في مايو 2018، كان البوسنيون يتجمعون لأول مرة من أجل مشاهدة أردوغان وسماع خطابه، موكبه الضخم يتجول في شوارع المدينة الجذابة برفقة ضباط حماية يرتدون ملابس سوداء ، صعد الى المنصة، وكان خطابه لاذعاً من المنصة اذ وعد بحماية مسلمي أوروبا من الإسلاموفوبيا المتأصلة في القارة.
يستند أردوغان في خطابة الشعبوي أما بالإحالة إلى جذور وثقافة ولغة تركية أو الى تديّن على الطريقة التركية لاسيما وأن الجمعيات تنتشر في جميع أنحاء البلقان، بعضها يتحدث اللغة التركية على الرغم من أن معظمهم ليسوا كذلك، وخلال السنوات الـ 18 التي قضاها أردوغان في السلطة، بذل جهودا عن طريق الجمعيات الخيرية التركية ووقف الديانة التركي على على أساس أنه حاميهم، إنه في الواقع إحياء لأيديولوجيا عثمانية منافسة.
ظاهريا، كما حدث في مسيرة سراييفو ، يبدو أن ترويج أردوغان ودعايته ودعاية اجهزته وجمعياته الخيرية قد نجح. قام الباحت في الشؤون التركية أحمد أوزتورك بتشريح الامتداد الديني لتركيا في ثلاث دول من البلقان هي ألبانيا وبلغاريا ومقدونيا الشمالية، ليكشف عن صورة أكثر تعقيدا بكثير.
وكتب يقول: "بينما ترحب بعض الجماعات - معظمها من المسلمين المحافظين - بتأثير تركيا، فإن البعض الآخر ينظر إليه بحذر وقلق". في الغالب ، يرتبط هذا بالإسلاموية العلنية لأردوغان بشكل متزايد منذ عام 2013، عندما قضى على خصومه داخل حزبه وسحق انتفاضة الشباب في تركيا بعنف.
في بلغاريا وفي التسعينيات رحبت الجمعيات المقربة من تركيا بإدخال ديانت، الوكالة الدينية التركية الحكومية، عندما كانوا يعملون على كيفية إعادة إدخال الدين إلى الحياة العامة بعد انهيار الشيوعية. في ذلك الوقت، وعدت تركيا العلمانية بأن تكون قوة معتدلة ضد أشكال الإسلام الأكثر تطرفاً في الشرق الأوسط. الآن ، تشعر الحكومة البلغارية بالقلق بشأن ما تعتبره التأثير الراديكالي المحتمل لتركيا أردوغان - ومع ذلك فإن هياكل أنقرة راسخة لدرجة أنها تشعر بأنها غير قادرة على تغييرها بالكامل.
في ألبانيا، كانت تدخلات تركيا قد وسعت الانقسامات بين مختلف التيارات الإسلامية في البلاد. قامت تيكا، وكالة إعادة الإعمار الحكومية في تركيا، ببناء وإصلاح العشرات من المساجد والمراكز الإسلامية هنا، كما فعلت في أماكن أخرى في المنطقة. لكن الدعم موجه نحو الطوائف الأكثر أصولية التي تدعم حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان، بينما يتم تجاهل التيارات الدينية الأكثر اعتدالا.
وبحسب الباحث أوزتورك فإن تركيا، من جانبها، قد جعلت منطقة البلقان هدفاّ مثاليا بالنسبة لها، باعتبارها جزءا طبيعيا من فنائها الخلفي بدلاً من اتباع نهج سياسي خارجي آخر.
كان جزء من جاذبية أردوغان لدول البلقان في السنوات الأولى من ولايته أنه يشاركهم طموحات الاتحاد الأوروبي. ولكن، كما يشير أوزتورك بصرامة، فإن أردوغان "يعتبر الأيديولوجيات كملابس يتم التخلص منها وإعادة ارتدائها مرة أخرى اعتمادا على فائدتها"، وبما أنه تخلى عن الملابس الليبرالية التي كانت سائدة في سنواته الأولى في السلطة، لذا فإن أي آمال في انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي قد تلاشت. قد يكون هذا مفيدا بالنسبة له في الداخل، حيث فقد غالبية الأتراك أيضا صبرهم مع الاتحاد الأوروبي، ولكن ليس في دول البلقان، الذين همى إما أعضاء في الكتلة أو يطمحون للانضمام اليها.
يقدم أوزتورك خلفية مفيدة عن التاريخ العثماني في البلقان قبل الخوض في جذور العلاقة الحالية بين القوة الإمبراطورية السابقة ومناطقها النائية. لقد بدأت سياسات تركيا تجاه البلقان حتى قبل أردوغان وهي تمتد في الواقع الى عقود، وهو يذكرنا مثلا بحكومة تورغوت أوزال ، أول زعيم مدني لتركيا بعد انقلاب عام 1980.
دعم أوزال المسلمين الناطقين باللغة التركية في بلغاريا خلال حملة جيفكوف للطرد الجماعي في عام 1989، وكان هو الذي أرسل ديانت ومنظمات حكومية أخرى إلى المنطقة. كما كان أوزال هو من دعم أتباع كولن ، الشبكة الإسلامية الخاصة التي يتهمها أردوغان بشن الانقلاب ضده ، لكسب موطئ قدم في البلقان بشبكتهم من مدارس اللغة التركية ومجموعات الدراسة الدينية.
عندما فاز حزب أردوغان، حزب العدالة والتنمية، بالسلطة في تركيا عام 2002 ، استخدم امكانات الدولة الحالية، وأنصار غولن ، لتوسيع نفوذه. ولكن ومنذ محاولة الانقلاب انقلبت الأمور، وصلت حملة أردوغان القمعية ضد أتباع كولن إلى البلقان، مع ما يبدو أنه عدد من عمليات الترحيل الاستثنائي التي نفذتها أجهزة المخابرات التركية.
تركيا ليست القوة الخارجية الوحيدة المهتمة بمنطقة البلقان، وهنا تتضح دائرة المنافسة - فقد كانت روسيا تغازل المجتمعات الأرثوذكسية في المنطقة، بينما تعمل الصين على توسيع الروابط من خلال التجارة والاستثمار. البوسنة هي نقطة التقاء، حيث يحمل المجتمع الصربي لبوتين نفس التقدير الذي يكنّه العديد من المسلمين البوسنيين لأردوغان. هذا أمر خطير. تسمع في البلقان مرة أخرى قعقعة المنافسات الضروس. ألكسندر فوتشيتش، رئيس صربيا، كان مسؤول ملف الدعاية لميلوسوفيتش الذي تعهد "بقتل مائة مسلم مقابل كل صربي يقتلونه".
في مقدونيا الشمالية، في كثير من الحالات "دعم أردوغان لا علاقة له بحبه" ولكنه رد فعل للحفاظ على الذات في منطقة مبنية على خطوط عرقية ودينية. في هذا السياق ستظهر نتائج طموحات أردوغان في البلقان في السنوات القادمة.
عين تركيا على البلقان وتوسيع علاقاتها مع بلدان المنطقة متواصلة تحت شتى الأغطية ومنها ما يعود لأسباب عرقية ولغوية فضلا عن غطاء المساعدات ودعم التيارات المحافظة والتغلغل من خلالها.
عن "أحوال" تركية