البلقان حديقة الإخوان الخلفية للتمدد في أوروبا

البلقان حديقة الإخوان الخلفية للتمدد في أوروبا


05/01/2021

تتطلب مكافحة التطرف الإسلامي في أوروبا تحديد بنيته الأساسية المحلية وعبر الوطنية إذ ترتكز تيارات الإسلام السياسي -وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين- على أيديولوجيا دينية عابرة للحدود، وهي أيديولوجيا لا تعترف أصلاً بالدولة الوطنية، ولا بالحدود مع الدول.

ويهيمن التنظيم الدولي للإخوان في سبيل بلوغ أهدافه المرسومة بعناية سلفا على المؤسسات الفكرية والمنظمات الخيرية ذات الأبعاد الإنسانية والإنمائية وعلى وسائل الإعلام العديدة في الدول الأوروبية، ما يسمح له بتوظيف هذه الشبكات في الترويج لفكر الجماعة من ناحية والتحريض على الأنظمة المعادية لأجنداتها من ناحية ثانية.

ونجحت تركيا جيدا في التغلغل الناعم داخل مؤسسات ومجتمعات دول البلقان التي تعتبر الحديقة الخلفية لنشر التطرف في قلب أوروبا، مرتكزة على منطلقات تاريخية استعمارية تعود إلى تواجد الإمبراطورية العثمانية في المنطقة قبل عقود لكنها أحسنت، حسب مراقبين، الاستثمار أيضا في إهمال الاتحاد الأوروبي لحدوده الشرقية، ما سمح بتجذر تيارات الإسلام السياسي الموالية لأنقرة وتغلغلها في مؤسسات هذه الدول الرخوة.

وما زالت مؤسسات الاتحاد الأوروبي تتعامل مع دول البلقان على أنها دول مصدرة للمهاجرين، في وقت يؤكد فيه خبراء على أن تلك الدول مصدرة أيضا للتطرف الإسلامي والفكر المعادي للديمقراطية الغربية.

وتبدو دول البلقان منسية في ضوء تزايد التهديدات تجاه أوروبا، لكن في ظل غياب الاهتمام الأوروبي والدولي من المتوقع أن يستمر النفوذ التركي في تلك المنطقة الإستراتيجية، ما يجعل إستراتيجيات مكافحة التطرف والإرهاب الأوروبية مشكوكا في جدواها.

وبالنظر إلى التقارير الصادرة عن الأجهزة الاستخباراتية في أوروبا نجد أن مخاطر الإسلام السياسي أشد وطأة من الجماعات السلفية الجهادية، ذلك أن أنشطة تيارات الإسلام السياسي تتخفى خلف واجهات جمعيات ومراكز ومساجد وخطاب يتسم بالازدواجية.

تغلغل تركي ناعم

رصد العديد من خبراء الحركات الإسلامية البدايات الأولى لحركة الإخوان المسلمين في دولة البوسنة والهرسك، وفي منطقة شرق أوروبا على وجه التحديد، من خلال “جمعية الشبان المسلمين”، التي أسسها الرئيس السابق للبوسنة علي عزت بيغوفيتش ليتوسع نفوذ الجماعة بعد ذلك إلى بقية دول البلقان.

وتتركز الجماعات المسلمة الثلاث الكبرى في البوسنة والهرسك، ومسلموها سلافيو الأصل في أغلبهم، اعتنقوا الإسلام على امتداد القرون الماضية، إلى جانب وجود أعداد من أصول تركية وعربية وغيرها. ويبلغ عدد مسلمي البوسنة حوالي مليوني نسمة من مجموع أربعة ملايين ونصف المليون.

