"البيت والعالم" لطاغور: المحبّ لسمكته مطبوخةً ليس كمن يحبّها في الماء

"البيت والعالم" لطاغور: المحبّ لسمكته مطبوخةً ليس كمن يحبّها في الماء


13/12/2017

تكتنز رواية "البيت والعالم" للكاتب الهندي الحائز على جائزة نوبل للآداب، رابندرنات طاغور(1861-1941) بروح فلسفية تأملية يختلط فيها السياسي بالعاطفي، وتفيض بمشاعرعن الحياة والموت والوحدة والمصائر المجهولة للنفس. صدرت الرواية باللغة البنغالية عام 1916 وكتبت بلغة استعارية غنية بالظلال..
تقدم "البيت والعالم" ثلاث شخصيات رئيسة تتكلم وتبوح لمستمع افتراضي، وهو ما منح الرواية بعداً نفسياً جذب القراء إليها، إضافة إلى الحوارات الذكية والعميقة بين الأبطال الثلاثة حول السعادة والوطن والجمال، وهذا مرده إلى تأثير التأليف المسرحي والأدب الشكسبيري. هذه الشخصيات تشكل، كما تقول الناقدة الإنكليزية نيفيديا سين، مثلثاً غرامياً أضلاعه: الوطن، الرغبة السرية، المرأة. رؤوسه: المهراجا الإقطاعي نيكهيليش صاحب الثقافة الإنكليزية والليبرالية والإنسانية والعالمية، وبيمالا زوجة المهراجا العالقة بغرام صديقه سانديب المناضل "الوطني" والخبيث والداهية والبليغ بعباراته وآرائه إلى حد الفتنة. مع علمها أنه "تاجر كلمات وصاحب رقى سحرية" يحاول خداعها لكنها رضيت بأن تُخدع.

تقدم "البيت والعالم" ثلاث شخصيات رئيسة تتكلم وتبوح لمستمع افتراضي وهو ما منح الرواية بعداً نفسياً جذب القراء إليها

تبني الرواية حدثها الغرامي تاريخياً على خلفية تقسيم البنغال عام 1905عندما بدأ البنغاليون المتعصبون باللجوء إلى القوة والقهر لإنشاء رابطة قومية في ما يسميها نيكيل ساخراً "بدعة الأمة" تجلّت في مقاطعة البضائع الإنكليزية بحركة وطنية سُمّيت بالسواديشي، وهي حركة عنفية ذات أهداف اقتصادية قصيرة المدى من دون وجود بدائل هندية مناسبة.
أما حرية بيمالا النسوية زوجة نيكيهليش، فهي حرية خاصة لا تتمتع بها النساء في الهند ولا تصيب الأختين الأرملتين في البيت، فبيمالا تتجاوز حرمات الحرملك، إلى لقاء سانديب في غرفة الضيوف وسط امتعاض سلفتيها الأرملتين، اللتين تغمزان منها إلى حد الاتهام الجنسي، لكن الرواية حفزت شخصيات ونخباً هندية على الاقتداء بها. وتجد الأوساط المحافظة أن الحرية التي تمتعت بها بيمالا كانت مدخلاً إلى الخيانة الزوجية المعنوية.

في "البيت والعالم" شخصيات من الطبقة الفقيرة، والطبقة مفهوم هندي يتجاوز الاقتصادي والاجتماعي إلى الديني والأصل، إذ تتفضل الرواية بإطلالة على عالم الفقراء من حيث حاجات عوالم الطبقة الغنية اليها، فحارس المال قاسم ليس أكثر من حارس يؤدي واجبه، وأموليا الخادم الذي كلفته بيمالا ييع مجوهراتها لتعويض سرقتها لستة آلاف روبية من خزنة زوجها يموت في سبيل المهمة. وكان المبلغ مطلباً من مطالب "العشيق" سانديب "الوطنية". تأخر فعل السرقة الذي قامت به بيمالا من خزنة زوجها لمصلحة صديقها على أنّه سرقة من أجل الأمة واقتصادها إلى الفصول الأخيرة منح الرواية بعداً بوليسياً شائقاً ومتأخراً، ورفع من درجة الصراع فيها، لكن الرواية تؤرخ للمزاج الاجتماعي والتاريخي في البنغال وعموم الهند بعفوية سردية ودرامية آسرة.

عام 1905 بدأ البنغاليون المتعصّبون باللجوء للقوة والقهر لإنشاء رابطة قومية فيما يسميها نيكيل ساخراً "بدعة الأمة"

كانت الرواية قد تُرجمت إلى العربية، من خلال أستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة الدكتور شكري محمد عياد، وصدرت ضمن منشورات المشروع القومي للترجمة عام 2000 تحت عنوان "في عالم طاغور"، ومنها نقتبس الإشارات الآتية:
"النّهِم المُحبّ لسمكته مطبوخةً لا يتأذى من تقطيعها لحاجته، أمّا  الذي يحب السمكة، فيريد أن يستمتع بها في الماء ، وإذا استحال عليه ذلك، فإنّه ينتظر على الشاطىء، وإذا عاد إلى بيته دون أن يقع نظره عليها فإنّه يتغذى بمعرفة أنّ السمكة بخير. الكسب الكامل هو أفضل شئ. ولكن إذا استحال ذلك فإنّ أفضل شئ بعده هو الخسارة الكاملة
*
كأنما حبه لي يفيض فوق حدودي بفيض سخائه وعطائه. ولكنّ حاجتي كانت إلى العطاء أكثر من الأخذ، فالحب صعلوك شرير يفتح أزهاره في تراب الطريق أحسن مما يفتحها في أصص البلّور التي توضع في حُجر الجلوس
*
كل شيء يركض ويتموج في قيض آب. شط الأرز له أطراف طفل رضيع، والماء قد غزا الحديقة المجاورة لمنزلنا، ونور الصباح يهرق على الأرض كأنه حب السماء الزرقاء، فلماذا لا أقدر أن أغني؟ ماء النهر البعيد يرعش الضوء، وأوراق الأشجار تتلألأ، وحقول الأرز تنتابها رعدات فيندلع منها لمعان الذهب، وفي سيمفونية الخريف هذه لا يبقى صامتا إلا أنا. إنّ إشراق العالم يصيب قلبي، ولكنه لا ينعكس منه
*
وهكذا تأتي المأساة في الحياة من تلقاء نفسها. في أول الأمر ترقد كالشئ الصغير في قبو مظلم، وفي آخر الأمر تهدم البناء كله. إنّ المأساة الحقيقية هي أن الانسان لايعرف نفسه على حقيقتها.
إنّ الحياة غير محدودة.. إنها حزمة من المتناقضات. ونحن البشر نجاهد بأفكارنا لنعطيها شكلاً معيناً بأن نصهرها في قالب معين، هو قالب النجاح المحدود. فكل غزاة العالم من الإسكندر إلى أصحاب الملايين الأمريكيين يطبعون من أنفسهم سيفاً، أو داراً لسك النقود، وبذلك يجدون تلك الصورة الواضحة من أنفسهم، التي هي مصدر نجاحهم.

"السواديشي" كانت حركة هندية عنفية ذات أهداف اقتصادية قصيرة المدى من دون وجود بدائل مناسبة

مرة أخرى هذه النظرة القاتمة التي لا أستطيع الخلاص منها! لماذا هي بالوعة ولماذا هي عكرة ؟ إنّ أسماء تقال فى نوبة غيرة لن تغير حقائق العالم. إن لم تكن هي لي فليست لي، ولن يثبت الغضب والغيظ والجدل أنها لي. وإن كان قلبي ينصدع فلينصدع! فلن يغدو العالم مفلساً بسبب ذلك، ولا أنا نفسي، فالإنسان أكبر كثيراً مما يفقده في هذه الحياة. حتى بحر الدموع له شاطئه الآخر، ولولا ذلك ما بكى إنسان.
إن اختباري لَعسير. فطالما اشتدّتْ حاجتي إلى مُعين ولم أجد غير نفسي. ولكنني آليت أن أنتصر حتى في هذا الاختبار. لأخطو وحيداً في طريقي الشائك الى حيث تنتهي رحلة هذه الحياة.
هل يجب أن يستمر هذا الى آخر أيامي؟ إنني أنتبه مرة بعد مرة وأنظر الى نفسي، وأفكر أنّ حياتي كابوس سيختفي فجأة بكل ما فيه من مجافاة للحقيقة. لقد أصبحت متناقضة تناقضاً مخيفاً، لا ارتباط لها بماضيها. أما ماذا تكون، وكيف صارت إلى هذا المأزق، فذلك ما لا أستطيع أن أفهمه.

