فتاوى القره داغي إذ تحددها الفوائد السياسية وفوائض السلطة وإغراءات الربح والخسارة

فتاوى القره داغي إذ تحددها الفوائد السياسية وفوائض السلطة وإغراءات الربح والخسارة

فتاوى القره داغي إذ تحددها الفوائد السياسية وفوائض السلطة وإغراءات الربح والخسارة


07/04/2025

تسييس الفتاوى الدينية هو من بين آليات وديناميات الجماعات الإسلاموية والتنظيمات الإرهابية، حيث إنّها تعتمد على المعطى الديني في ارتكازاتها، وتحويله إلى أداة في الحشد والتجييش. وفي إطار الرؤية الاستعمالية للدين من قبل هذه التيارات الراديكالية والمتشددة، تتحول معيارية الصوابية في الآراء أو الفتاوى بمدى تحقيقها فوائد سياسية براغماتية، وقدرتها على تبديد فرص الشرعية لخصومها. بالتالي تتحول المعركة السياسية إلى صراع مقدّس بحمولة إيديولوجية تطوق المنخرطين فيها بكتل عنف هائلة. حدث ذلك مرات عديدة، كما جرى مع ما يُعرف بفتوى الجهاد الكفائي التي أصدرها المرجع الشيعي علي السيستاني، بينما كانت دعوة لتشكيل ميليشيات عُرفت فيما بعد بـ "الحشد الشعبي" الذي يضم فصائل عسكرية مدعومة من إيران، وذلك إثر سقوط مدينة الموصل، ومع ظهور تنظيم داعش الإرهابي

السيستاني والفرص المهدرة

من المثير للسخرية أنّ فتوى السيستاني المتسببة ضمن عوامل عديدة، وتراكمات جمة، تتعلق بمرحلة العراق ما بعد العام 2003، في إهدار فرص تقوية الجيش العراقي، وترميم فجواته، وإعادة بنائه ومؤسسات الدولة المدنية والأمنية والعسكرية، على أساس قواعد مواطنية حديثة وليست طائفية، انقلب عليها، ظاهرياً، بتأكيده ضرورة حصر السلاح بيد الدولة العراقية، وتحكيم سلطة القانون، ومنع كل صور التدخلات الخارجية. 

حديث السيستاني تزامن مع تفاقم الوضع في غزة، والتطورات التي شهدتها الحرب، لا سيّما مع التهديدات الإسرائيلية بأن تصل هجماتها إلى مناطق نفوذ طهران، ومنها العراق، وتصفية وكلائها، وقد اغتالت قادة ما يُعرف بـ"محور الممانعة"، والجيل المؤسس لحزب الله، وعلى رأسه أمينه العام حسن نصر الله. كما تزامنت تلك التصريحات مع استقبال المرجع الشيعي ممثل الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس بعثتها في العراق  محمد الحسان.  وألمح إلى "أسفه لعجز المجتمع الدولي ومؤسساته بشأن فرض حلول لإيقاف الحرب في لبنان وقطاع غزة، أو على الأقل تحييد المدنيين من مآسي العدوان"، حسب تعبيره. 

المرجع الشيعي: علي السيستاني

وقال: "ينبغي للعراقيين، وخاصة النخب، أن يأخذوا العِبر من التجارب التي مروا بها، وأن يبذلوا قصارى جهدهم في تجاوز إخفاقاتها، ويعملوا بجدّ لتحقيق مستقبل أفضل لبلدهم ينعم فيه الجميع بالأمن والاستقرار". وتابع: "ذلك لا يتسنّى من دون منع التدخلات الخارجية بمختلف وجوهها، وتحكيم سلطة القانون، وحصر السلاح بيد الدولة، ومكافحة الفساد على جميع المستويات". وأوضح قائلاً: "لكن يبدو أنّ  مساراً طويلاً أمام العراقيين حتى يصلوا إلى تحقيق ذلك".

رغم ما يمثله المرجع الشيعي العراقي من قيمة لا يمكن الاستهانة بها بحال، إلا أنّ تصريحاته لا تتخطى كونها مجرد عملية تهدئة أو مناورة، بل هي رسالة بعلم الوصول إلى الأطراف المعنية بالمجتمع الدولي وإسرائيل، أنّ الميليشيات الشيعية لن تنخرط في ما عُرف بـ"حرب الإسناد"؛ بالتالي تظل الحقائق الميدانية والسياسية الأخرى قائمة، في ظل مأسسة الطائفية، وتغلغلها في القطاعات والأجهزة الأمنية والدفاعية. فالتصريحات الأخيرة للسيستاني لن تغير من الحقيقة شيئاً، أو تساهم في تفكيك الوضع الطائفي، بامتيازاته المختلفة، واقتصادياته الهائلة، ونفوذه في السلطة وتمدده الناعم والخشن في مراكز الحكم. 

منح الضوء الأخضر للميليشيات

الفتوى العسكريتارية للسيستاني منحت الشرعية للميليشيات التي تسيدت المشهد الأمني والعسكري العراقي لمواجهة التنظيم الإرهابي، وجعلته يظهر بصفة "المقاوم" و"المنتصر"، ويراكم سرديته التي احتمت بالمظلومية الشيعية المعاصرة والتاريخية. كما أنّ الفتوى لعبت دوراً مهمّاً في التعمية عن التكوين المباغت والملغز لـ "الحشد"، لا سيّما في ظل تردد رئيس الحكومة وقتذاك، نوري المالكي، لصد هجوم داعش، وعدم الاستجابة للنداءات العسكرية لقوات الأمن والجيش المرابطة حول مدينة الموصل، ولم تصلها التعزيزات المطلوبة. فتقويض الدولة كان الهدف المباشر في مقابل توسع الميليشيات، فضلاً عن إنهاء أيّ احتمالات للمواطنة لحساب الطائفية، ثم رفض استرداد العراق لقدرته على بناء عقد اجتماعي جديد، دستوري وقانوني وتشريعي، يضمن تعافيه من حقبة صدام حسين ونموذج حكم البعث، وبالتالي تحويله إلى بيت الطاعة الإيراني من دون مقاومة.

في كل الأحوال تشكلت الميليشيات الطائفية بشراكة مع قوات الأمن، وقد حظيت بالصفة الرسمية. فبالإضافة إلى الفتوى الرسمية، خرجت من مكتب رئاسة الوزراء، حتى تم تقنينها رسمياً من خلال مجلس النواب، لاحقاً، الأمر الذي يفضح مخالفة جديدة للقانون والدستور، الذي لا يسمح بأي أجسام عسكرية طائفية.

هذا المسار المشبوه الذي تؤديه قوى دينية مؤدلجة ومسيسة، من مؤسسات وأفراد، لحسابات طائفية وبراغماتية مؤقتة، لا تؤشر إلى مؤامرة بقدر ما توضح الوسائل والوسائط وطبيعة الأهداف، بداية من الاستغلال العملي والسريع للإمكانات والفرص مروراً بالقفز على السلطة حتى مرحلة التمكين. وأخيراً مصادرة الدولة في العمامة ورمزيتها. وسواء كانت العمامة سنّية أو شيعية، عربية أو تنتمي لأيّ قومية أخرى، تبقى نقطة مركزية، تتعلق برؤية العالم التبشيرية، وتعميم القيم والسياسات، لجهة البحث عن الحوامل الاجتماعية للمشروع الإسلاموي في صورته "الكفاحية" و"الجهادية". 

إذاً، لا يكاد يختلف الوضع السابق والمرير عمّا أصدره الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، حيث أكد في فتوى على لسان رئيسه علي محي الدين القره داغي، وهو كردي من العراق، "وجوب الجهاد المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي"، مطالباً بضرورة حصاره براً وبحراً وجواً، بينما ألح على ضرورة التدخل العسكري الفوري من قِبل الدول الإسلامية لدعم المقاومة الفلسطينية على المستويات العسكرية والمالية والسياسية. 

رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين: علي محي الدين القره داغي

القرة داغي وتسييس الفتوى

استنتاج الحمولة السياسية في خطاب أو فتوى القره داغي ليس صعباً، لكنّ الأكثر فداحة من التسييس يتعلق بالنفاق الخفي، حيث إنّ الاتحاد المدعوم من قطر والمعروف بصلاته القريبة من جماعة الإخوان، يضاعف من مزايداته للحد الأقصى بعد الإعلان عن المناورة العسكرية التي تخوضها الدوحة مع إسرائيل، ثم فضيحة "قطر غيت" التي انكشف فيها دور اضطلع به مسؤولون قطريون بدفع أموال رشوة لمستشارين في حكومة بنيامين نتنياهو لتضخيم دورها بالداخل الإسرائيلي، وإضعاف الدور المصري بالوساطة لإنهاء حرب غزة. وربما تؤدي الفتوى دوراً مزدوجاً في التشويش على ما سقطت تحت وطأته قطر وابتزاز دول أخرى.

وقال البيان الذي صدر عن "لجنة الفتوى والاجتهاد" بالاتحاد: "ما يجري في قطاع غزة من عدوان متواصل، والذي أودى بحياة أكثر من (50) ألف شهيد، يمثل إبادة جماعية ممنهجة تُنفّذ بدعم مباشر من الولايات المتحدة، وسط صمت عربي وتخاذل من دول العالم الإسلامي". وشدد على ضرورة تأسيس حلف عسكري إسلامي موحد، يكون قادراً على الدفاع عن الأمّة ومقدساتها، وتحقيق التوازن في مواجهة السياسات الدولية التي لا تعترف إلا بالقوة، ودعا إلى مراجعة المعاهدات المبرمة مع الاحتلال، وقطع العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية معه، ومقاطعة كل الشركات الداعمة له.  
في حين واصل حديثه عن وجوبية الجهاد بالمال، وضرورة دعم المجاهدين وعائلاتهم، وقال: "على العلماء مسؤولية كبرى في الجهر بالحق والضغط على الحكومات للقيام بواجبها الشرعي". 

رئيس الاتحاد القره داغي له سوابق عديدة في النفاق السياسي، وتحشيد الفتاوى والمقولات الدينية الملغمة لجهة ابتعاث حالة من الاستقطاب على أساس ديني، طائفي، عنيف ومتشدد. فمع حرب غزة، وجّه دعوة إلى شيخ الأزهر أحمد الطيب لمطالبة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بكسر حصار غزة، وفتح معبر رفح، وإدخال المعونات الإنسانية إلى القطاع. 

التلفيق على نهج القرضاوي

ولم تكن هذه الدعوة التلفيقية سوى استئناف أو بالأحرى التماهي مع الشائعات الموجهة ضد الدور المصري، والتأثير سلباً عليه، والتقليل من شأنه، من خلال التشكيك المستمر فيه، بل والتلميح أحياناً والتصريح في أحايين أخرى بالتورط في الحصار. وذلك في تجاهل ليس فقط للدور المصري المركزي من القضية الفلسطينية، وموقفها في الوساطة والتفاوض لإنهاء الحرب، ورفضها التهجير، فضلاً عن تخفيض التمثيل الدبلوماسي، إنّما في أنّ نحو 60% من المساعدات التي وصلت غزة هي من مصر، سواء بتبرعات شعبية أو من الموازنة الرسمية، بحسب مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، الدكتور عماد جاد، في تصريحات صحفية إعلامية. 

في المحصلة، يمكن القول: إنّ رئيس الاتحاد يعاود سيرة سلفه يوسف القرضاوي، بينما لا ينحرف عن المسارات التقليدية للتيار الإسلاموي، ومآلاتها، إنّما يصر على التكرار ومن دون تجديد. فدوائر الكفر والإيمان ودعاوى الحرب والسلام أو الكفاح والجهاد ضد قوى إقليمية ودولية في مقابل الإسناد والاستقرار لأطراف أخرى، تحددها الفوائد السياسية وفوائض السلطة، وإغراءات الربح والخسارة في خريطة المصالح والتحولات الجيوسياسية. 

فالقره داغي، المنتمي إلى القومية الكردية، يتجاهل الإبادات التي يتعرض لها شعبه في سوريا وتركيا على يد "العثمانيين الجدد". كما صادف مكانه إلى جوار القرضاوي في إسطنبول بأحد مؤتمرات الاتحاد عام 2010، ولم يهتز طرف في جسده وهو ينصت إلى مزاعمه بحق الكرد ووصف المطالبة بحقوقهم، القومية الثقافية والتاريخية، بـ"الإرهاب". الأمر ذاته تكرر في ظل الاحتلال التركي لعفرين، ومناطق أخرى بشمال غرب سوريا، خلال الحرب السورية، بينما تصفها المنظمات الحقوقية، الأممية والمحلية، بأنّها "جرائم حرب".




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية