موسى برهومة
لو اكتفى عبّاس بن فرناس بمخاوفه، ولاذ في عتمتها الآمنة، لما استطاع أن يحلّق بجناحيه المصنوعين من الريش قرب قصر الرصافة في سماء بغداد.
طار الآدميّ قليلاً وارتقى، ولولا خلل يقال إنه متصل بالذيل، لظلّ بن فرناس يسمو في الأعالي ويتحدّى الجاذبية.
مات عالم الفلك والرياضيات دون حلمه البعيد، لكنّه شقّ طريقاً كبيراً نحو صناعة الطائرة والصاروخ والمركبة الفضائية والمسبارات التي تحمل الأمل.
فهذه الكتل المعدنية الطائرة بين أضلاع الغيوم والأفلاك، تدين بالفضل إلى تلك الطائرة البشرية، التي من لحم ودم، والتي قضت نحبها قبل 1134 عاماً. وربّ عابر لجسر عباس بن فرناس في قرطبة، على نهر الوادي الكبير، يرى في منتصفه تمثالاً لابن فرناس بجناحين يمتدان إلى نهايتيْ الجسر.
كل منجز يبدأ من هزيمة الخوف، والانتصار على آلام الفشل. كل فتح فسيح سبقته خسائر صغيرة. هكذا كان يحدّث توماس أديسون نفسه، وهو يخفق المرة تلو الأخرى في ابتكار اختراعات كبرى غيّرت وجه الحياة، وليس أبرزَها المصباح الكهربائي المتوهج ذو الأغراض التجارية، بل هناك التلغراف والفونوغراف، وصناعة المنظار، الذي يعمل بالأشعة السينية، فضلاً عن دوره في إطلاق خدمة القطار الكهربائي والسكك الحديدية.
لم يستسلم أديسون لانتقادات أستاذه السلبية بأنه «فاسد» وشارد الذهن على الدوام. لقد قاوم ذلك، مع أنه ترك المدرسة، وتولت والدته تدريسه وتعزيز ثقته بنفسه، لا سيما أنه كان يعاني من مشاكل في السمع، يمكنها أن تحبط الجبال الرواسي.
ولو أنّ عباس بن فرناس، وتوماس أديسون أصغيا إلى ما يتناقله الكسالى الكثيرون من العامة عن العصفور الذي في اليد، والذي هو أفضل وأكثر ضمانة من العشرة التي على الشجرة، لتأخر العالم عن التحليق في الأجواء، ولما أضيئت مدينة نيويورك عام 1878، بالمصابيح الكهربائية المتوهجة طويلة الأمد وقليلة الكلفة. بعد عام من ذلك الحدث، قال أديسون: «سنجعل الكهرباء رخيصة جداً بحيث أنّ الأثرياء وحدهم من سيضيئون الشموع».
الذاكرة التاريخية مليئة بالذين نظروا إلى العصافير العشرة التي على الشجرة، لا طمعاً، وإنما لإشباع الفضول المعرفي، وتلك فضيلة السائرين عكس التيار، ممن لا يكتفون بالسلامة والإياب، وإنما يذهبون إلى مناطق الخطر، ويشتبكون مع المستحيل، ولسان حالهم يقول إنّ القناعة البسيطة الفقيرة كنز يفنى ويتبدّد. ما لا يفنى، هو إرادة التحدي والتجاوز والركض وراء الأحلام.
الولاء للأفكار، حتى لو كان احتمال تحقيقها صفراً، خطوة مهمة نحو إيجاد مقاربة ساحرة في ظرف جديد، يعيد للفكرة الأولى ألقها.
وأميل هنا إلى تصديق ما فعله أرخميدس، حينما كان يغتسل في حمام عام في مدينة صقلية، فلاحظ أنّ منسوب الماء ارتفع عندما انغمس في الماء، وأنّ للماء دفعاً على جسمه من أسفل إلى أعلى، فخرج في الشارع يجري ويصيح (أوريكا، أوريكا)، أي وجدتها وجدتها، واضعاً، عبر اكتشاف قانون طفو الأجسام داخل المياه، واحداً من أعظم ثلاثة قوانين في العلوم الطبيعية.
الفلاسفة سلكوا الدرب ذاته، وظلوا رغم العسف، يؤكدون أنّ الأرض تدور حول الشمس، ومات الفلكي الفيلسوف غاليليو في بؤس لا نطاق لبشاعته، لأنه تبنّى نظرية كوبرنيكوس، واعتصم بفكرته الخالدة، وظل يردّد بلا توقف: ومع ذلك فإنها تدور. لذا، لا غرو أن يقول ستيفن هوكنغ، إنّ مولد العلم الحديث، ربما يرجع إلى غاليليو أكثر من أي شخص آخر.
وفي الشعر كان بمقدور الروسية آنا أخماتوفا، أن تعبّر عن مأساة الرحيل بكلمات دامعة تذرف الآهات، وتشهق في الندب والشكوى، لكنها اختارت البساطة العبقرية: «حينما ترحل الريحُ، من سيهزّ الغصون. حينما يذبل الغصنُ، من سيلمّ الندى في الصباح؟».
قد يختنق العصفور الذي في اليد، وقد تطير أقرانه العشرة التي على الشجرة، وقد يبقى الكائن أسير ذعره الداخلي، يمشي الحيط الحيط، متمتماً بنشيد الهزيمة: «حط راسك بين الروس...»، لكنّ ذلك لا يبني جسراً ولا يستمطر سحابة، ولا يروي كبرياء عاشق هتف ذات زمان بين عواصف النِصال: ولقد ذكرتكِ والرماحُ نواهلٌ مني..
عن "البيان" الإماراتية