الطبقة مفهوم هندي يتجاوز الاقتصادي والاجتماعي إلى الديني والأصل

إنها حق، ولهذا رأيتها وسأراها كثيراً حتى في أخطائي، حتى في أكثف غمامة من الدمع، لقد رأيتها وفقدتها في زحمة سوق الحياة، ووجدتها ثانية، وسأجدها مرة أخرى عندما أنجو خلال ثغرة الموت.
آه ياحبيبتي القاسية، لاتمضي في لعبك بي! إن كنتُ قد عجزت عن الاهتداء اليك بآثار خطاك على الطريق، وعبق جدائلك فى الهواء فلا تجعليني أبكي ذلك أبداً. النجمة المسافرة تأمرني ألا أخاف، فما هو أبدي لا بد أن يكون موجوداً دائماً.
*
وامتلأ قلبي بفكرة أنّ حبي الخالد ينتظرني صابراً خلال العصور، خلف حجاب الأشياء المادية، خلال حيوات كثيرة. في مرايا كثيرة رأيت صورتها، مرايا مكسورة، مرايا معوجة، مرايا مغبرة. وكلما حاولت أن أجعل المرآة مرآتي أنا، وأغلق عليها صندوقي، غابت الصورة عن ناظري. ولكن ماذا في ذلك ؟ ماذا أصنع بالمرآة، بل بالصورة نفسها؟
لخير لك أن تصرف الدنيا بالضحك من أن تغرقها بالدموع. هكذا - فى الحق - تسير الدنيا. فنحن لا نلتذ بطعامنا وراحتنا إلا لأننا نطرد الأحزان المنتشرة في كل مكان، في البيت وفي العالم الخارجي، كما لو كانت أشباحاً خاوية، ترى أين كانت تذهب شهيتنا ونومنا لو أننا نظرنا الى تلك الأحزان، ولو مرة واحدة، على أنها حقائق؟
ولكنني لا أستطيع أن أطرد نفسي كما لو كانت واحداً من تلك الأشباح. ولهذا يرقد حمل حزني ثقيلاً ثقل الأبد على قلب عالمي.

النّهِم المُحبّ لسمكته مطبوخةً لا يتأذى من تقطيعها لحاجته أمّا  الذي يحب السمكة فيريد أن يستمتع بها في الماء

لا شيء في الخليقة أغرب من إنسان وحيد. حتى ذلك الذي مات أحباؤه جميعاً واحداً بعد واحد ليس بوحيد، فالصحبة تأتيه من خلف ستار الموت. أما الذي تكون عشيرته معه ولكنهم لم يعودوا قريبين إليه، الذي انقطع عن كل ضروب الصحبة في البيت الكامل، فذلك يبدو عالم النجوم نفسه وكأنه يقشعر من النظر إليه في ظلامه.
أنا لا أوجد حيث أوجد. أنا نائية عن أولئك الذين يحيطون بي، أنا أعيش وأتحرك فوق هوة من الانفصال عرضها العالم كله، قلقة كنقطة الندى على ورقة اللوتس.
لماذا يتغير الناس تغيراً تاماً حين يتغيرون؟ عندما أنظر في قلبي أجد أنّ كل ما كان فيه لا يزال فيه، إلا إنه انقلب رأساً على عقب. الأشياء التي كانت مرتبة أصبحت ملقاة بعضها فوق بعض. الجواهر التي كانت منظومة في عقد أصبحت ترقد في التراب. ولهذا قلبي يتصدع.
أشعر أنّي أريد الموت، لكن في قلبي كل شئ مازال يحيا، وحتى في الموت لا يمكنني أن أرى النهاية، بل أخال أنّ في الموت مزيداً من الأسى. ما يجب إنهاؤه فلينته في هذه الدنيا، فليس غير هذا سبيل.
*
لقد وصلت إلى التمييز بين ما هو حقيقة فيَّ وما كنت أتوهم غفلة مني أنه فيّ، وسوى حساب الربح والخسارة وأصبح الباقي هو نفسي، لا نفساً كسيحة مكسوة بالخرق والمزق، ولا نفساً مريضة تغذى بطعام المرضى، بل روحاً خاضت أشد البلاء واستطاعت أن تعيش.
*
إنّ المنزل الذي خلا بافتراق الحبيبين تظل في قلب فراغه موسيقى. ولكن المنزل الذي خلا لأن القلبين انقسما يكون مخيفاً في صمته. حتى صرخة الألم لا مكان لها هناك.
إنّ القدر يترك حياتنا مشكّلة بصورة غير كاملة، لأنه يريد أن نضع بأنفسنا اللمسات الأخيرة، ونعطيها الشكل النهائي الذي نرغبه. ولقد كان في نفسي دائماً شوق إلى التعبير عن فكرة عظيمة خلال تشكيل حياتي على ما رسم الخالق. في هذا الجهد أنفقت أيامي جميعاً، ولا يعلم إلا المطّلع على القلوب بأي قسوة كبحت رغباتي، وقمعت نفسي في كل خطوة.
يجب ألا أفقد ايماني. سأنتظر. إنّ المعبر من العالم الضيق إلى العالم الأوسع مليء بالعواصف. وعندما تُألف هذه الحرية سأعلم أين مكاني، فاذا وجدت أني لا أُلائم نظام العالم الخارجى فلن أتعارك مع قدري! بل سأستأذن في الرحيل بصمت... أستخدم القوة ؟ ولكن من أجل ماذا ؟ هل يمكن للقوة أن تغلب الحقيقة؟"

عن "thewhatnews.net"

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية