محمد عبد الكريم
قررت الولايات المتحدة مطلع سبتمبر الجاري خفض مساعدات بقيمة تتجاوز 100 مليون دولار لإثيوبيا عقب تأزم محادثات سد النهضة مع مصر والسودان، وتحديدًا، حسب مصادر من الكونجرس الأمريكي لوكالة رويترز، بسبب موقف إثيوبيا في مفاوضات سد النهضة.
وسيتركز هذا الخفض في التمويل المتعلق بالأمن الإقليمي أو أمن الحدود، والمنافسة السياسية، وجهود بناء الإجماع الوطني، والتغذية. لكن تقرر أن يظل تمويل مواجهة مرض نقص المناعة المكتسبة، وبرنامج الغذاء من أجل السلام، ومساعدات الكوارث الدولية، ومساعدات الهجرة واللاجئين دون مساس.
وجاءت تأكيدات مسئولين بالكونجرس عقب نشر دورية فورين بوليسي قبل أسبوع تقريرًا يفيد بنظر الحكومة الأمريكية في خفض قدره 130 مليون دولار في مساعداتها لإثيوبيا مما يمكن أن يؤثر على مسائل الأمن ومواجهة الإرهاب ومكافحة تهريب البشر في إثيوبيا في سياق الضغط الأمريكي على أديس أبابا لمنعها من مواصلة المضي قدمًا في ملء خزان سد النهضة دون التوصل لاتفاق “ملزم” مع مصر والسودان.
وفي مؤشر على تصعيد مكتوم، وربما بدء مرحلة جديدة من تموضع نظام آبي أحمد في القرن الأفريقي، طلب سفير إثيوبيا في الولايات المتحدة فيتسوم أريجا Fitsum Arega “توضيحًا” من واشنطن بشأن هذه التقارير.
فيما أكد مسئول بالخارجية الأمريكية، وفي لغة دبلوماسية حاسمة وواضحة، أن القرارات الأمريكية متصلة بقلق واشنطن من قرار أديس أبابا الأحادي بملء السد قبل التوصل لاتفاق مع مصر والسودان، مما يحد من الثقة في المفاوضات ولا يتسق مع التزامات إثيوبيا بعدم القيام بقرارات أحادية (في مسألة ملء السد وتشغيله).
المساعدات الأمريكية لإثيوبيا: هل تستطيع أديس أبابا الاستغناء عنها؟
تمثل إثيوبيا حليفًا أفريقيا تقليديًا ومهمًا للولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، رغم تضاؤل أهميتها اقتصاديًا (حيث تعد واحدة من أفقر دول العالم بمتوسط نصيب الفرد من الناتج القومي سنويًا يصل إلى 790 دولار، وفي المرتبة 170 عالميًا في العام 2019 حسب تقديرات البنك الدولي، فيما تحل كسابع أكبر اقتصاد أفريقي بعد كينيا مباشرة، وإن كانت تستهدف سياساتها الحالية الوصول إلى فئة دول الدخل المتوسط الدنيا بحلول العام 2025).
وتعد الولايات المتحدة، حتى في ظل الوجود الاقتصادي الصيني في إثيوبيا والذي لا يعتمد سياسات تقديم معونات اقتصادية، أكبر مقدم للمساعدات الثنائية لإثيوبيا. كما تجاوزت الاستثمارات الأمريكية طويلة الأجل طوال العشرون عامًا السابقة في إثيوبيا 13 بليون دولار قيمة المساعدات الإجمالية، منها أكثر من 4 بليون دولار في الأعوام الخمسة الأخيرة وحدها (2016-2020)([1]).
وعلى سبيل المثال على هذا الاستئثار الأمريكي حصلت إثيوبيا في العام 2011 (الذي شهد إعلانها عن بدء تشييد سد النهضة) على مساعدات دولية بقيمة 2.8 بليون دولار قدمت منها الولايات المتحدة 814 مليون دولار، أو ما يقرب من ثلثها، كما وصل حجم المساعدات الأمريكية والبنك الدولي والمملكة المتحدة لإثيوبيا مجتمعة إلى 1.5 بليون دولار، مما يؤشر على أهمية المساهمة الأمريكية بشكل ثنائي ودولي.
لكن يخصص نحو نصف المساعدات الأمريكية لمبادرات مواجهة “الإيدز”، وسط تقارير مألوفة بتوزيع الحكومة الإثيوبية للمساعدات الإنسانية بدافع سياسي في المقام الأول. فيما بلغت المخصصات الأمريكية لإثيوبيا خارج قطاع الصحة 205 مليون دولار في العام 2012([2]).
وتأتي المساعدات الأمريكية لإثيوبيا متسقة مع أهداف حكومة الأخيرة بتحقيق النمو وتخصيص موارد كبيرة لتعزيز التنمية وتطوير القطاع الصحي والتعليم وفرص النمو الاقتصادي، بمقتضى خطة النمو والتحول الخمسية (2016-2020)، ومساعدة الإثيوبيين في مواصلة التقدم في الأمن الإقليمي وتحسين الأمن الغذائي([3]).
وفي منتصف مايو الفائت وقعت الولايات المتحدة مع وزارة المالية الفيدرالية الإثيوبية اتفاقًا جديدًا للشراكة في التنمية بقيمة تتجاوز 230 مليون دولار لتحسين أحوال الصحة والتعليم والزراعة والنمو الاقتصادي والحكم الرشيد.
وبشكل عام فإن المساعدات الأمريكية لإثيوبيا تقدر في العام 2019و 2020 بمبلغ 876 مليون دولار، لتكون بذلك أكبر متلق للمساعدات الأمريكية في أفريقيا جنوب الصحراء([4]).
وهكذا يتوقع أن يؤدي الخفض الحالي في المساعدات الأمريكية، كمرحلة أولى، إلى تراجع نصيب إثيوبيا من المساعدات الأمريكية، وربما تراجع مكانتها –أو مكانة نظام آبي أحمد في واقع الأمر مرحليًا- كأحد أبرز حليف الولايات المتحدة في أفريقيا جنوب الصحراء وخاصة في منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا.
دلالات “القرار الأمريكي”: اضطراب إعادة تشكيل القرن الأفريقي؟
كان ملفتًا الحضور الإثيوبي في كافة ملفات القرن الأفريقي رغم تشابك مصالح أديس أبابا مع جميع دول المنطقة، وفق ما وصفه مراقبون بسياسة “تصفير المشكلات”، والتي لم تقد عمليًا إلا إلى تسويات مؤقتة لاسيما في مسألة السلام الإثيوبي- الإريتري.
كما كان ملفتًا قدرة نظام آبي أحمد، الذي جاء بمباركة أوروبية صريحة، وترحيب أمريكي متحفظ نسبيًا، على إقامة علاقات مميزة مع شركاء دوليون ذوو مصالح متعارضة على خلفية التعاون في الملفات الأمنية والإقليمية والاقتصادية مع كل دولة على حدا.
وبدت الولايات المتحدة قلقة من توجهات نظام آبي أحمد في التقارب الشديد مع الصين وتركيا، والجنوح إلى إلحاق أضرار جسيمة بواحدة من أهم حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وأفريقيا: مصر، والتجاهل المتعمد –في شكل غير مسبوق منذ سبعينيات القرن الماضي- للدور الأمريكي في مساعي حل النزاع بين إثيوبيا ودول أخرى (مصر في هذه الحال)، ورفض الوساطة الأمريكية برمتها ترقبًا لتغيير محتمل في الإدارة الأمريكية.
وقد فرضت أزمة سد النهضة تحديًا أمام الإدارة الأمريكية التي تحاول موازنة مطالب حليفاها الأفريقيين الكبيرين (مصر وإثيوبيا)، فيما تقوم بخطوات نحو استعادة العلاقات مع السودان الذي يمر بمرحلة انتقالية. ويؤشر وقف مساعدات امريكية لإثيوبيا على دعم الولايات المتحدة لمصر، شريكها الهام أيضًا في الشرق الأوسط، في النزاع. وكانت المحادثات التي تتم بوساطة الاتحاد الأفريقي قد فشلت حتى الآن في حل تعطل المفاوضات، مما ولد قلقًا متزايدًا لدى إدارة ترامب إزاء عدم تقدم المفاوضات([5]).
وفي مؤشر يعزز ما سبق فقد تلا إعلان وزارة الخارجية الأمريكية (الأربعاء 2 سبتمبر) الوقف المؤقت لضخ عشرات ملايين الدولارات من المساعدات الأجنبية لإثيوبيا “ردًا على قرار السلطات هناك ملء خزان سد النهضة الإثيوبي العظيم” إسراع المسئولون الإثيوبيون بالمطالبة بتوضيح من الولايات المتحدة.
بينما أكد وزير المالية الإثيوبي أيوب تيكالين Eyob Tekalign طلب حكومته من الولايات المتحدة تقديم “تفسير كامل” لخفض المساعدات، معربًا عن قناعته بإمكان تسوية الوضع سريعًا، لاسيما أن “الولايات المتحدة لم تقدم على هذه الخطوة بعد دراسة كافية لأن الشراكة بين الولايات المتحدة وإثيوبيا قوية للغاية وستظل كذلك” وأن بلاده تعتبر الأمر سوء فهم وأن ذلك لن يستمر. وأعرب عن أمل بلاده بإعادة واشنطن النظر في المسألة لأن إثيوبيا تقوم بالأمر الصائب تمامًا بكل معاني الكلمة قانونيًا وأخلاقيًا أيضًا([6]).
تداعيات القرار الأمريكي على إثيوبيا
يكتسب القرار الأمريكي وتداعياته أهمية كبيرة في ظل تحولات إقليمية كبيرة في منطقة القرن الأفريقي والشرق الأوسط، وفي مؤشر على ذلك كانت محادثات سد النهضة موضع نقاش خلال الزيارة المهمة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو للخرطوم (25 أغسطس الفائت)، وحسبما أوردت “فورين بوليسي” فإنه صادق عقب عودته من الخرطوم مباشرة على “خطة لوقف بعض المساعدات الأمريكية لإثيوبيا” بقيمة نحو 130 مليون دولار” بسبب موقفها المتعنت في مسألة سد النهضة([7])، لكن مراقبين سودانيين استبعدوا طلب السودان من الولايات المتحدة بذل مزيد من الضغوط على إثيوبيا بخصوص سد النهضة، وأن مطالب السودان الولايات المتحدة مقابل تطبيع علاقاته مع إسرائيل واضحة للغاية وترتبط بالأساس باهتماماته في الداخل؛ إذ تسعى الخرطوم لشطب اسمها من قائمة الخارجية الأمريكية للدول الراعية للإرهاب وأن تحظى بدعم لاقتصادها والتحول الديمقراطي بها، وكذلك نهاية عزلتها السياسية([8]).
كما يكتسب القرار الأمريكي أهمية في دلالاته السياسية القوية –والتي أحدثت قلقًا لا يستهان به في أديس أبابا وعدم مبادرة مكتب رئيس الوزراء للتعليق عليها حتى الآن رغم ما عهد عنه من سرعة إصدار بيانات- حيث ورد أنه جاء على خلفية مخاوف أمريكية من قرار إثيوبيا الأحادي بملء خزان السد قبل “اتفاق والتأكد من أن جميع اجراءات سلامة السد الضرورية قائمة.
ويتوقع أن تتركز تداعيات الخفض على البرامج المرتبطة بالأمن الإقليمي. كما ربط محللون القرار بتعدي السلطات الإثيوبية مؤخرًا على المعارضة السياسية لاسيما منذ يونيو الماضي، وتجسيدًا لحالة عدم رضا واضحة من قبل واشنطن نحو إدارة آبي أحمد وتوجه البلاد بشكل واضح نحو الحكم السلطوي. وأن الخطوة يمكن أن تكون إشارة مفادها تنبيه آبي أحمد لإمكان تدهور العلاقات الاستراتيجية بين البلدين إن واصل السير في هذا المسار([9]).
فيما يتوقع محللون أمريكيون أن إثيوبيا لن تتوقف عن جهد إكمال بناء السد بسبب خفض المساعدات الأمريكية وأن أية محاولة أمريكية للضغط على إثيوبيا بهذه الطريقة سيقود إلى تصلب أديس أبابا وتمسكها بعدم “تقديم تنازلات” يوقن الإثيوبيون أنها ستخفض حجم مكاسبهم (من سد النهضة)([10]).
ومن جهة أخرى فإن الولايات المتحدة –حسب مراقبين إثيوبيين- تجازف، بخفض المساعدات، بإضعاف التعاون مع إثيوبيا في حربها ضد المتطرفين الإسلاميين في إقليم القرن الأفريقي، وهو ما اعتبره مراقبون “خطأ استراتيجي هائل” إذ أن وقف المساعدات لن يبرهن فحسب على أن الولايات المتحدة ليست وسيطًا محايدًا، بل إنه من المرجح للغاية أن يدفع إثيوبيا أقرب نحو الصين وتركيا([11]).
وفي المحصلة ترى الإدارة الأمريكية أنه لا زالت هناك حاجة لتحقيق تقدم وأن دور الولايات المتحدة هو القيام بكل ما تستطيع لتسهيل توقيع اتفاق بين دول النيل الأزرق الثلاثة يوازن بين مصالحهم، وأنه يجب أن يكون هناك في نهاية المطاف اتفاقًا مقبولًا للدول الثلاثة([12]).
كما يلفت النظر مجيء القرار الأمريكي وسط أزمة سياسة طاحنة تمر بها إثيوبيا لا يبدو أنها ستخبو قريبًا، لاسيما أنها تمتد في مناطق متفرقة في وقت واحد مثل أوروميا Oromia وولاياتا Wolayta؛ وتفكك بناء الدولة في إقليم الأمهرا، والنزاع بين الحكومة الفيدرالية وإقليم التيجراي، إلى جانب نزاعات إثنية لم تهدأ في الإقليم الصومالي وفي إقليم العفر.
ووصل التوتر في إقليم التيجراي إلى درجة دعوة الاتحاد الأفريقي للوساطة بين رئيس الوزراء وجبهة التحرير الشعبية التيجرانية، فيما دعت جماعات إثيوبية مهمة في الولايات المتحدة واشنطن للعب دور هام وسط هذه الأزمة المستعرة([13])، التي يمكن أن تكون أقل تداعياتها سقوط نظام آبي أحمد وشبكة تحالفاته المحلية- العسكرية الهشة حال فقد الدعم الأمريكي له.
خلاصة
ربما يواجه آبي أحمد تحديًا حقيقيًا هذه المرة إذا واصلت واشنطن موقفها من أزمة سد النهضة، لتصل في النهاية إلى تسوية “عادلة” تغني المنطقة عن توترات غير مسبوقة جيواستراتيجيًا، وربما تتداعى أحلام مراهنته –كما جرت عادته منذ تقلده السلطة في أبريل 2018 وفي كافة الملفات المحلية والخارجية- على عامل الوقت ترقبًا لتغيير الإدارة الأمريكية الحالية، لاسيما أنه يبدو متجاهلًا حساسية المسألة بالنسبة لمصر، واحتفاظ الأخيرة بأوراق “حاسمة” في هذا الملف وقدرة أكبر عن ذي قبل في إدارة الأزمة، ووجود بدائل حقيقية في ظل ما يمكن وصفه باضطراب عملية إعادة تشكيل منطقة القرن الأفريقي، حال نجحت القاهرة في المشاركة الفعالة في “تصويب” مسار هذه العملية.
عن "مركز الإنذار المبكر"