علاء حميد: العلمانية العربية ردّ فعل على تغوّل الإسلام السياسي

علاء حميد: العلمانية العربية ردّ فعل على تغوّل الإسلام السياسي

علاء حميد: العلمانية العربية ردّ فعل على تغوّل الإسلام السياسي


30/01/2019

أجرى الحوار: محمد جبريل


قال الباحث العراقي المتخصص في مجال الأنثروبولوجيا علاء حميد، إنّ من الصعوبة الاكتفاء بعامل واحد لفهم الأزمة العربية؛ لأنّها، كما يرى، أزمة متراكمة، ولم تخضع لمواجهة واضحة، مضيفاً في حواره مع "حفريات" أنّ ميراث مرحلة الاستقلال "صار عقبة أمام إعادة البناء تحتاج إلى تفكيك، من أجل تجاوز عملية الدوران التاريخي التي وقعنا فيها كعرب".

لا نستطيع تحميل الثقافة العربية المسؤولية الكاملة عن الانهيار السياسي والتفكك الاجتماعي

ودعا حميد إلى "فصل العلاقة بين الدين والدولة، وليس بين الدين والمجتمع، كي نعيد القدرة للدولة في تعاملها مع مختلف التنوع العربي"، مؤكداً أنّ التراث الإسلامي ينطوي على الكثير من التحديات التي قد تفتح الطريق أمام ارتفاع الحساسيات المذهبية والدينية، ما يوجب التعامل معه "كمادة علمية تخضع للبحث والدراسة، وليس استخدامها في الصراع السياسي".
ورأى أنّ العلمانية في العالم العربي لم تنل حقها من البحث والفهم، وتأتي، في أغلب الأحيان، كردّ فعل على تغوّل الإسلام السياسي والحركات الأصولية، التي رأى أنّها "مسكونة بهاجس الوصول إلى السلطة؛ لهذا مارست مساومات عديدة كي تحقق مبتغاها".
يذكر أنّ علاء حميد له دراسات حول العلاقة بين الإثنية والمذهبية في العراق وهو عضو مجلس إدارة مؤسسة "مسارات" للتنمية الثقافية التي تعمل وتهتم بالأقليات في العراق، ويكتب في عدد من الصحف العراقية.

وهنا نص الحوار:

إشكاليات الثقافة العربية

من الصعوبة الاكتفاء بعامل واحد لفهم الأزمة العربية

هل ترى أنّ الثقافة العربية مسؤولة عن الانهيار السياسي والتفكك الاجتماعي اللذين يعانيهما العالم العربي الآن؟
لا نستطيع، في كلّ الأحوال، تحميل الثقافة المسؤولية الكاملة؛ لأنّها مفهوم واسع وموارب؛ فهي تتشكل بحسب السياقات المختلفة بالمجتمع؛ إذ يكفي أنّها لم تبقَ على معنى واحد ثابت، منذ لحظة صياغتها في مرحلة عصر النهضة وقبله؛ إذ تعامل معها الفلاسفة والمؤرخون في إطار اجتماعي محدّد، فكانت أداة لفهم أحوال تغيّر المجتمع، لكن فيما يخصّ الثقافة العربية، فالقضية شائكة ومعقدة؛ لأنّ هناك تدخّلاً لعوامل كثيرة، قد تصل بنا إلى تحميل الثقافة جزءاً من المسؤولية، فمن يعبّر عن معنى الثقافة تقنياً، وبتبسيط مخلّ، هم المثقفون والأكاديميون والسياسيون؛ فهم الجزء المادي منها، وهذا التوصيف ينقلنا إلى مكانة وحركة المثقف العربي في مجتمعه.

من الصعوبة الاكتفاء بعامل واحد لفهم الأزمة العربية لأنّها أزمة متراكمة ولم تخضع لمواجهة واضحة

القضية لا تكمن في البحث عن اتهام جاهز للمثقف العربي، إنما هي السعي لكشف ما قام به منذ مرحلة الاستقلال حتى الآن، فلو أخذنا مفهوم الالتزام عند المثقف العربي؛ نجد أنه من الصعوبة البالغة أن نمسك بمعناه في ثنايا مواقف هذا المثقف، وهناك شواهد عديدة، وغير مسبوقة، على انتقال المثقفين العرب من طرف إلى آخرٍ، نقيض لما كانوا عليه من موقف واعتقاد فكري وسياسي، قد يقع هذا في حرية الرأي، لكن -في العموم- غابت المنطلقات الفكرية التي دفعت نحو هذا الانتقال؛ إنما السياسة هي التي كان لها الدور الأبرز في إنجاز الانتقال.

الثقافة العربية واقعة تحت ضغط تناقضات متعددة؛ فهي تعيش التناقض مع ما يُطرح من أنماط الثقافة الإسلامية المغايرة لها؛ بل يصل الأمر حدّ الاشتباك معها، منها: "الحرية، الدولة، حرية المعتقد، الاختلاف، القومية والوطنية"، وكلّ ما عملت على تناوله الثقافة العربية من هذه المفاهيم، جاء نتيجة ضغط التحولات العالمية والسياسية، وكأنّ الثقافة مرهونة إلى عامل ردّ الفعل، لا الابتكار والسبق.

إذا افترضنا تحرّر الثقافة من ضغط السياسي، هل تكفي "الثقافويّة" لتفسير الأزمة الشاملة التي يعانيها العرب؟
من الصعوبة الاكتفاء بعامل واحد لفهم الأزمة العربية؛ لأنّها أزمة متراكمة، ولم تخضع لمواجهة واضحة، وبمثال مبسط؛ من أين نبدأ في تشخيص الأزمة العربية قبل مرحلة الاستقلال أو بعده؟ مرحلة تسعينيات القرن الماضي وما واجهه النظام العربي من أزمات عميقة أظهرت هشاشة الكثير من المسلّمات العربية لا سيما "الوحدة، القومية"، هناك مفارقة غريبة في الأزمة العربية؛ هي أنّ الأسباب مشخّصة، لكنّ الحلول غائبة لعوامل ذاتية وموضوعية.

اقرأ أيضاً: العلمانية كحلّ؟.. الإسلاموية وعلاقة الدولة بالدين
إنّ إنتاج المعرفة في العالم العربي يكاد يكون مُعطّلاً إلى مستوى لا يمكن فهمه؛ هذا ما يجعل الركون إلى تفسير الأزمة بعامل الواحد، دون غيره من العوامل الأخرى التي لها الأهمية نفسها أمراً في غير محله.

إذاً، أنت تتفق مع نظرية التبعيّة التي ترى التخلف العربي "بنيويّاً"، بمعنى أنّ البنى الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة العربيّة مختلة، ولا يمكن اختزال الأمر في مشكلات الثقافة؟
نظرية التبعية ترى أنّ البنى الاقتصادية والسياسية العربية صنيعة إمبرياليّة، ولا يمكن تجاوزها إلا بالقطع الشامل مع المركز الإمبريالي، بالتالي، نتحدث هنا عن تخلف ذاتي وليس موضوعياً، وكأنّه يقع في منظور الحتمية التاريخية، وهذا من الصعوبة تقبّله، رغم وجود التبعية التي هي نتاج لفشل مشروع التنمية، إنّنا أمام نقطة حرجة، هي كيفية تفكيك ميراث مرحلة الاستقلال والأدوات التي تمّ بها، وعلى أيّ أساس بني مضمون شعار الاستقلال؛ إذ حين نلقي نظرة أولية على تلك المرحلة، نشعر أننا وقعنا كعرب في عملية دوران تاريخي، ولم يكن خروجاً من مرحلة إلى أخرى مختلفة عنها؛ حيث عدنا إلى نفس الهيمنة، لكن بصورة غير مباشرة، وهذه المرة برضانا.

