علمانيون وإسلاميون.. جدالات في الثقافة العربية

علمانيون وإسلاميون.. جدالات في الثقافة العربية

علمانيون وإسلاميون.. جدالات في الثقافة العربية


03/12/2023

إبراهيم عبد المجيد

هذا كتاب مثير، ليس لأنه حوارات مع أسماء مهمة في الثقافة العربية فقط، فهذا قد يتحقق لكثير من الصحافيين، لكن بما فيه من أسئلة، وأحياناً مشاغبات، جاءت بكثير من الإجابات الهامة. الكتاب من إصدار دار جداول البيروتية، كاتبه هو الكاتب والصحافي السعودي علي مكي، الذي كان ولا يزال محرراً في أهم الصحف السعودية، وساهم في تأسيس بعضها، مثل صحيفة الوطن، ويعمل حالياً اختصاصياً لإعلام المملكة في جامعة الملك عبد الله بن سعود للعلوم والتقنية (كاوست). أخذه الشغف بالصحافة وهو لا يزال طالباً في الدراسة الثانوية، ثم الجامعة.

كيف ظهر هذا الشاب على مكي في سنه الصغيرة ليدير حوارات هامة مع كبار المفكرين وهو بعد على باب سن العشرين. لقد وُلد عام 1973 وبدأ العمل الصحافي الحقيقي عام 1992 في جريدة عكاظ، الحوارات صحافياً خبطاتٌ صحافية، لكنها أيضاً منجم ثقافي فكرى شديد الأهمية.

الحوارات مع خمس وعشرين شخصية فكرية وأدبية. في حواره مع محمود درويش كان المثير أن قيل له إن محمود درويش طاووس مغرور لن يقابله وسيطلب أيضاً مقابلاً مالياً للحوار. قابله في كانون الأول عام 1997 في بهو فندق رمسيس بالقاهرة فوجده على عكس ما قيل له تماماً. ذكرني أنا بلقائي الأول بمحمود درويش في بهو نفس الفندق، ولم يكن يعرفني أو قرأ لي، وكان ذلك عام 1984 وكيف كانت دهشته من رغبتي في نشر رواية «الصياد واليمام» في مجلة الكرمل. ما دار بيننا مما كتبته من قبل، وكيف أخذ نسخة الرواية ونشرها في العدد التالي، وكان العدد الحادي عشر مما فتح لي أبواب العالم العربي كلها، وكيف كانت محبته لي بعد ذلك.

الحوارات في أغلبها مقسّمة تحمل الأسئلة عناوين تلخصها. من الأسئلة الجميلة سؤال عن المكان بعد أن تنقل درويش بين البلاد وإجابة درويش المدهشة كشِعره، أنه لا يزال المكان في الجليل تمارس الطبيعةُ فيه عملها وعاداتها، وتنتج جمالياتها اللانهائية. أما عن سؤال: هل صحيح أن الشعر يتراجع الآن؟ فإجابة درويش هي أنه لا يدخل في هذا القلق من الحديث عن نمو الرواية، فهذا دليل صحة وعافية الثقافة، لأن هيمنة نوع واحد على المشهد الأدبي، يعنى أننا مازلنا بعيدين عن إيقاع العصر. هذا السؤال سيتردد أكثر من مرة في أحاديثه مع الشعراء والأدباء.

أكثر من سؤال هام جداً، حتى يسأل محمود درويش: إنهم يقولون عنك طاووس كبير، فيسأله درويش: هل وجدتَ هذا فيَّ الآن؟ يقول علي مكي: لا، فيقول له درويش إذن دافِع عني واكسِر هذا الانطباع الخاطئ. مع أدونيس نكون مع رؤية أدونيس للعالم والعرب والشعر. معيار الحرية في المجتمع هو القدرة على أن يقول الإنسان ما يريد في كل القضايا الوجودية والمصيرية من دون أي عائق. دون ذلك يعيش كأنه شيء بين الأشياء، أو كأنه مجرد اسم أو مجرد آلة. من الجميل قوله أنه لا يحب الرواية السردية أو الحكائية، ففيها الزمن رخو والكتابة إعادة إنتاج، وطبعاً يقصد أهميةَ البناء الفني. كمال أبو ديب في حواره يؤكد أنه لا فارق بين الإبداع والنقد، فهو يرى النقد الحقيقي نشاطاً إبداعياً، فالناقد يكسر أُطر النقد المتوارَثة كما يكسر المبدع أُطر الإبداع. مع محمد عابد الجابري يدافع عن نفسه أمام من اتهموه بسرقة روجيه دوبريه- الحديث عام 1977- وحديث عن الهوية ومعنى الوحدة العربية الضائع، وكيف صارت الوحدة في أوروبا رغم تعدد اللغات والهويات. علينا أن نعترف بأن الدولة قائمة على نظام قُطري، رغم وحدة اللغة بيننا، وما ينقص العرب الآن هو التنسيق العميق في المجال الاقتصادي والسياسة الخارجية. مع هشام شرابي نكون في الأسئلة الكبرى للبنيوية والتفكيكية والحداثة والنظام الأبوي الذي لا يفسح المجال للجيل الطالع. إميل حبيبي ونظرته للتراث ويبدس الأهمية الكبيرة للتراث الشعبي.

أزمة قبوله لجائزة إسرائيلية وأسئلة مثيرة عنها وعن نظرته المترددة، ودفاعه عن الجائزة بأنها اعتراف منهم هم الذين لا يعترفون بنا. مع الشاعر بلند الحيدري، الذي يرى أننا أمام مواجهتين رئيسيتين؛ إما أن يتخاذل العرب فيعطوا المجال لإسرائيل في إقامة دولتها الكبرى التي ستعتمد تفتيت المنطقة إلى دُويلات وطوائف، وهذا خطر كبير، وإما أن يرى العرب وحدتهم الحضارية التي ستضع إسرائيل في الموقف الصحيح. مع محمد جابر الأنصاري وتجربته في كتابة القصة والشعر، ثم التحول إلى الفكر وسؤال عن موت الأيديولوجيات، ولماذا وكيف أن هناك نوعاً منها مات وانتهى. الآن القريب من حياة الأمم هي الأيديولوجيا القريبة من المعرفة والحقائق العلمية. وعن الثقافة فهناك تنوع ثقافي في العالم العربي، لكن هناك ثقافات فرعية تحاول أن تكون هي المطلق، وهذه هي القضية. التسامح أصل الثقافات الحقيقي. ثم حديث مع صالح علماني، المترجم العظيم الذي جاء اسمه من بلدته قرية «عَلما» في الجليل الفلسطيني، فسبب له مشاكل، فهو علماني لكن ليس بكافر.

حديث رائع عن اختياره للترجمة وحكايته مع الروايات التي ترجمها. يأتي صبحي حديدي، كثيراً يجذب انتباهك عن قلة إصداراته رغم غزارة مقالاته وغير ذلك، لكنني من باب الإثارة أتحدث عن رأيه في جائزة البوكر.. يقول إنها لم تُفسد الذوق العربي، لكن أفسدت ذائقة قراءة الرواية، فالذوق العربي له علاقة بالفنون الأخرى أيضاً مثل الشعر والموسيقى. وأن البوكر العالمية سحبت اسمها من الجائزة العربية وصار اسمها «الجائزة العالمية للرواية العربية»، وهذه أول مرة أعرف أنا ذلك، فكل عام وكل الأخبار عن البوكر العربية. أما ما جعل الجائزة الأصلية تسحب اسمها فهو النظام الداخلي للبوكر، الذي قد يكون من أردأ الأنظمة الداخلية في التحكيم.

النقطة الأخرى الجميلة أنه لم يوافق أن يفتح دُرج محمود درويش بعد وفاته، فكيف ينشر ما لم ينشره الكاتب في حياته، وقد يكون مسوّدات غير مكتملة. هي نقطة إنسانية حقاً، لكنها هامة جداً، فكثيرون يعلنون أنهم حصلوا على كنز حين يجدون نصاً لم ينشره صاحبه، ويقولون إنه انفراد، بينما الأساس في الحكم على ما كتبه الكاتب هو ما نشره. أما سمير عطا الله، الذي قدم للكتاب أيضاً، فهو آخر حرّاس المقالة اليومية، ويحكي تاريخه مع ذلك ومع جريدة الشرق الأوسط، وكذلك مع جريدة النهار اللبنانية، وكيف بدأ بتأليف القصص باسم مستعار لكاتب أجنبي غير حقيقي فلا يعرفه أحد، يكشفه رئيس التحرير في الأسبوع العربي، لكنه يطلب منه الاستمرار.. مع الشاعر شوقي بزيع بعد أسئلة كثيرة هامة كالعادة يأتي السؤال عن بيروت، هل يمكن أن تعود لما كانت عليه مرتعاً للثقافة العربية؟ يقول شوقي بزيع إنها في جوهرها أكثر من مدينة متحققة، وهي مشروع للمستقبل، واختيار دائم لقدرتنا على ممارسة الحرية وعلى التجديد والابتكار.

بيروت تظل حاجة عربية وضرورة قومية بما تستطيع أن تنجزه في رهانها على الفرح. وكم صدق شوقي بزيع. ثم حديث مع الدكتور عبد الله السيد ولد أباه المفكر الموريتاني المعروف وحديث رائع عن أن شرعية الدولة من المنظور الديني، هو نقاش ملغوم يقوم على مسلّمات زائفة، منها رؤية الدولة الوطنية التي تقوم على النموذج الأوروبي دولة معادية للدين، ومن ثم يجب أسلمتها بتطبيق الشريعة الإسلامية في شتى مناحي الحياة، والحقيقة أنها دولة تسمح بالتعددية الدينية من خلال حياد الدولة نفسها. الدكتور عبد الله الغذامي، الناقد الكبير، يحكي عن كيف سرقه همّ القراءة منذ الطفولة وعلاقته مع مدينة جدة رغم بعده عنها، وكيف صارت جزيرة الأحلام بالنسبة إليه. ثم حديث مع مشعل السديري وكالعادة عن البدايات والعلاقة بين الرسم الذي يمارسه والألوان والسخرية في كتاباته. حوار به من الردود الساخرة ما يمتع. حواران رائعان مع الأبنودي عن الشعر العامي وهدفه من الشعر ترى فيهما الأبنودي يتحدث أمامك. ثم يأتي حديث عاصف مع الكاتب حسن الهويمل المجادل للحداثيين دائماً، والذي يرى فيهم قدحاً في السياسة الإسلامية، وأنه سيظل مواجهاً للحداثة أو ما جاء باسمها وموقفه من كثير من المفكرين السعوديين. يأتي الحديث مع سلمان العيسى، الشاعر السوري وتركي الحمد، الكاتب والمفكر السياسي، ثم المفكر المصري سعد الدين إبراهيم، رئيس مركز ابن خلدون، وأزمته مع النظام المصري واعتبار محاكمته محاكمة للمجتمع المدني وتفاصيل تلك الأيام وأسرارها. ثم يأتي حديث الناقد السعودي عابد خازندار ومعاركه مع الآخرين ورأيه في بعض الشعراء. ثم يختتم بحوارين، أحدهما مع الدكتور على بن تميم الأستاذ في جامعة الإمارات والناقد وحديثه عن إنجازاته كالعادة وتأسيسه لموقع 24 الإخباري الإلكتروني، وكيف أن الإنترنت الآن هو ساحة أساسية لمواجهة الإرهاب، وأهمية مواقع التواصل الاجتماعي، والحديث الرائع عن كيف ضللت الجماعات المتشددة بخطابها المتشدد الناس واختطفت الربيع العربي، ولماذا يلجأ الإسلاموي إلى أساليب خطابية تتناقض مع ما يؤمن به. ويختتم بحديث مع الدكتورة ابتهال الخطيب الأكاديمية في جامعة الكويت القابضة على جمر أفكارها كما يصفها، وما تواجهه من هجوم، مثل رأيها بأهمية دخول الثقافة الجنسية للمدارس، وأن كثيراً مما تقوله لا تتصدّر به المشهد، لكن يكون تأييداً لبعض الأفكار، وكيف أن العلمانية عدو للمتطرفين، لأنها تحدّ من تطرفهم وتجعله بلا قيمة، لأنها لا تعطي قيمة للأيديولوجية العنيفة التي يوظفونها. تنتهي مع الكتاب ومع رحلة رائعة لكوكبة من أهم المفكرين، وأسئلة رائعة كاشفة لا أستطيع أن أكتبها كلها.

عن "الأيام"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية