أصدرت الكويت، مؤخراً، مجموعة من الطوابع البريدية التي حمَلت صورة الفنان الراحل عبدالحسين عبد الرضا؛ كنوعٍ من تكريمه والاحتفاء به، وهو ما دَفَع المتلقي لتأمّل الظاهرة الفنية التي مثّلها على مدار أعوام.
اقرأ أيضاً: رحيل المسرحي اللبناني زياد أبو عبسي... وهذا إرثه الفنّي
التكريم لم يكن الأول؛ إذ يُحسب للكويت تدشينها مسرحاً يحمل اسم الراحل، قبل أعوام من وفاته؛ تقديراً لمسيرته الفنية الحافلة، لكن عبد الرضا ظاهرة تستحق التوقف؛ إذ شكّل على مدار أعوام عمله في الفن موقفاً سياسياً واضحاً تماهى في مرات كثيرة، إن لم يكن في جلّ المرات، مع مواقف النظام.
ولعل غزو الكويت كان الفيصل في حياة عبد الحسين، الذي انقلب بين عشيّة وضحاها من قومي عربي، متعصّب في مرات كثيرة، إلى متحامل على الأوطان العربية التي تركت بلاده في مهبّ الغزو.
لربما، لم يهجس فنان بالقومية العربية طوال أدائه مسرحياته ومسلسلاته وأوبريتاته، بقدر عبدالرضا، فكانت "باي باي لندن" و"باي باي عرب" و"بساط الفقر" وغيرها، حتى جاء الغزو العراقي فانقلب الآنف كله إلى خطاب عنصري في معظم المرات.
الانعطافة لدى عبد الرضا
كان "العافور" أحد الأعمال الأخيرة التي قدمها عبد الرضا لجمهوره العربي عامة والخليجي خاصة، بيد أنّه لم يملك مداراة خطابه العنصري الذي بات يجاهر به كنوع من الصدمة التي أحدثها الغزو، والتي استمرت معه حتى وفاته.
غزو الكويت كان الفيصل في حياة عبدالرضا إذ انقلب من قومي عربي إلى متحامل على الأوطان العربية
يقول عبد الرضا في أحد المقاطع التي تضمّنها "العافور" إن "ما حد عفس الديرة ووسّخ الديرة مثل الوافدين"، ليسهب في شروحاته عنهم وعن مشاكلهم التي يفتعلون بين سفارات بلادهم وبين الكويت، داعياً لتجنيس فئة البدون التي كانت أكثر إخلاصاً وتحديداً إبّان الغزو، والاستعاضة بهم عن الوافدين.
"العافور"، لم يكن الأول في تقديم خطاب من هذا القبيل؛ إذ سبقته مسرحية "سيف العرب"، التي تعرّض على إثرها لمحاولة اغتيال، والتي قدّم فيها خطاباً تهكمياً لاذعاً على كل من آزراحتلال الكويت، ليسرف عقب هذا في مسلسلاته في تسخير الشخصية القادمة من بلاد الشام عموماً لدور المستغلّ والجشع وصاحب الأطماع و"الخفيف" أخلاقياً وما إلى ذلك من تناول سطحي يكرّس من الصورة النمطية المرسومة عن الشخصية الشامية في المسلسلات الخليجية.
حتى لا يقسو المتأمل على عبد الرضا، فإنه من الحريّ تذكّر حجم الألم الذي أحدثه وقوف بعض الدول العربية مع خطوة الاحتلال في 1990- 1991، وتحديداً لدى شخصية شهيرة مثل عبد الرضا، الذي رفض مغادرة الكويت آنذاك معرّضاً حياته للخطر، وليكون على رأس من رحّبوا بطلائع القوات الأمريكية المحرّرة، فكان أن قدّم، بعد أعوام من انتقاده أمريكا واستعانة العرب بها، أغنية ترحيبية بالرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش.
ما سبق، أحدث انعطافة حادة لدى الفنان، الذي وسمت القومية مسرحياته، والتي كان يحرص خلالها على تواجد طيف عربي واسع من حيث الشخصيات والقضايا المتناوَلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، التي كان لها نصيب في جلّ أعماله، بيد أنّ وقوف القيادة الفلسطينية مع العراقية آنذاك أحدث ما يشبه الصدمة التي ترجمها عبد الرضا من خلال مقاطع تهكمية على اللهجة الفلسطينية، بالإضافة لتجاهل تام للتناول السياسي لإرهاصات القضية والتردّي العربي حيالها.
الفنان الشامل
هذه الانعطافة، لا يمكن بمكان أن تغمط الفنان الكويتي القدير حقه؛ إذ أسّس لظاهرة فنية قلّما تتكرّر عربياً، على صعيد سعة الاطلاع والثقافة الواسعة والقومية العربية وخفة الظل غير المفتعَلة والانحياز التام للجمهور ومطالبهم وقضاياهم، عدا عن كونه قدّم أنموذجاً للفنان الشامل الذي يغني ويرقص ويمثل ويؤدي صوتياً ويشارك وطنياً وليس فنياً فحسب.
اقرأ أيضاً: "الفنّ لا يغني من جوع" ... هكذا شوّهوا أطفالنا
ولعل مشهد عبد الرضا ومواطنته الممثلة سعاد العبد الله وهما يتراقصان بفنية عالية في أوبريت "بساط الفقر" في نهاية السبعينيات، يجعل من السؤال التالي يتقافز: ترى، أين توارى هذا الإبداع كله؟ ليس لدى عبد الرضا فقط، بل في الفن الكويتي عموماً، بعد أن كان يزاحم الفن المصري في فتراته الذهبية وبعد أن استفاد من المواهب المصرية التي أتت ودرّبت أجيالاً من الكويتين، وعلى رأسهم المسرحي الشهير زكي طليمات، الذي بالوسع قول إنّه مؤسس المسرح في الكويت.
ليس "بساط الفقر" وحده ما يجعل السؤال ملحّاً، بل وأعمال عدة ما تزال تحتفظ بجماهيريتها العالية كلما تجدد عرضها على القنوات الفضائية حتى اليوم، كـ "درس خصوصي" و"خالتي قماشة" و"على الدنيا السلام" و"درب الزلق" و"لولاكي" "وباي باي لندن" و"سليمان الطيب" و"فرسان المناخ" وغيرها من أعمال فنية قطعت شوطاً طويلاً من حيث السوية الفنية وسقف الحرية المرتفع.
الفن الكويتي مؤخراً
حالياً، ثمة زخم مادي ظاهر في جل الأعمال الكويتية المقدمة، بيد أنّ أفول نجم الفن الكويتي لا يحتاج كثيراً من التدقيق حتى يُلاحَظ، وهو ما قد يكون نتيجة لعوامل عدة تغيرت في الكويت ذاتها، وتحديداً بعد الغزو؛ إذ تراجعت التعددية وتقلّصت أعداد المغتربين العرب كما تضخّمت الأصوات المنادية بالانتقام حتى باتت تسم معظم المنابر الإعلامية الكويتية التي فتحت أذرعها عقوداً طويلة للعرب، فأغنت واغتنت بكثير من المواهب والقدرات غير المسبوقة.
تألم عبدالرضا على ما حدث لبلاده ورفض مغادرة الكويت معرّضاً حياته للخطر
بالإضافة للسابق، فإنّ التشوّهات التي حدثت في المجتمعات العربية عموماً، جعلت المادة التي تقتات عليها الأعمال الفنية "مضروبة"؛ إذ بات المسلسل أو الأوبريت أو المسرحية مرآة لحجم الخراب الذي أصاب المجتمع، وبالتالي انحدرت السوية الفنية لانحدار الواقع أصلاً، وهو ما لا يتحمل وزره العمل الفني؛ إذ لو بقي مخلصاً لتلك الصورة المنفتحة المشرقة لاتُهِم بعيشه في عالم وردي لا يمتّ للواقع بصلة.
التشوه الآنف، ظهر جلياً في أعمال كويتية كثيرة ما عادت أدواتها الفنية تزيد عن الإسراف في وضع طبقات مكياج كثيفة وتسريحات غرائبية، عدا عن التنافس الجليّ بين ديكورات بيوت الكويتين في الأعمال الفنية والسيارات الفارهة، وليتخلّل السابق كله مشاهد عنف مفرطة في دمويتها وحالات تعاطي مخدرات وممنوعات تشرح الواقعة بالتفصيل.
كل ما سبق، جاء على حساب التناول الاجتماعي السلس الرائق الذي لا يخلو من لمسة كوميدية وعفوية بالغة، والذي اشتهرت به الأعمال الكويتية في عصرها الذهبي، بل إنها كانت في استعراضها جنسيات عربية وأعراق عدة تنظر بعين الامتنان، وإن كان القالب كوميدياً، بعكس ما يحدث الآن من تنميط للآخر وتكريس لصورته السلبية.
برحيل عبد الرضا، فقدت الساحة الفنية العربية ظاهرة نجم قلّما يتكرر، بنجاحاته وجدلياته وحتى حالة القومية العربية التي لم تعاني النكوص لديه فحسب، بل ولدى كثر ممّن نادوا بها سياسياً وإبداعياً.