الهدف من السجن في الجرائم الجنائية؛ هو أن يكون عقاباً وفي الوقت نفسه هو إصلاح وتهذيب، أما بالنسبة إلى المعتقلين السياسيين؛ ففي الأغلب يكون أداة للتخلص منهم أو لدفعهم إلى الجنون، ومن أجل ذلك تُفرض عليهم أقصى حدود العزلة والتعذيب النفسي، وقد ظهر هذا الهدف في مضمون فيلم "ليلة طولها اثنتا عشرة سنة" 2018، للمخرج ألفارو بريشنر من أوروغواي، الذي عُرض في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الأربعين، ونال استحسان الجمهور وحاز فيه جائزة أحسن فيلم، كما ترشّح الفيلم لجوائز في مهرجانات أخرى، ونال منها جائزة أحسن فيلم في مهرجاني "كان" و"برلين".
اقرأ أيضاً: فيلم "كتاب أخضر": صورتنا في مرآة العنصرية
يضع الفيلم المشاهد أمام سؤال ضمنيّ: إلى أيّ مدى يمكن لعقل وجسد السجين أن يتحمل؟ وهل يمكنه مواصلة الحياة بعد تجاوزه لمحنة السجن لسنوات طويلة؟
جحيم المعتقلات
ظهر الاحتفاء بالفيلم ومخرجه من قبل الجمهور الذي ظلّ يصفق طويلاً بعد انتهاء العرض، الفيلم تحفة فنية تضاف إلى إبداعات أدب السجون، لكن هذه المرة بناء على قصة حقيقية، وليست متخيلة، كما هو حال فيلم "الخلاص من شاوشانك" 1994، وعشرات الأفلام المماثلة عن حياة السجون والمعتقلات، ويختلف هذا الفيلم من حيث المعالجة بتصويره لأدقّ تفاصيل معاناة السجناء ووسائل تعذيبهم النفسية، وتحديداً في تركيزه على العزلة التي فُرضت عليهم، وكيف تمكنوا من الصمود وابتكار وسائل للبقاء وللتواصل إلى أن أُطلق سراحهم بعد اثني عشر عاماً قضوها في جحيم المعتقلات.
يضع الفيلم المشاهد أمام سؤال ضمنيّ: إلى أيّ مدى يمكن لعقل وجسد السجين المظلوم أن يتحمل؟
يُذكّر هذا الفيلم، من حيث الموضوع، بأفلام أخرى عن قصص حقيقية لسجناء سياسيين، مثل: فيلم "باسم الأب" 1993 (In The Name of the Father)، الذي يحكي قصة الإيرلندي جيري كونلن (دانييل داي لويس)، وانتقاله إلى لندن هرباً من الفقر لكنّ السلطات البريطانية تلقي القبض عليه وتلفق له تهمة التفجيرات الإرهابية التي أودت بحياة العديد من المدنيين، ويذكّرنا كذلك بفيلم (Some Mother's Son 1996)، أو فيلم (Hunger 2008)، وتدور أحداثهما حول إضراب سجناء من الجيش الإيرلندي عن الطعام في أحد السجون البريطانية ومعاملتهم كمجرمين بدلاً من كونهم أسرى حرب، كما يعيد إلى الذهن أيضاً الأفلام التي صَورت تجربة نيلسون مانديلا في السجن طيلة سبعة وعشرين عاماً، والأهم أنه يُذكر بالواقع العربي وبالمعتقلين السياسيين الذين دفعوا حياتهم ثمناً من أجل حرية لم تُنل حتى اللحظة.
رسائل الفيلم
يبدأ الفيلم في ليلة خريفية باقتحام زنزانات أحد السجون واعتقال ثلاثة سجناء في عملية عسكرية سرية، ويستمر إخفاء السجناء قسراً عن ذويهم لفترة طويلة، وبعد هذا المشهد يتنقل السرد ما بين السجون العديدة التي نُقل إليها الثلاثة، مع ومضات قليلة عن حياتهم السابقة قبل السجن، وهم بصحبة أُسرهم، مع زوجاتهم أو مع أطفالهم، ومع كلّ نقلة بين الجحيم والنعيم، الظلام والنور، يتضح التباين بين العالمين: عالم السجون بكادراته القاتمة والعالم الخارجي بألوانه الطبيعية المبهجة، ولا تخلو بعض المشاهد من مواقف ساخرة تدعو للابتسام تارة وللضحك تارة أخرى، لتكون أشبه بواحة تنعش الجمهور الذي ستغلبه عبراته في بعض المشاهد.
الفيلم تحفة فنية تضاف إلى إبداعات أدب السجون لكن هذه المرة بناء على قصة حقيقية
من تلك المشاهد الساخرة؛ مشهد أحد السجناء وهو واقف ومقيد من يده إلى أعلى المرحاض، ويطلب الإذن بفك قيده ليتمكن من الجلوس على كرسي المرحاض، وقضاء حاجته بشكل طبيعي، ولأنّ العسكر لا يعرفون سوى السمع والطاعة، ولا يستطيعون حلّ مشكلة بسيطة كهذه، يتم رفع طلب السجين بداية من جندي الحراسة إلى الضباط الأعلى رتبة، وبلقطة من أعلى نرى الحمام وقد ازدحم بكل قادة المعتقل.
اقرأ أيضاً: فيلم "أولاد الفقراء".. عندما بشّر يوسف وهبي بثورة البسطاء
تدور أحداث الفيلم في الفترة الممتدة ما بين 1973 إلى 1985، وهي السنوات التي استولى فيها الجيش على الحكم في الأوروجواي، فعطَّل بذلك الحياة السياسية والحكم المدني الديمقراطي.
والفيلم بتناوله لهذه المرحلة، من خلال المعتقل، يسجل شهادة على الجحيم الذي يرافق حكم العسكر، وهو بهذا المعنى ليس فيلماً عن الأوروجواي فقط، أو عن حالة بعينها، لكنه فيلم عن وضع إنساني في ظلّ القمع الذي يمارسه الحكم الاستبدادي.
من المعتقل إلى كرسي الرئاسة
يحكي الفيلم تجربة ثلاثة سجناء سياسيين من أصل اثني عشر، والسبب في التركيز على ثلاثة فقط؛ هو أنهم تمكنوا من مواصلة حياتهم بشكل طبيعي بعد تجربة السجن المريرة، وكان من بين المعتقلين، خوسيه موخيكا، الذي أصبح بعد خروجه من المعتقل عضواً في مجلس الشيوخ ووزيراً، ثم رئيساً للأوروجواي، للفترة بين 2010 و2015.
ترشّح الفيلم لجوائز في عدة مهرجانات ونال منها جائزة أحسن فيلم في مهرجاني كان وبرلين
يعرف الكثيرون الرئيس موخيكا؛ بسبب سياسياته التقشفية وحياته المتواضعة، ووُصف بأنه "أفقر رئيس في العالم"، بسبب أسلوب حياته التقشفي وتبرعه بنحو تسعين في المئة من راتبه الشهري، الذي يساوي 12.000 دولار أمريكي للجمعيات الخيرية والشركات الناشئة، "كان موخيكا يقتني سيارة فولكس فاجن، صنعت العام 1987، ويقيم في مزرعة بسيطة في منزل زوجته لوسيا بالقرب من العاصمة الأوروغوانية مونتفيدو، كما أنّه لم يكن ينتفع بالحراسة المشددة كبقية رؤساء العالم، وقد فتح أبواب قصره الرئاسي في 2014 للمشردين، "عندما تمتلئ مراكز إيواء المشردين في العاصمة"، لكن هذا الفيلم يسلط الضوء على اثنتي عشرة سنة من حياته وحياة رفاقه في السجن، وهي فترة يجهلها المشاهد العربي.
لا بدّ لليل أن ينجلي
من حيث العنوان؛ يختزل الفيلم ذلك الجحيم في ليلة طولها اثنتا عشرة سنة، واختيار الليل في عنوان الفيلم فيه دلالة على الظلام الذي فُرض عليهم إلى درجة إغلاق النافذة الوحيدة في كلّ زنزانة، لكنّ ذلك الظلام تحوّل مع الزمن إلى صديق، كما تقول كلمات أغنية "صوت الصمت" التي استعان بها المخرج، بعد إعادة توزيعها، كخلفية موسيقية تربط بين بعض المَشاهد لتُعبِّر عن حالة السجناء وصمودهم ومقاومتهم، وتنتهي تلك الليلة الطويلة بنهار مشرق يخرج فيه المعتقلون الثلاثة إلى ساحة آخر معتقَل قبل الإفراج عنهم، وهو ما يظهر على بوستر الفيلم في دلالة تحمل مفارقة بين الليل الظاهر في عنوان الفيلم، والنهار المشرق، كما يظهر في البوستر، وفي آخر مشاهد الفيلم، ولا تخلو هذه المفارقة من رسالة ضمنية للمتلقي تحمل الأمل بعد الألم.