اقرأ أيضاً: هل ساهمت العلمانية في بروز الإسلام السياسي؟
المسألة تدور حول كيفية مواجهة الخلل الذاتي، ومن ثم فحص التاريخ السياسي لتشكل علاقة المجتمع بالدولة، فهذه العلاقة في معظمها قائمة على الإخضاع، تحت عنوان التخويف من الفوضى وضياع الاستقرار السياسي، إنّ فك عقدة التبعية مرهون بتأسيس لذاتية عربية تمتلك إرادة العمل والثقة بقدراتها.
هل الثقافة العربيّة مسكونة بداء الاستبداد، كما يقول المستشرقون، أم أنّها ظاهرة أنتجتها ظروف وتغييرات اجتماعيّة وسياسيّة معينة؟
لم يظهر مطلب النظر إلى علة الاستبداد في الثقافة العربية، إلا بعد الاصطدام بالفشل المتكرر، على أكثر من مستوى، سواء كان اقتصادياً أم اجتماعياً، وإلا فبماذا نفسّر هذا الاحتفاء المتكرر بنصّ الكواكبي "طبائع الاستبداد"، كونه انفصل عن السياق العام للثقافة العربية والإسلامية، التي لم تولِ أهمية لتحليل الاستبداد والاعتناء بمعنى الحرية؛ فالأولوية كانت لمعنى العدالة، التي لا يتطلب تحققها بنمط الحكم والسلطان؛ لذلك شاع في النصوص العربية مفهوم "المستبد العادل" الذي كرّس معناه كتابات الأفغاني، والمنتزع -بشكل مباشر وغير مباشر- من مقولات الثقافة الإسلامية "سلطان غشوم ولا فتنة تدوم"، إنّ معنى كلمة "العامة"، والتجاهل البحثي لها في الثقافة العربية، يشير إلى ذلك ويؤكده، فهم لا يحتاجون إلى الإدارة؛ إنما إلى الرعاية التي تنظر لهم على أنهم غير مؤهلين لحكم أنفسهم.

 "طبائع الاستبداد" للكواكبي

هل هذا ما سعت إليه مشروعات تفكيك بنية العقل العربي؟ وبعد خبرات "الربيع العربي" هل يصمد هذا المنطلق ويصلح أساساً للتفكّر في الراهن العربي؟
إنّ محاولة تفكيك العقل العربي جاءت نتيجة تأزّم إشكالية الفشل المتكرر في إنتاج شكل سياسي مستقر يمتلك مقومات الاستمرارية، وليس الدخول ما بين فترة وأخرى في أزمات الانهيار والعودة إلى نقطة البداية؛ حيث إنّ نمط تفكير أيّ مجتمع مرهون بمستوى إنتاج المعرفة وقدرة السلطة على الربط بين المعرفة والمجتمع، كي تنتقل مخرجات تلك المعرفة إلى وعي المجتمع، وتصبح بنية للتفكير والتحليل، أمّا ما يخصّ الجانب الأسطوري والأيديولوجي، فهما حاضران في كلّ المجتمعات، لكنّ المختلف هو مكانتهما ودورهما في تكوين رؤية تلك المجتمعات.

المسألة الدينية والعلمانية

المسألة الدينيّة هي إحدى المسائل المثارة منذ عقود طويلة في العالم العربي دون حسم، كيف يمكننا التعامل مع الموروث الديني الذي يتم توظيفه في خدمة التعبئة السياسية؟
المسألة الدينية مطلب شائك وحساس؛ كونه متداخلاً مع خطوات العمل على الخلاص من الأزمات العربية الدائمة، أظنّ أنّنا في حاجة إلى فصل العلاقة بين الدين والدولة، وليس بين الدين والمجتمع، كي نعيد القدرة للدولة في تعاملها مع مختلف التنوع العربي، وإلا وقع مضمون الدولة في توصيف مذهبي معيّن، يجنح إلى الإقصاء واحتكار الحق العام في معنى العيش والاختلاف.

نشعر أننا وقعنا كعرب في عملية دوران تاريخي ولم يكن خروجاً من مرحلة إلى أخرى مختلفة عنها

كذلك، إنّ التراث الإسلامي ينطوي على الكثير من التحديات التي قد تفتح الطريق أمام ارتفاع الحساسيات المذهبية والدينية، وهذا ما يجعلنا نعود مرة أخرى إلى نمط إنتاج المعرفة التي من شأنها تحويل مواضيع التراث إلى مادة علمية تخضع للبحث والدراسة، وليس استخدامها في الصراع السياسي، كما حصل منذ أواخر سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وحتى اليوم؛ إذ بات التراث وما يتضمنه من أفكار مادة للتعبئة السياسية.

ماذا بالنسبة إلى العلمانية في رأيك وسط هذا الجدل؟

لم تنل قضية العلمانية في العالم العربي حقّها من البحث والفهم، بدليل أنّ ما كتب فيها يكاد يكون قليلاً جداً، قياساً على ما كُتب في مواضيع أخرى؛ إن موضوع العلمانية يكاد يشبه أزمة القومية العربية؛ إذ بدأت من جانب شعوري، ولم يكن فكرياً، لتتحول بعد إلى إيديولوجيا عائمة غير ممسوكة المفاهيم، كذلك العلمانية في عالمنا العربي تأتي، في أغلب الأحيان، كردّ فعل على تغول الإسلام السياسي والحركات الأصولية، في محاولةٍ للسيطرة على ممارسات الحياة العامة في المجتمعات العربية.

التراث الإسلامي ينطوي على الكثير من التحديات

القومية العربية

بعد النكسة، وصف جورج طرابيشي المثقفين العرب الذين اشتغلوا على التراث الإسلامي بأنّهم ضحايا جرح نرجسي؛ هل كان محقاً؟ وهل كان محمد عابد الجابري سلفيّاً؟
ربما مقولة جورج طرابيشي فيها الكثير من الحقيقة؛ لأنّها تقارب ما أُنجز من قبل المثقفين العرب في مجتمعاتهم، وهذا لا يعني إجحافاً ممن اشتغل، وبحث بشكل ملموس على مقاربة الوضع العربي بشكل عملي، وهناك أمثلة كثيرة، أذكر منها؛ مشروع حسين مروة، ومهدي عامل، وعزيز العظمة، وعادل ضاهر، وجواد علي، وجمال حمدان.

اقرأ أيضاً: هل يمكن أن تلتقي العلمانية مع الدين؟
أما الجابري؛ فالإطار العام الذي اشتغل عليه في مشروعه هو إعادة معنى الإحياء العربي، الذي له ارتباط بمعنى سلفي بشكل غير مباشر، لكن لا يعني أنّه تبنى هذا الجانب فكريّاً، وللجابري دور مهم في إنتاج حقل معرفي مهم داخل الثقافة العربية، يقوم على تحليل العقل العربي من خلال مقولاته والمفاهيم التي يكوّن بها رؤيته للحياة والمجتمع.

جورج طرابيشي

بخصوص النكسة أيضاً؛ هل ساهم الصراع العربي الإسرائيلي في السيطرة الأيديولوجيّة للقوميّة العربيّة؟
نعم، ساهم في ذلك؛ لأنّ هذا الصراع اعتمد على مواجهة حاضرة في الخطاب السياسيّ لدى الطرفين: القوميّة العربيّة والقومية اليهودية التي تحولت سياسيّاً إلى الصهيونية كمضمونٍ للدولة العبرية، حتى أنّ هذا الصراع أدخل القومية العربية في محكّ اختبار جعلها تركن إلى الجانب الديني، على حساب الفكري والمعرفي.

اقرأ أيضاً: عبدالجبار الرفاعي وسؤال التوفيق بين العلمانية والإيمان
أي مراجعة لتاريخ الأفكار في العالم العربي توضح أن الأيديولوجيا المصنوعة محليّاً (القوميّة) كانت أكثر جاذبيّةً ونجاعةً من الإيديولوجيات ذات المصداقية العالميّة كالماركسيّة أو الليبراليّة..
لماذا؟
يمكن فهم ذلك من خلال الفرق بين المحلي والعالمي؛ إذ الأول هو صياغة داخلية متعلقة بقيم وتقاليد وسلوك مجتمع، أما العالمي فهو منتزع من سياقه العام، حيث يطبّق في مجال غير مجال نشوئه، وإمكانية نجاح ذلك محدودة.

محاولة تفكيك العقل العربي جاءت نتيجة تأزّم إشكالية الفشل المتكرر بإنتاج شكل سياسي مستقر يمتلك مقومات الاستمرارية

لكن القضية تتطلب الالتقاط المشترك ما بين المحلي والعالمي على أساس أنه منجز إنساني، كذلك تحتاج تلك القضية إلى مراجعة معنى أن تزرع مبدأ وفكرة جاءا من خارج سياقهما الخاص وكيفية إيجاد عوامل تقبلهما والاعتقاد بهما، فبشكل ما حدث هذا مع الماركسية حين انطلقت من حق الشعوب بالعيش الكريم واستقلالها ومناهضة الاستعمار، لكنها اصطدمت بالجانب السياسي على حساب الأيديولوجي. وعلينا ملاحظة أن دفع المجتمع لتبني أفكار معينة مرتبطة بعوامل "دور المثقف، الدولة، وعي المجتمع" في مجتمعاتنا العربية؛ فالمثقف اختزل دوره في الحزب، واختزل أطروحته في المشروع السياسي أولاً، ثم المشروع الاجتماعي ثانياً، وهذا لا يتفق مع المطلب العربي.
لكن، في غياب عالم عربيّ موحّد الاتجاهات والمصالح والخبرات والمشاعر؛ كيف نشأت أيديولوجيا تجميعيّة كالقومية؟ وهل كانت تعبّر عن رغبة حقيقيّة في التكتل لمواجهة الإمبرياليّة ؟
إنّ قضية القومية مرتبطة أساساً بمرحلة الاستقلال، ومن ثم الصراع العربي الإسرائيلي، ولهذا هي تكوّنت أساساً كشعور متعلق بمرحلة تاريخيّة معينة، تحوّل إلى مبدأ سياسي للحكم، وهذا ما حصل في مصر والعراق على اختلاف التجربتين في المضمون والمخرجات.

ولا شكّ في أنّ للماركسية تأثيراً ملموساً على الحركات القومية العربية، وهذا واضح في كلّ التجارب التي حكمت في البلدان العربية، الغريب أنّ القومية العربية أخذت تتلاشى، في ظلّ صعود أفكار مغايرة لها، أو تقترب من أفكار كانت أساساً مناهضة لها، وهذا يكشف عن أزمتها الفكرية حول كيفية صياغتها من منظومة معرفية، تعالج معناها عربياً، وتضعها أساساً واضحاً لا يغفل أهمية الدولة والاختلافات العربية ثقافيّاً واجتماعيّاً مع وجود المشترك العربي تاريخيّاً.

للماركسية تأثير ملموس على الحركات القومية العربية

أنت تلمح بذلك إلى تراجع فكرة العالمثالثيّة، لكن كيف تشتغل أيديولوجيا قوميّة -أو إسلامويّة- على مستويي التصور والممارسة، وهي لا تعادي الإمبرياليّة، ولديها استعداد للعمل بالتنسيق معها؟

تراجع العالمثالثية مرهون بغياب حركات التحرر وانتهائها، وتحوّل دورها التاريخي أدّى إلى إشكالية بناء الدولة في المجتمعات العالم الثالث، والعجيب أنّ الجزء العربي هو أكثر ما يعاني من هذه الإشكالية.

اقرأ أيضاً: ما دور الأزهر والإخوان المسلمين في حرف مصر عن العلمانية؟
أما بخصوص وجود أيديولوجيا، قومية أو إسلامية، لا تعادي الإمبريالية، فلم تعد هناك حركات قومية أيديولوجية بالمعنى الصريح والمباشر؛ لأنّها تلقت ضربة عميقة منذ أزمة الخليج الثانية، ولهذا أخذت تركن تلك التجمعات القومية إلى الحركات الإسلامية؛ لأنها تمتلك طاقة التعبئة والحشد وجلب الجماهير إلى الفعل السياسي، وتلك الحركات الإسلامية مسكونة بهاجس الوصول إلى السلطة؛ لهذا مارست مساومات عديدة كي تحقق مبتغاها، وهذه القضية بدأت منذ تسعينيات القرن الماضي؛ حين قبلت بفتح الحوار والاتصال بالقوى الغربية.

بخصوص إشارتك إلى غياب حركة قوميّة بالمعنى الصريح؛ هل قضت الأزمة السوريّة على آخر حزب بعثي في العالم العربي؟ وكيف ترى مستقبل سوريا على ضوء ذلك؟
في تجربة البعث في سوريا خصوصية قائمة على مسك الحكم وإعطاء هامش بسيط للمجتمع؛ لهذا البعث موجود بقوة في السلطة وغير بارز في المجتمع، أظنّ أنّ ما حصل في سوريا تحقّق لظهور نوع جديد من النظام العربي لا يتعلق بما يطلق عليه "محور مقاومة" ونقيضه؛ إنما إعادة الاعتبار للسلطة كمنتج للأمن، لا سيما بعد الذي حصل في الربيع العربي.

اقرأ أيضاً: أيّ مستقبل لعلمانية المسلمين؟

كما يتعلق بالكشف عن حاجة المجتمعات العربية إلى مراجعة قناعاتها الاجتماعية والثقافية، وطرح السؤال الملحّ: هل باستطاعة تلك المجتمعات إنتاج قوى اجتماعية خارج مجال السلطة تسهم في بناء تصورات جديدة وقناعات مغايرة.

وما الحال بالنسبة إلى بعث العراق؟ هل خدمته الظروف السياسية (النكسة) ودفعت به إلى السلطة؟ وكيف استمرّ أكثر من ثلاثة عقود في الحكم؟
هزيمة حزيران 1967 فتحت مجالاً واسعاً أمام البعث كي يأخذ السلطة في العراق، تحت ذريعة التصدي لما حصل في النكسة، وإعلاء قضية فلسطين كمحور لشرعيته العربية، أما استمراره في السلطة، فيرجع إلى عدة عوامل، منها قدرته على الإمساك بها أمنيّاً، ومن ثمّ الاستفادة من القدرات الاقتصادية والبشرية في العراق، عن طريق اهتمامه في بداية حكمه بمفهوم التنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ إذ عمل البعث على الدخول إلى أغلب تفاصيل الحياة الاجتماعية في العراق، كي يكون حاضراً ومراقباً لما يجري فيه.

معضلة الطائفية والاستبداد
أتتفق مع ما يذهب إليه المراقبون؛ من أنّ البعث عمّق من المشكلة الطائفيّة في العراق أم أنها سابقة لنشأته ومتجذرة فيه؟

تعميق المشكلة الطائفية في العراق، كان يحمل جانبين: ذاتياً وموضوعياً؛ ذاتيّاً؛ كان هناك ميراث من عدم الثقة بين الكيانات الاجتماعية في العراق، نابع من مرحلة تأسيس الدولة العام 1921؛ إذ من تلك اللحظة انطلق الخلاف على سردية تكوينها، وكذلك رؤية تلك الكيانات لمعنى الحكم وشرعيته الدينية والتاريخية، أما موضوعيّاً؛ فقد عمل حزب البعث على اختزال الكيان السياسي "الوطن والدولة" في معناه هو فقط، كحزب يمتلك قدرات الحكم والبناء والحق في صياغة تصورات الناس لها، ومن هنا بدأت علاقة المجتمع بالحسّ الوطني تمرّ بعلاقة عكسية.

وهل أثرت الحرب العراقية الإيرانية على الوضع السياسي للشيعة العراقيين؟ وهل الأصولية الشيعية ذات أصل إيراني، كما يدّعي البعض، أم مجرد نموذج وإلهام فحسب؟
هناك ظاهرة عجيبة في العراق؛ هي تضخّم التاريخ على حساب الذاكرة؛ وهذا له علاقة بنمط الصراع الداخلي؛ إذ تحوّل التاريخ الإسلامي والسياسي كمادة لهذا الصراع، فهو جاهز ومعتقد به على المستوى الشعبي والاجتماعي، ولذلك نُسيت آثار الحرب الإيرانية/ العراقية على المجتمع، لكنّها ضامرة في استرجاع محن الناس أيام تلك الحرب، والآن الجيل الذي حضر تلك الحرب أخذ يغيب عن المشهد الاجتماعي.

اقرأ أيضاً: الإسلام السياسي أم العلمانية.. أين يكمن الخطر الحقيقي؟
أما تأثير هذا على الوضع السياسي للعراقيين الشيعة؛ فهو واقع تحت مأزق من تناقضات سياسية احتضنت إيران والقوى السياسية العراقية الشيعية، واجتماعياً هناك حساسية اجتماعية أخذت تنمو منذ الحرب الإيرانية العراقية، وحتى اليوم، وهذا التأثير يأخذ أبعاداً كثيرة جعلت من أثار تلك الحرب مدخلاً لبلورة السعي لتمايز بين الجانبين، وخلق تميّز واضح بينهما.

على ذكر إيران؛ ما احتمالية حدوث ردّة عكسية نحو العلمانيّة تحت ضغط الجمهوريّة الإسلامية كمقلوب لما حصل في تركيا؟
أجد أنّ من الأهمية بمكان قراءة أطروحة عالم الاجتماع الإيراني، فرهاد خفتارو، عن "العلمانية من تحت"؛ التي وضعها حين حلّل تنامي النزعات العلمانية داخل المجتمع الإيراني وهو يعيش في ظلّ حكم الإسلامي، وحصل العكس في تركيا منذ مجيء أتاتورك للحكم، إذاً؛ نستطيع القول إنّ العلمانية في العالم العربي هي عبارة عن نزعات اجتماعية لا تستند إلى أساس فكري يحدّد معناها؛ إذ تنحصر تلك العلمانية في عالمنا العربي في البحث عن الحرية والعيش الكريم دون تأطير معرفي.

هناك تشابه بين الطائفيّة في لبنان والعراق

بالعودة إلى العراق؛ ما الفرق بين الطائفيّة فيها وفي لبنان إذاً؟

ربما قد يكون هناك تشابه بين الطائفيّة في لبنان والعراق؛ بسبب وجود بعض المعالم المشتركة بين كيانات اجتماعية موجودة في البلدين، لكن صياغات الطائفية بين الجانبين مختلفة؛ لأنّ الطائفية في العراق غير حاضرة في المجتمع، إلا حين تعمل السياسة على إحضارها، وقد تضمر وتختفي حين تكفّ السياسة عن ذلك، لكن في لبنان هناك ترسيخ دائم سياسي واجتماعي، قد يكون هذا قد حصل في العراق بعد 2003، لكنه لم يصل إلى مستواه الاجتماعي.

بما أنّ الطائفيّة مرتبطة بتقلبات الوضع السياسي؛ فهل يمكن أن تعود قيم المواطنة والحسّ الوطني المشترك للعمل في العراق؟
الحديث عن الحسّ الوطني في العراق يكتنفه الكثير من العوائق؛ فهناك ميراث النظام السابق، وسياق تكوين الدولة، كما ذكرت سابقاً، الذي أوجد نوعاً من عدم الثقة، وهذا يقودنا إلى مقولة "الخصوصية العراقية" القائمة على فكرة أنّ العراق لا يُحكم إلا بالاستبداد.

اقرأ أيضاً: أنور السباعي: هل علينا إقامة خلافة إسلامية علمانية لنرضي الجميع؟!
إننا، في العراق، في حاجة إلى فهم جديد يستوعب ما تمّ تقديمه من مقاربات إزاء أزمة العراق وصراعاتها؛ حتى لا نقع في تصورات نمطية، ترتبط بأنّ الحكم في هذا البلد لا يستقيم إلا بالقوة، وكأننا ننسى أن القوة غاشمة وتحتكم إلى قيد.
وهل كان حصار وتفتيت المجتمع المدني العراقي سبباً في تأزم الوضع الحالي؟
الحصار أسهم في إنهاء تكوينات اجتماعية بالكامل، بل أوجد سلوكيات وقيماً لا تتقبل التعدد والاختلاف والحرص على البقاء بأي شكل من الأشكال، دون النظر إلى شرعية هذا البقاء، ومن يقدّم عوامله.

القضية الكردية تشبه إشكالية تكوين الدولة العراقية من جانب التناقض بين العامل التاريخي والسياسي

هل يمكن إعادة دمج الأكراد في الكيان الوطني للعراق؟ أو هل سيتحقق الحلم الكردي بتأسيس دولة في النهاية؟

القضية الكردية تشبه إشكالية تكوين الدولة العراقية من جانب التناقض بين العامل التاريخي، الذي هو في محتواه جغرافي، والعامل السياسي المتعلق بنمط الحكم، الكرد مرّوا بمراحل طويلة من النضال السياسي والاجتماعي، وكما تعلم؛ هناك "حقّ تقرير المصير" وهم قبلوا، منذ سبعينيات القرن الماضي، بحكم ذاتي، جعلهم يحققون جزءاً من مطلبهم، مع هذا تبقى القضية برمتها معتمدة على قدرة الدولة في استيعابهم، وإعطائهم خصوصيتهم، ونظر الكرد للدولة والقناعة في البقاء في كنفها.

الأزمة السورية استدعت مضامين الحجج التي تخللت المعركة الشهيرة بين إدوارد سعيد وكنعان مكية حول أيهما أهم: التخلص من الاستبداد أم مواجهة الإمبرياليّة؟ أيهما كان محقاً برأيك؟

القضية معقدة فيما يخص المعركة التي دارت بين كنعان مكية وإدوارد سعيد، قبل التدخل الأمريكي في العراق واحتلاله؛ إذ علينا مراجعة الموجهات التي كوّنت مواقفهما إزاء تلك القضية؛ فكنعان مكية كان ينظر للقضية من جهة الاستبداد وآثاره، وما يوجده من تشويه عميق للذات البشرية، أما إدوارد سعيد؛ فقد تعامل مع القضية من جهة التحرر من الاستعمار، وتأثير القضية الفلسطينية على ما تبناه من آراء واضح للغاية.

نحن بحاجة إلى التركيز على علاقتنا بالمعرفة التي تساعدنا على فهم ما يجري حولنا من تبدلات عميقة

فحين نراجع ما كتبه مكية وسعيد؛ نجد أنّ الأول كتب "جمهورية الخوف"، التي حلل فيها تشكل علاقات الهيمنة والرعب داخل المجتمع العراقي نتيجة الاستبداد، أما الثاني (سعيد)؛ فقد كتب مذكراته تحت عنوان "خارج المكان"، عن المكان الذي لم يتمكن من البقاء فيه بسبب الاستعمار والإقصاء، وهنا أجد أن القضية، كما قلت أعلاه، معقدة.
وهل الإنسان العربي محكوم بالمسارين المهلكين الذين كتب عنهما مكية وسعيد: الاستبداد الدموي والعيش في عالم كافكوي (نسبةً إلى الكاتب كافكا) أو الاحتلال أو الهيمنة الاستعمارية؟
أرى أننا في العالم العربي في حاجة إلى التركيز على علاقتنا بالمعرفة التي تساعدنا على فهم ما يجري حولنا من تبدلات عميقة، فلو تساءلنا كم هي نتاجاتنا حول تشريح معنى الاستبداد كي نخلق من هذا التشريح ميكانيزمات مضادة له؟ لم نجد جواباً كافيّاً؛ فالقضية غير متعلقة بالاستبداد السياسي فقط، بل هي منتشرة بشكل متخفي في علاقاتنا الاجتماعية والثقافية، حتى طريقة تعاملنا مع الآخر وكافة النشاطات الحياتية، أظنّ أنّ علينا الانطلاق من معنى الاستبداد لتحليل مجتمعاتنا من جديد، وإلا سوف نعيد ونكرر التفسيرات نفسها.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية