عصر النهضة: ليست الموناليزا فقط.. مريم العذراء أيضاً تنظر إلى عينيك!

عصر النهضة: ليست الموناليزا فقط.. مريم العذراء أيضاً تنظر إلى عينيك!


29/04/2018

اللوحة الأكثر شهرة في التاريخ، وأكثر عمل فني كُتب عنه، بل وأكثر عمل فني تمت محاكاته بشكل ساخر في العالم، كل هذا ينطبق على اللوحة التي يعرفها، حتى من ليس لهم أدنى علاقة بالفن؛ لوحة الموناليزا، أو "الجيوكاندا" كما تسمى، رسمها في القرن السادس عشر، الفنان والنحات الأشهر، الإيطالي ليوناردو دا فينشي، ولك أن تتصور مقدار أهمية وتفرّد هذه اللوحة، إذا عرفت أنّ فرنسا تحتفظ بها في متحف اللوفر خلف لوح زجاجي مضاد للرصاص.

منذ بدايات القرن العشرين بدأ التكريس للوحة الموناليزا باعتبارها لوحة استثنائية

إذا كنت عزيزي القارئ عربياً، فعلى الأرجح، أنّك مررت بهذه اللوحة في إحدى المراحل التعليمية الأساسية، إلى هذا الحد تُعامل هذه اللوحة عالمياً معاملةً خاصة وتدرَّس للأطفال في المدارس حتى على بعد آلاف الأميال من مقرها، لكن في الواقع لم تكن هذه اللوحة تتمتع بهذا القدر من الأهمية لعدة قرون بعد صنعها، فهي لم تأخذ كل هذه الضجة إلا مع قدوم القرن العشرين، فقبل ذلك كانت اللوحة تعامل معاملة عادية، باعتبارها صورة جميلة لامرأة يرجّح أنّ اسمها ليزا جوكوندو، لكن ومنذ بدايات القرن العشرين بدأ التكريس للوحة الموناليزا باعتبارها لوحة استثنائية، وبدأ سيل الحبر الذي لم يتوقف حتى الآن يسيل في الكتابة عنها، فقد اعتبر النقاد في ابتسامة الموناليزا الغامضة سراً من أسرار العالم، وفي كل الأحوال ظلت الموناليزا أشهر لوحة لسيدة تبتسم في وجه الناظر إليها في التاريخ.

لفنان الألماني لوكاس كراناخ

أهم من الموناليزا ولكن!

على جانب آخر، وفي القرن الرابع عشر؛ أي في نفس الحقبة الزمنية التي رسمت فيها اللوحة الأشهر في العالم "الموناليزا"، ظهرت لوحة أخرى لرسام لا يقل إبداعاً عن ليوناردو دا فينشي، واشتهرت لوحاته بأنّها كانت الأكثر تجسيداً لعصر النهضة، ولميلاد الإنسان الجديد، إنها لوحة الفنان الألماني لوكاس كراناخ، لسيدة أيضاً مبتسمة ابتسامة غامضة، وتنظر أيضاً إلى عينيك ولكنها هذه المرة ليست لسيدة أرستقراطية، وإنما هي مريم العذراء بكل ما لوجهها من قداسة في تاريخ العالمين؛ المسيحي والإسلامي، تنظر إلى عينيك وتبتسم حين تنظر إليه.

كان الأمر جللاً، رغم ما تعتقده من بساطة، فحتى سنوات قبل ذلك لم يكن أحد ليتخيّل أن ترسم مريم العذراء في العالم المسيحي، وهي تنظر إلى عيني من يشاهدها، وقبل سنوات أطول قليلًا كان من الممكن أن تتسبب لوحة مثل تلك لصاحبها، في الإعدام حرقاً لهرطقته، فقد ظلّت الأيقونات الدينية ترسم لوقت طويل في الكنائس، ترسم وفق معايير محددة غير قابلة لأي مساحة من الإبداع أو الخروج عن التقليد السائد؛ حيث نظر لهذا النوع من الفنون بأنّه انعكاس العالم السماوي على الفضاء الأرضي، ومن ثم حتمت قداسته المفترضة، قيوداً كثيرة على الفنان الذي يعمل به.

لم يتوقف في هذه اللوحة عند رسم العذراء وهي تنظر إلى عيني من يشاهدها وإنما ألبسها أيضاً ملابس عصره

لم يتوقف كراناخ في هذه اللوحة عند رسم مريم العذراء وهي تنظر إلى عيني من يشاهدها فقط، وإنما ألبسها أيضاً ملابس عصره، وقد كانت تلك طريقته الصادمة الواقعية، التي اعتمدها في جلّ أعماله التي تناولت مواضيع دينية، فحين رسم أيضاً قصة سالومي والنبي يوحنا المعمدان (يحيى)، اختار أن يلبس سالومي في اللوحة ملابس فتاة أرستقراطية من القرن السادس عشر، وكأنه يرسم علاقة المرأة بالرجل، وسلطة الجمال غير المرئية بين البشر، في عصره هو، لا في عصر يوحنا وسالومي.

أغلب من شاهدوا هذه اللوحة التي تظهر فيها مريم العذراء وهي تنظر لعيني من يشاهدها، والتي لا تزال تدهش من يستمتعون بها حتى اليوم، وجدوا شعوراً بحميمية بالغة تجاه السيدة العذراء، فهي في هذه اللوحة وكأنها تنزل بمستواها المقدس الرفيع لتخاطب المشاهد المهموم بلغة العيون، وتحنو عليه وهي تلبس ملابس عصره؛ كانت اللوحة أشبه بقطيعة مع الماضي، فالعذراء مريم لم تعد تلك الأيقونة السماوية المنفصلة عن العالم، وإنما هي طاقة نور حنونة قادرة على التواصل مع البشر في زمانهم وأن تنظر في عينيهم أيضًا لتطيب مابهم من حزن وحيرة.

حين رسم قصة سالومي ويوحنا المعمدان اختار أن يلبس سالومي ملابس فتاة أرستقراطية

ميلاد عصر جديد

لوكاس كراناخ، بحسب مؤرخي الفنون البصرية، هو واحد من أهم الذين جسّدوا روح عصر النهضة في فنّهم، وساهموا بلوحاتهم في انطلاق الإنسان نحو عصر جديد، وآفاق جديدة من التفكير والتعبير عن الذات والعصر، لكنّ الأهم في كراناخ، هو أنّ لوحاته التي تنتمي إلى عصر النهضة وتعبّر عنه، ما تزال في عصرنا هذا تلقى الإعجاب والدهشة نفسهما، وما تزال قادرة على فتح أبواب جديدة في عقل الإنسان المعاصر.

كراناخ واحد من أهم الذين جسّدوا روح عصر النهضة في فنّهم وساهموا بانطلاق الإنسان نحو عصر جديد

ربما لم تحظ لوحة كراناخ بنفس الهالة من الشهرة التي صاحبت لوحة الموناليزا في القرون التالية، وربما أيضاً لم تحصد نفس الاهتمام الإعلامي بها في العصور اللاحقة، لكنها في زمانها كانت الأكثر شعبية، وكان لها عظيم الأثر على من تلقونها، ومثلت قطيعة مع تقليد فني ثابت، بتقليد مبتكر جديد، يعكس هموم إنسان جديد في عصر جديد، ورؤية مختلفة للعالم والدين والفن، كما أنّها عبرت بجرأتها عن زمن آخر، يموّل فيه حاكم فيتنبيرغ فناناً جريئاً بحجم كراناخ، فيعطيه ما يماثل بحسابات عصرنا هذا "100 ألف يورو" سنوياً، وهو ما يماثل في ذلك العصر راتب كبار أساتذة الجامعة في فيتنبيرغ، وتعكس ميلاد مجتمع جديد يعيد قراءة الدين بما يتناسب مع روح عصره، في ضاحية صارت في ذلك القرن المهنة الأساسية فيها هي مهنة طباعة الكتب.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية