهية، ودخان الموت، ثمة مسيرة "العودة الكبرى" التي راح فلسطينيون منذ يوم الأرض يرتبون لانبثاقها، وصعدت أرواح قبل الوعد المبرم الذي لن يحرر أرضاً سليبة، ووطناً يتحدث بالعربية الفصحى من البحر إلى النهر، ومن رفح إلى الناقورة، لكنّ هذه المسيرة، سترفع مفاتيح البيوت العتيقة، وستهتف في وجه الرصاص الحي: (عائدون)، وسيرتقي شهداء إلى العلياء، وينزف جرحى، وهم يلوّحون بشارة النصر، وسيولد شبل من هذا الشعب يحمل الراية وعينه على القدس، كما تنبأ قائد تاريخي راحل.
سيردّد هواة الهزيمة أنّ الزمن الإسرائيلي هو الذي يرسم الخرائط، ويحدّد الأولويات، ويضبط الإستراتيجيات، فيناور ويهاجم، ويباغت، ويبحث عن مطرح ولو ضيّق لتمدده ونشر صواريخه، واستعراض تفوقه.
وسيذهب كثيرون ممن أعمى قلبهم هوسُ التحارب وتوازن الرعب إلى اختيار العدو التاريخي، متكأً وظهيراً وحليفاً، لكنّ ذلك على بشاعته، لا يعني شيئاً. ربما يغيّر من الأسماء لكنه لا يغيّر الوقائع. فلو أن ثمة شاباً في رام الله يسير على مقعد متحرك، أو برفقة عكازة، فاعلم أنّ تلك المشية المتهادية الركيكة هي أبلغ من كل الوقفات المحنطة التي تشد الظهر بالسيف الذي يخترق العظام، ولا تقوى على الجهر بالألم!
تحاصرني بالموت وأحاصرك بالكراهية الأشد فتكاً من قبتك الفولاذية ومفاعلك النووي وهلوساتك كلما سمعت بأننا "عائدون" لأننا "عائدون"!
لن تكون الذكرى السبعون لانهيار الحلم الفلسطيني، سوى قنطرة نحو التمسك بالحق، حتى لو ظلّ مصاباً بـ"الكوما"، والتمسك كذلك بمفاتيح البيوت حتى لو نهشها الصدأ، فالحق الفلسطيني، لا حق العدالة الدولية، أو حق الميتافيزيقا، هو ما نعوّل عليه من أجل استنبات أمل لا يضاهي ذلك الأمل المفخخ الذي رسمه شاعر بريشة مرتعشة لا تستطيع أن تقبض إلا على الوهم، فالأمل يلزمه زناد يقدح شعلته من تاريخ تشكّل قبل الأنبياء والرسالات، وقبل أن يحدودب ظهر السماء.
على هذا يراهن الفلسطيني، وهو يخلع على الأيام مرارة الحنين إلى أرض الأجداد، ومن أجل ذلك يعلّق صورة القدس في قلبه وعلى صدر جدار أو خيمة أو على جذع شجرة، ويعلقها على قضبان زنزانة، وفي أطراف عتمة تتوخى الفجر.
وبالصبر المديد، الأطول من صبر أيوب، يعالج الفلسطيني سأمه، ويبني ترسانة الرضى من فتات البيوت المهدّمة، ويردّد في سره وعلانيته أنّ فلسطين ستعود، ويقسّم بالإله أنها ستعود، وربما تدمع عيناه، لا لانفقاد ضوء الأمل في النفق الطويل، بل لأنّ الحنين يوشك أن يجهش في البكاء.
في ذكرى المأساة الفلسطينية لا ينفع الكلام عن السياسة ما ينفع هو صيانة الروح من الانشطار
في ذكرى المأساة الفلسطينية، لا ينفع الكلام عن السياسة، وتوازن القوى، وعن توحيد الصف الفلسطيني. ما ينفع هو صيانة الروح من الانشطار، وتدريب الأيدي على احتضان الجمرة حتى لو أحرقت العظام. الوطن يستعاد بفكرة. والفكرة لا تحلق في سماء الوهم، بل تتكئ على الذكرى، والذكرى لا تمشي على قدمين من غبار، بل إن لها جذوراً راسخة في الأرض، كمثل تلك الزيتونة التي احتضنتها، بكل عنفوان الدنيا، جدتنا الفلسطينية الحاجة محفوظة اشتيتة، من قرية سالم شرقي مدينة نابلس في الضفة المحتلة.
وفي مقابل تدريب الروح على الأمل المقاوم، تنشأ في الجوار كراهية مضادة تتعاظم للاحتلال الصهيوني الذي يكاد الفلسطينيون والعرب وأحرار العالم يجمعون على بشاعته ولا قانونيته، ويتعاطفون مع أحزان الضحايا المقتلعين من الجغرافيا والتاريخ، والمطالبين بأن تصافح أياديهم العارية سكين الجلاد المبللة بالدم والغدر والخديعة.
ستحتل بلدي بدباباتك، وستقصف مدني بصواريخك، وسترفع جدران الفصل العنصري كي تحصّن مخاوفك. وستبني كل يوم مستوطنة فوق أرض آبائي، وستمارس عربدتك المعروفة، وتردّد أسطوانتك المشروخة. لا بأس، فكل ذلك لا يضيرني. أنت تملك، الآن، حق القوة، وأنا أملك، إلى الأبد، قوة الحق. وكلما اتسعت زنازينك، تمددت كراهيتي لك، ونبذي لفكرتك الشريرة. هذا ما أتمسك به الآن، وأعضّ عليه بالنواجذ، وسأورثه لأبنائي، وأوصيهم بتوريثه إلى سائر أفراد السلالة.
تحاصرني بالموت، وأحاصرك بالكراهية الأشد فتكاً من قبتك الفولاذية، ومفاعلك النووي، وهلوساتك، كلما سمعت بأننا "عائدون"، لأننا "عائدون"!