أما الجماعة المسلمة الكبرى الثانية فتوجد في كوسوفو ويبلغ عددها الإجمالي حوالي 1.2 مليون نسمة، وتوجد المجموعة الثالثة في مقدونيا وتتوزع بين مسلمين مقدونيين يرجح أن عددهم يبلغ حوالي 100 ألف نسمة، يُضاف إليهم نصف مليون نسمة من الألبان و100 ألف من المسلمين الأتراك. وتُضاف إلى هذه المجموعات الكبرى أعداد أخرى من المسلمين يتوزعون في الجبل الأسود ويُقدَّر عددهم بعدة عشرات من الآلاف، وحوالي مئة ألف مسلم آخرين من أصول غجرية وأصول أخرى تنتمي إلى كل الأعراق وتتوزع على مختلف المناطق والمدن والقرى اليوغسلافية.

وكشف موقع أوراسيا ريفيو كيف تغلغلت جماعات الإسلام السياسي والجماعات الدينية التي لها أغراض سياسية في الأصل داخل مجتمعات دول البلقان عن طريق غطاء الجمعيات الإنسانية والخيرية والشراكة الاقتصادية والإنمائية.

وقال الموقع إن إقليم يوغسلافيا (سلوفينيا، كرواتيا، البوسنة والهرسك، جمهورية مقدونيا الشمالية، كوسوفو) شهد تواجدا كبيرا للجماعات الإسلامية السياسية المدعومة من قطر وتركيا، حيث استغلت هذه الجماعات المتطرفة الأزمة الاقتصادية العميقة والتوترات السياسية التي سادت إقليم يوغوسلافيا السابقة خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي (القرن العشرين)، وخاصة ظروف الحرب في البوسنة والهرسك وكوسوفو.

ووفقا للموقع فقد استثمر عدد كبير من المنظمات الإسلامية الإنسانية وغير الحكومية في قطر وتركيا، والتي تم تحديدها لاحقًا على أنها منظمات تمويل الإرهاب، مئات الملايين من الدولارات لبناء بنية تحتية دعائية قوية وبهدف نشر أيديولوجيا راديكالية والحضّ على الكراهية والصراعات الدينية المختلفة في البوسنة وكوسوفو وألبانيا ومقدونيا الشمالية.

وأضاف الموقع “هؤلاء النشطاء الدينيون، الذين تم تنظيمهم في مجموعات مختلفة وتمويلهم من مختلف المنظمات الإسلامية العاملة في كوسوفو ومقدونيا الشمالية ودول أخرى في المنطقة، نظموا حتى الآن آلاف الدورات والمحاضرات الدينية المختلفة في جميع الأراضي التي يسكنها السكان المسلمون في المنطقة وأساؤوا أيضًا استخدام المدارس والجامعات العامة كأماكن لتنمية التحريض والدعاية الدينية المتطرفة”.

وفي السنوات الأخيرة شجّع المتطرفون في كوسوفو أيضًا السكانَ على المشاركة في الحرب في سوريا والعراق. لذلك، في يوليو 2012، أمرت الجماعة الإسلامية في كوسوفو بعقد خطبة (محاضرة أسبوعية يوم الجمعة) في جميع مساجد كوسوفو، وبحسب هذا التعميم، ألقى 800 إمام مسجد في كوسوفو محاضرة عن “أرض الشام” وبعد هذه المحاضرة، توجهت موجة جديدة من المتطوعين من كوسوفو إلى الحرب في سوريا “لتحرير الأرض المقدسة أو الموت في سبيل الله”.

ومن ضمن المنظمات الإخوانية المتطرفة في كوسوفو، المنتدى الإسلامي الذي دأب على الحضّ على الكراهية والتعصب الديني. وبحسب بعض المحللين، فإن المنتدى الإسلامي يمثل أيديولوجيا الإخوان المسلمين في كوسوفو.

وخارج الحكومة والمؤسسات الرسمية، كان التأثير الإخواني الأبرز يتمثل في “جمعية الثقافة والتعليم والرياضة” (AKOS)، التي لها صلات بـ”اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا” (FIOE)؛ وهي منظمة إخوانية مقرها في بروكسل. ورغم أن جمعية الثقافة والتعليم والرياضة هي منظمة صغيرة نسبيًا وتمتلك موقعًا على شبكة الإنترنت يحصل على بضعة آلاف من الزيارات يوميًا، فإنها توفر بوابة لجلب الأشخاص إلى تيارات الإسلام السياسي.

وفي دراسة حديثة نشرها المركز الأوروبي لمكافحة الإرهاب في ديسمبر 2020 ،عضدت تركيا تواجدها بالداخل عبر دعم الاقتصاد والاستثمار في مجالات مختلفة أبرزها الطاقة والشؤون العسكرية والعقارات والتعليم، ففي أبريل 2020 وافق برلمان ألبانيا على اتفاقية التعاون العسكري بين البلدين والمتضمنة دعما ماليا كبيرا يوظف في مجال التسليح وبناء الجيش الألباني، كما أن خط أنابيب الغاز ترك ستريم المار عبر منطقة البلقان من روسيا وتركيا حتى أوروبا يلعب دورًا في استثمارات أنقرة بقطاعات الطاقة.

كما عملت أنقرة على استثمار أزمة انتشار فايروس كورونا للمزيد من التقارب، فوكالة التعاون والتنسيق التركية (TIKA) قدمت إعانات صحية في شكل مستلزمات طبية عاجلة للبوسنة والهرسك وكوسوفو ومقدونيا، كما أسهمت في استقبال مرضى من البلقان لعلاجهم في أنقرة، وقد أعلنت وكالة التعاون في 9 يناير 2020 أنها نفذت 900 مشروع في البوسنة منذ انتهاء الحرب، وذلك بحسب وكالة الأناضول.

وتبقى النواحي الاجتماعية والتعليمية والثقافية أهم وأخطر الملفات التي تُعنى بها أنقرة في البلقان، وأبرزها تشييد المساجد وتجديد التاريخي منها، ففي 4 مايو 2019 أفادت شبكة “بي بي سي” بإعادة البوسنة افتتاح مسجد “Aladza” بعد 30 عاما تقريبًا من تدميره خلال حرب الانفصال عن يوغوسلافيا في التسعينات، وذلك بمساهمة مالية تركية ضخمة، وافتتح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 2015 بعاصمة ألبانيا تيرانا مسجدًا ضخمًا تكلف تشييده حوالي 30 مليون دولار.

واليوم بعد عشرين عاما من نهاية حرب البوسنة تعزز الاتحاد بين الدين والسياسة وأصبح لدى رجال الدين نفوذ كبير على النخبة السياسية والقرار السياسي لحكومات دول البلقان.

وفي مقدونيا الشمالية تعتبر علاقة أنقرة بمنظمة “ليجيس” هي الأهم في علاقاتها عبر الوطنية. وفي هذا الصدد، كتب المؤلفون أنه “في جميع المحادثات”، يمكن وصف تأثير الحزب الحاكم المنبثق عن الإخوان في تركيا، حزب العدالة والتنمية، بأنه تأثير واضح وكبير في منظمة ليجيس.

وتعمل تركيا على استغلال مكانتها التاريخية والثقافية من خلال ارتباطها بالدولة العثمانية، والصلة العرقية لأقلية تركية كبيرة، والتبرعات المالية للطائفة الدينية الإسلامية التي تعاني ضائقة مالية، لتلميع صورة تركيا في مقدونيا الشمالية، وبسط القوة الناعمة لتركيا في الدولة. علاوة على ذلك، فإن لأنقرة نفوذًا سياسيًا قويًا أكثر مباشرة من خلال حزب “بيسا”، وهو حزبٌ سياسي ينتمي إلى يمين الوسط وأُنشئ في عام 2014.

وفيما ينفي بيسا أن يكون مموَّلًا من تركيا، يُظهر إنتاجه الإعلامي إعجابًا مستمرًا بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتحالفًا مع مواقفه السياسية.

وكانت حركة رجل الدين التركي فتح الله غولن -الطائفة الإسلامية التي كانت متحالفة مع حكومة أردوغان حتى محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا عام 2016- تتمتع بنفوذ في قطاع التعليم في مقدونيا الشمالية. وما يؤكد النفوذ التركي القوي في مقدونيا الشمالية هو أن جهود ما بعد الانقلاب لإبعاد أنصار غولن من أجهزة الدولة التركية قد امتدت إلى مقدونيا الشمالية، مع ممارسة ضغوط على سكوبي، عاصمة الدولة، لإغلاق المدارس التي تديرها حركة غولن، وهو ما وقع فعلا.

قطر على الخط

وفّر النفوذ التركي في البلقان لقطر فرصة استخدام أدواتها للنفاذ إلى الداخل، حيث تضطلع مؤسسة قطر الخيرية -التي تقدم نفسها على أنها منظمة غير حكومية- بهذا الدور؛ إذ تعمل هذه المؤسسة داخل دول المنطقة منذ عقود ولها مكاتب رئيسية في ألبانيا وكوسوفو افتتحتها في 2002.

ويعد مكتب قطر في كوسوفو هو الأكبر وسط البلقان ويوفر استثمارات داخلية وصلت قيمتها إلى 68 مليون دولار، وتستحوذ المراكز الدينية والثقافية على النسب الأكبر من الدعم المقدم للملفات المختلفة مثل دعم الفقراء أو توفير المياه والغذاء والاحتياجات الأساسية.

ووفرت جائحة كورونا لقطر فرصة التوسع في المنطقة وبناء اتفاقيات مع الساسة، ففي كوسوفو وقع وزير الصحة أرمند زماج مع سفير قطر، علي بن حمد المري، اتفاقًا لإمداد البلاد بالأجهزة الطبية اللازمة لمساعدتها على مواجهة الفايروس، بيد أن قطر الخيرية قد تبرعت في يونيو 2020 بثلاث مئة ألف دولار للمجال الصحي في البلاد.

ويوضح بحث قام به الصحفيان الفرنسيان، كريستيان شينو وجورج مالبرونو كيف أصبحتِ الشؤون الدينية للمسلمين في أوروبا ساحة للتنافس بين الدول، حيث تقدِّم تركيا وقطر دعمًا حاسما لمؤسسات على صلة بجماعة الإخوان المسلمين.

ولاحظ الباحثان أن أجندات أنقرة والدوحة العامة تهدف إلى “تحصين المسلمين الأوروبيين من النفوذ الغربي، والدعوة إلى تبني النسخة الأصولية من الإسلام التي تتبناها جماعة الإخوان المسلمين” وهو ما “يتعارض مع أهداف الدول الأوروبية التي تسعى إلى تعزيز اندماج الجاليات المسلمة في المجتمعات الأوروبية. كما أن الخطاب الذي يهدف إلى استعادة الأراضي الإسلامية والذي تستخدمه مؤسسة قطر الخيرية والجهات المستفيدة منها مُلَغَّم بشكل خاص، ويهدد التماسك الاجتماعي”.

ويرى مراقبون لأجندات الإسلام السياسي وشبكاته المعقدة والمتشابكة في القارة العجوز أن الحكومات الأوروبية تأخرت في التعامل مع تغلغل الكيانات الإسلامية التي عززت على مدار سنوات قبضتها على الحدود الشرقية لهذه المنطقة، ما جعلها حديقة خلفية لتمدد هذه الكيانات في أنحاء أوروبا.

ويتساءل هؤلاء: هل يتزايد النفوذ التركي القطري في دول البلقان أكثر مما هو عليه اليوم؟ هذا يتوقف على الأوروبيين، فطالما يدير الأوروبيون الظهر لهذه المنطقة ويقرنون مساعداتهم بشروط كثيرا ما تكون مجحفة، سيتعين على هذه الدول البحث عن الممولين من أنقرة والدوحة.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية