ظاهرة الغيرة على المعتقدات الدينية.. كيف تهدد السلم المجتمعي؟

ظاهرة الغيرة على المعتقدات الدينية.. كيف تهدد السلم المجتمعي؟


27/10/2020

قبل 17 عاماً، وبعد الخروج من تجربة مرافقة الأخوات المسلمات في مصر دون انضمام فعلي  للتنظيم، شرعتُ مثل غيري ممّن نجا فكرياً من الاستقطاب في الجماعات الدينية إلى البحث عن أطر للمراجعات الفكرية، ومن بينها البحث عن مناطق أكثر رحابة في التعايش السلمي مع الاختلاف، ممّا تطلب الابتعاد عن تنظيمات مؤدلجة دينياً.

لكنّ التعايش مع الاختلاف العقائدي والحريات الفردية للآخرين وحرية النقد الديني، كانت أموراً  لها ضوابط في تصوراتي حينها، ولا بدّ من تقويم المجتمع  لمن يخالفها، والأمر لم يتعدّ ذلك.

 اختلاف درجة التطرّف وليس نوعيته

ما تراءى لي أنّه انتصار شخصي على الجماعات الدينية المنظمة، وجنوح إلى الاعتدال، لم يكن سوى التحرر من تطرّف  أعلى  في الدرجة، وتبنّي درجة أقلّ، وليس التخلص من نوعيته تماماً، وهو اكتشاف مؤلم نفسياً ولا يحدث بين ليلة وضحاها.

 

أبو زيد: الخلاف بين الاعتدال والتطرّف في بنية الخطاب الديني ليس خلافاً في النوع بل في الدرجة

فإنّ رفض بعضنا لأفكار سحق المسلم الذي لا يطبق الشريعة، حسب ما جاء في كتاب القيادي الإخواني محمد قطب (1919-2014) "هل نحن مسلمون؟"، لا يعني تقبل حقوق الآخرين، حيث إنّ  التحرر من التعصب قد لا يكون مكتملاً، بل قد يولد مبتسراً. 

وهنا كانت الأزمة، هذه الحالة لم تكن الاستثناء، بل كانت ظاهرة عامة مجتمعية، يرفض فيها المجتمع ممارسات راديكالية لكن يحملها ضمنياً لتتجلى في مواقف أخرى، وهي ظاهرة عابرة للطبقة المجتمعية؛ أي نجدها بين الفقراء والميسورين وبين المتعلمين وغيرهم.   

 ربما عبّر د. نصر حامد أبو زيد في كتابه نقد الخطاب الديني في العام 1993 عن حالة الاختلاف بين نوع التطرف ودرجته بشيء من التفصيل حين قال:

"الخلاف بين الاعتدال والتطرّف في بنية الخطاب الديني ليس خلافاً في النوع، بل هو خلاف في الدرجة، فكلٌّ من الخطابين يعتمد التكفير وسيلة لنفي الخصم فكرياً عند المعتدلين، ولتصفيته جسدياً عند المتطرّفين".

 هل تروّج الجماعات للتطرّف، أم تستفيد من وجوده؟    

ليس المقصود شخصنة قضية الدوغما الدينية، لكنّ تجارب المراجعات الشخصية قد تفيد في إطار البحث الأكاديمي، بل إنّ الأبحاث الأكاديمية قد تلجأ إلى السعي إلى تفنيد وتفكيك متلازمة التعصب الديني الفردية غير المنتمية لجماعة دينية، وليس مجرّد اختزال ظاهرة التطرف في الانضمام إلى الجماعات الراديكالية، بدون التقليل من خطورة تلك الجماعات بكلّ تأكيد.

فالنجاة من الجماعات الراديكالية لا يعني بالضرورة التحرر من التعصب، القضية فكرية وليست تنظيمية فحسب، وهناك من يختلف مع الجماعات تنظيمياً،  لكن يحمل إيديولوجيتها الفكرية.

 

النجاة من الجماعات الراديكالية لا يعني بالضرورة التحرر من التعصب

فهل تلك الجماعات مسؤولة عن نشر التطرف الديني! أم تستفيد من التطرف الديني المتجذر مجتمعياً بفعل الموروثات الممنوع مراجعتها، فتقوم تلك الجماعات بإعادة  تدوير التعصب الكامن والاستفادة من الدوغما الشعبية، وتضعه  في إطار تنظيمي يخدمها؟

 ربما تحتمل النظريتان الصحة، فنصبح أمام دائرة مفرغة من التطرف الديني بسبب رفض النقد، أو رفض مقارعة النقد بالنقد، حتى وإن كان لاذعاً، ليحلّ محله مباركة إهدار الدم أو السجن بتهمة ازدراء الأديان  لمن يخرج عن الجموع.

تدوير ظاهرة التطرّف الديني

وبالتالي، فإنّ البحث عن مذهبية الدوغما الدينيةDoctrine  لا يتمّ بعيداً عن دراسة تأثير الموروث الديني، واللجوء إلى فتح مجال الحديث والاجتهاد دون التلويح بالعقاب الدنيوي أو الإلهي، ممّا قد يسهم في سحب البساط من تحت أقدام الجماعات الراديكالية على المدى البعيد، والذي قد يظهر أثره في أجيال قادمة، بدلاً من اللجوء إلى مزاحمتها على امتلاك التقية الدينية من أجل مكتسبات سياسية قريبة، ممّا يعيد تدوير ظاهرة التطرف الديني في سياقات أخرى.  

الإرهاب المسالم والتكفير السلمي

الدوغما الدينية متفاوتة في درجاتها، هي بمثابة درجات فوق بعضها البعض، فنجد فيها درجة  الإرهاب المسلح ودرجة أخرى قد نسمّيها الإرهاب المسالم؛ أي قد نجد شخصيات مسالمة لا تحمل السلاح في وجه غيرها، إلا أنّها في بعض الحالات قد تبارك الفعل المُسلح الذي يدّعي فاعله أنه ارتكبه بحجّة الغيرة على دينه.

وهناك ظاهرة أخرى نجد فيها أناساً يفضّلون سجن لا قتل من يتفوّه بشيء ضد عقيدتهم   وتصوراتهم عن العقيدة، ويرون في ذلك قدراً من التسامح، وهو ما يُمكن وصفه ضمنياً بظاهرة التكفير السلمي، على الرغم من أنّ التكفير والسلم أمران متناقضان تماماً. 

 

القاسم المشترك في حالات الدوغما الدينية ترغيب المؤمن أو المؤمنة بإبداء الغيرة على دينهم

أسباب الدوغما الدينية متعددة، وعلى الرغم من اختلاف أسبابها الاجتماعية والاقتصادية، إلا أنّ القاسم المشترك في حالات الدوغما الدينية، هو ترغيب المؤمن أو المؤمنة في إبداء الغيرة على دينهم، ولا تعني العبارة السابقة أن يلتزم المؤمنون بما يقرّبهم إلى الله، حسب وجهة نظرهم، فكل شخص له الحق في معتقده وشعائره، وإنما تعني الغيرة على الدين في نظرهم عن طريق تقويم المجتمع الذي يصل إلى حدّ التنكيل بأفراده، أو أضعف الإيمان هو عدم إدانة ممارسات إرهابية واللجوء إلى إلقاء اللوم على الضحية التي توصف إمّا بالهرطقة وإمّا بالمجون.  

الدوغما الدينية والمعصومية من الخطأ  

الدوغما الدينية هي حالة التشدد للمعتقد الديني الذي يصل إلى حدّ المعصومية من الخطأ، فيرى المتشدد أنّ أي فعل عنف يُنزله ضدّ المختلفين عن عقيدته أو المنتقدين لها، أو المنتمين لعقيدته   لكن لا يطبّقون طقوسها حسب رؤيته، هو فعل مبارك إلهياً، سواء أكان في موطن ولادته أم في موطن هاجر إليه.

اقرأ أيضاً: أسلمة الراديكالية: هل نجحت القراءة السائدة للعنف الجهادي؟

لطالما اتُهمت الحكومات الشمولية في الوطن العربي بالتسبب في صناعة الإرهاب المسلح   بسبب ممارستها في تعذيب المسجونين، وبالطبع فإنّ التعذيب مرفوض ولا يمكن تبريره، لكن ما ينقص هذه النظرية هو التساؤل: لماذا لم تنتهج جماعات يسارية أو علمانية أو ليبرالية التوجّه  أعمالاً مسلحة، على الرغم من تعرّضها للتنكيل ذاته؟ بل لماذا يتعرّضون للتكفير على يد الجماعات الإسلامية التي تشكو من التعذيب؟ لهذا فإنّ ثورة الراديكالي ليست إمعاناً في الحريات، وإنما رغبة في التمكين بهدف ممارسة استبداده على الجموع تحت لواء التقية الدينية.   

الدوغما الدينية المهاجرة: داعش فكرة وليس مجرّد تنظيم

 أمّا التساؤل الثاني، فهو: لماذا ظلّ العنف خياراً للمؤمن الراديكالي الذي نجا من شمولية حكومة بلاده وهاجر إلى بلدان تعزّز حرية الفكر والمعتقد والنقد، بل سعى إلى تمكين دينه في بلد المهجر بدلاً من الاندماج الذي لم يمنعه من ممارسة شعائره طالما لا تتضمن شعائره التنكيل بالآخر؟ خاصة في حقّ نساء أسرته، فهناك قوانين عنف منزلي واضحة في كثير من بلاد المهجر. فالحقوق المدنية لا  تتراجع أمام المعتقد الخاص.   

 

ظاهرة الدوغما الدينية المهاجرة ترتحل مع صاحبها ولا يتركها في محل نشأتها

  هكذا قد يرتحل الفرد المنفذ للفعل الإرهابي المحتمل من موطن إلى آخر، ومن ظروف اقتصادية واجتماعية إلى أخرى، لكنه يظلّ يحمل معه جذور الفكرة التي تمّ حشوها في رأسه، أينما ذهب.

 وهذا هو ما يجب أن يكون محلّ دراسة، وقد نسمّيها ظاهرة الدوغما الدينية المهاجرة، فهي ترتحل مع صاحبها، ولا يتركها في محل نشأتها، ممّا يوحي أنها فكرية، وليست فقط لأسباب اقتصادية أو تهميشية، فكثير من أعتى المتطرفين في العالم قدموا من عائلات ميسورة، ونالوا قسطاً وافراً من التعليم وصل حدّ نيل شهادة الدكتوراه.

ولعل من أكثر المغالطات الشائعة في دراسات التعصب الديني، هو اعتبار التعصب جهلاً؛ لأنّ التعصب والجهل أمران مختلفان؛ فالمتعصب قد يكون قارئاً ومتبحراً في الموروثات، بينما قد يكون المتسامح جاهلاً بكثير من جوانبها.

المنطقة الشائكة: والدراسة التاريخية للنصوص والموروث

الغيرة على المعتقد الديني فكرة واسعة المدى، تبدأ من فرض الحجاب على الفتيات، سواء من الأسرة أو المدرسة أو الحي الذي تعيش فيه، وتصل إلى إقامة الحدود في حقّ من يراه المجتمع مذنباً، وتستند إلى ما جاء في صحيح مسلم: "المؤمن يغار والله أشد غيراً".

الغيرة على الدين تمنح الفرد مشاعر التحقق الذاتي، قد تكون نزعة سادية تعبّر عن مشاكل نفسية محتدمة في عقل الراديكالي، فالله تعالى، على اختلاف التصورات الدينية، لا يحتاج لمن يدافع عنه، فإذا كان البشر يدافعون عن الله، فلماذا يتضرّعون إليه ويدعونه ليستجيب لهم؟

اقرأ أيضاً: العرب وفخ التحول الراديكالي

ستظلّ المنطقة الشائكة هي دراسة النصوص والمرويات من المنظور التاريخي والاجتماعي، وليس فقط كنصوص مقدّسة جامدة، فلعل بعد أيّ حدث إرهابي تخرج علينا أصوات تسعى للتهدئة، فتروي لنا نماذج من التسامح في عصر النبوّة والمسلمين الأوائل، لكنّ الإشكالية هنا هي ردّ الراديكاليين بنصوص أخرى من المصدر ذاته تحثّ على القصاص، ممّا يدخلنا في منطقة التمييز بين ما هو مكّي ومدني، والاجتهاد هنا في إطار سيسيولوجي، وليس في إطار ديني فقط،  ورغم أنه شائك، إلا أنّه ضروري ولا يمكن تجاهله.

 

الجماهير التي تستنزف طاقتها في الغيرة على المعتقدات الدينية هي ذاتها التي لا تنتبه لحقوقها المدنية والآدمية

ما سبق قد يأخذنا إلى منطقة أخرى متوازية لا تنتظر التفسير الديني لما كان يحدث قبل 14 قرناً من الزمان، بل تتحرّك نحو التحرّر من القيود الزمانية، وتسعى إلى تعزيز الفكر النقدي  المعاصر منذ نعومة الأظافر، ومواجهة أزمة الدوغما الشعبية.

 وتلك الأزمة تتطلب مراجعة قوانين ازدراء الأديان، واتهامات هدم قيم المجتمع أو الانتماء لتنظيمات إلحادية، والتي قد تُنكل بالأقلام المواجهة للتطرف الديني.

طالما كان الفكر السائد هو معاقبة النقد والسخرية والاختلاف حفاظاً على السلم المجتمعي، لكنّ تضييق الخناق تحت تأثير ممارسة الغيرة على المعتقدات الدينية هو ما يتسبّب في العنف المجتمعي، ويهدّد سلمه وليس العكس؛ لأنه يضع الاختلاف في إطارات ضيقة، تراه بمنظور تأويلي لمن يحتكر صحيح الدين.

 وهو الأمر الذي يبعد الجماهير عن قضاياها الضرورية، فتلك الجماهير التي تستنزف طاقتها في أمور الغيرة على المعتقدات الدينية، هي الجماهير نفسها التي لا تنتبه لحقوقها المدنية والآدمية.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية