في البحث عن خطاب إصلاحي جديد

في البحث عن خطاب إصلاحي جديد

في البحث عن خطاب إصلاحي جديد


12/02/2024

يفترض أيضاً أن ينشأ خطاب إصلاحي جديد مستمد من التشكل الحضاري والاجتماعي المصاحب لهذه الموارد والتقنيات، فكما نشأت فلسفة وأفكار مصاحبة للاقتصاد الصناعي يتوقع أو يجب أن تنشأ أفكار وفلسفات "شبكية"، وأن يُستمد منها خطاب إصلاحي.

تبدو التقنيات والموارد واضحة ومجمعاً عليها، لكنّ التشكل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي ليس واضحاً ولا حتمياً أو تلقائياً، وفي ذلك فإنّ الخطاب الإصلاحي يجتهد بالاستجابة للمرحلة "الشبكية/ المعرفية" ببناء منظومة فكرية وفلسفية يَستمدّ منها برامج وأفكاراً واتجاهات في التعليم والعمل والعلاقات الاجتماعية والسياسية والقيم والثقافة والمدن.

إنّها عمليات تكتنفها صعوبة الانقطاع عن الماضي "الصناعي" وغموض التشكل والاتجاهات، فما زلنا في مرحلة انتقالية من الصناعة إلى الشبكية/ ما بعد الصناعة، وهي مرحلة ملأى بالخوف وعدم اليقين والتغير المستمر، لكن يمكن تقدير اتجاهات ومبادئ للتفكير والاستشراف والحكمة.

يمكننا ملاحظة ما أنجز بالفعل، أو تلقائياً، من أهداف إصلاحية، بفعل التقنية والتحولات الجديدة، وما يجب إنجازه، وما يجب التمسك به، وما يجب التخلي عنه، وإعادة توزيع الأدوار والأعباء والشراكات والتحالفات بين فئات العمل الإصلاحي ومكوناته، فما كانت تقوم به، على سبيل المثال، وسائل الإعلام، صارت تشارك فيه المجتمعات على نحو فاعل ومؤثر.

يمكن بموارد قليلة تطوير التعليم ومواكبة الإنتاج المعرفي المتواصل والمتدفق، والحصول على وسائل معرفية واتصالية وتدريبية

يمنح التطور التكنولوجي لحظة يجب توظيفها، كيف نوظف التكنولوجيا المتاحة اليوم لأجل الإصلاح؟ كيف تساعد التكنولوجيا في التأثير على السياسة العامة، وتدفع بها باتجاه الإصلاح؟ كيف تساعد في تغيير علاقات القوة والإنتاج في المجتمع والدولة، ومن ثم كيف تنشئ قيادات اجتماعية واقتصادية وطبقات ومصالح جديدة؟ ثم كيف تنظم هذه الطبقة الجديدة مصالحها وأدواتها في التأثير والتغيير؟ كيف ينشئ الإصلاحيون بالتكنولوجيا الجديدة فرصاً وموارد وأسواقاً وأعمالاً جديدة، تنشئ موارد مستقلة لهم، ولقواعدهم الاجتماعية؟ هم بذلك فقط ينشئون علاقات قوة وتأثير جديدة وبديلة تحرك الأسواق والمجتمعات، بعيداً عن الاحتكار والامتيازات التي ترفل فيها النخبة المهيمنة، ويجبرونها على المشاركة في الإصلاح والتنافس العادل، أو يخرجونها من التأثير، ويضعونها في مواجهة الانقراض والفناء. وببساطة، وعلى نحو عملي، يجعلون قواعد الدخول إلى النخبة (النخب تعني قيادة المؤسسات والأعمال والقطاعات) والخروج منها على قاعدة "البقاء للأصلح"، وفي هذه القاعدة يكون الإصلاح.

السؤال، إذن، ببساطة، ومرة أخرى، كيف تنشئ المجتمعات والطبقات موارد وأعمالاً جديدة، تحررها من هيمنة النخب والاستبداد والاحتكار والامتيازات والإذعان والوصاية؟ فبغير الخروج من هذه الدوامة اللعينة، لن تستفيد المجتمعات من الانتخابات والديمقراطية والحريات.

يجد المُستضعَفون دائماً في التقنية الجديدة فرصاً جديدة في التحرر ومواجهة الظلم، وربما يردّ على ذلك بالقول إنّها (التقنية) كانت أداة جديدة للهيمنة والاستغلال، ويبدو ذلك صحيحاً أيضاً. ولكن من المؤكد أنّه كانت تصحب التقنية، على مرّ التاريخ، تحولات اجتماعية، تستفيد منها طبقات وفئات كانت مهمشة أو مظلومة، وترحل دائماً طبقات مهيمنة. 

المطبعة جعلت المعرفة والقراءة والكتابة والتعليم متاحةً للفقراء، كما هي متاحة للأغنياء، وأصبح، للمرة الأولى، في مقدور عامة المسيحيين في أوروبا قراءة الكتاب المقدّس،  كان ذلك حدثاً جدليّاً كبيراً غيّر في أوروبا حتى اليوم، وكان واحداً من أسس الدعوة البروتستانتية التي انشقت عن الكنيسة الكاثوليكية.

يمكن اليوم ملاحظة فرص جديدة تتشكل حول الشبكية، بعضها بدأ بالفعل يستخدمه المهمَّشون والفقراء، وبعضها ما زال فرصاً واعدةً تحتاج إلى نضال وتنظيم اجتماعيين؛ ففي التعليم الذي يشكل اليوم أحد الأولويات الأساسية والكبرى للأفراد والمجتمعات والدول يمكن إتاحة تعليم جيد، كان يحتاج من قبل إلى سفر ونفقات كبيرة، لكنّه أصبح متاحاً، أو ممكناً بتكاليف قليلة، يقدر عليها معظم الناس؛ إذ تفتح تقنيات الحوسبة والتشبيك آفاقاً جديدة في العملية التعليمية، سواء في التدريس أو المناهج أو المؤسسات التعليمية ودورها، ودور الأسرة والمجتمع الذي يكاد يكون ثانوياً، أو غير متكامل، مع دور المؤسسات والإدارة والمناهج التعليمية القائمة.

يمكن اليوم ملاحظة فرص جديدة تتشكل حول الشبكية، بعضها بدأ بالفعل يستخدمه المهمَّشون والفقراء، وبعضها ما زال فرصاً واعدةً تحتاج إلى نضال وتنظيم اجتماعيين

فيمكن بموارد قليلة تطوير التعليم ومواكبة الإنتاج المعرفي المتواصل والمتدفق، والحصول على وسائل معرفية واتصالية وتدريبية، وتؤسس لتعليم جديد قائم على التعليم والتواصل عن بُعد، وتمكن من تفعيل اكتساب المعرفة الراقية والمهمة من مصادرها المهمة والأولية، بجهود وتكاليف وتراتيب سهلة وممكنة.

وتمضي الشبكية أيضاً بالناس إلى أنماط واتجاهات جديدة في التعليم وإدارته؛ فالترجمة والتأليف والإنجازات يمكن إتاحتها وتنسيقها، لتكون بين يدي جميع الناس.

والشبكية نفسها تتحول إلى فلسفة في الحياة والإدارة والتعليم والسياسة والثقافة، بديلة للهرمية القائمة، أو التي كانت قائمة، فالناس، في تعاملهم الشامل مع الشبكات، للتعليم والتواصل والاتصال والعمل والتشاور والحصول على المعلومات والمعارف وتبادل الآراء والخبرات والمعارف، وتحويل وتلقي المال والخدمات والسلع، يستبدلون بنظامهم الهرمي التاريخي في الحياة نظاماً شبكيّاً قائماً على المساواة والمشاركة المتحققة فنيًاً.

 




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية