
جيرار ديب
نقلت وكالة بلومبيرغ عن رئيس الوزراء السويدي السابق كارل بيلت قوله إن انتصار روسيا في الصراع الأوكراني سيلعب دورًا مدمرًا في ما يتعلّق بـ”هيبة الولايات المتحدة وقوتها”. وشدّد بيلت على أن الفشل الجديد للدور الأميركي في دعم الجيش الأوكراني قد يصبح بمثابة “سايغونية” جديدة بالنسبة إلى واشنطن.
ويشار إلى أن “سايغون” عاصمة فيتنام الجنوبية، سقطت في نهاية حرب فيتنام على يد القوات الفيتنامية الشمالية وطردت التواجد الأميركي الذي استمرّ من عام 1964 إلى عام 1975. قبل ذلك، نفّذت الولايات المتحدة عملية “الرياح العاتية”، والتي تضمّنت إجلاء جميع الأفراد المدنيين والعسكريين الأميركيين تقريبًا من سايغون.
وتمثّل الـ”صورة السايغونية” لآخر طائرة أميركية تغادر العاصمة الفيتنامية والتي لم تزل راسخة في ذاكرة التاريخ، الانسحاب الحقيقي للولايات المتحدة بعد سنوات من الحرب في فيتنام. ولقد أوضحت تلك الصورة فشل المخطّط الأميركي يومها لمنطقة آسيا في محاربة المدّ الاشتراكي، فتمثلت الهزيمة بانسحاب الولايات المتحدة، إذ إنّ الأدبيات الهائلة التي تناولت الحرب ترتبط بشكلٍ مباشرٍ بالفشل الذريع الذي مُنيت به واشنطن في تحقيق الأهداف السياسية المنشودة من الحرب.
وكأن التاريخ سيعيد نفسه مع إدارة الرئيس الحالي جو بايدن حيث تخوض بلاده سلسلة من الحروب المباشرة المتمثلة بفرض العقوبات الاقتصادية على الدول الصاعدة، وحروب غير مباشرة أي بالوكالة من خلال مدّ دول على رأسها أوكرانيا وإسرائيل وتايوان بالسلاح لتحقيق مكاسب لها في مناطق الصراع. ولم يعد خافيًا أن الولايات المتحدة تعمل جاهدةً على إعادة هيكلة النظام القائم بما يتناسب مع الاحتفاظ بقوتها في الريادة والقيادة الدولية. وما لم يعد خافيًا أيضًا، هو الدور الحالي للدول الصاعدة التي تحتاج هي أيضًا إلى خلط أوراق هذا النظام، بما يحقّق لها حضورًا فيه.
ولا يتوانى الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جينبينغ بالحديث عن ضرورة قيام النظام الجديد، وهذا لن يتحقق إلا مع انسحاب الدور الأميركي إلى حدود عدم التدخل بشؤون الدول، هذا ما فرضته واشنطن على العالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي بداية مطلع التسعينات من القرن الماضي؛ إذ قادت الولايات المتحدة النظام العالمي بأحادية مطلقة متذرعة بسياسة “العصا والجزرة”، إذ بين الترهيب والترغيب كانت مصالح واشنطن تتقدّم على مصالح سائر الدول.
ودخل العالم حقبة الفوضى بعد استمرارية الحرب في أوكرانيا وانسداد أفق السلام في الشرق الأوسط، وإصرار مجموعة بريكس على كسر الهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمي. وجميع هذه الأمور تنذر بتراجع النفوذ الأميركي في العالم، وما زاد الأمور تعقيدًا هي نتائج الانتخابات البرلمانية في الاتحاد الأوروبي، الشريك الرئيسي لواشنطن في قضايا دولية عديدة.
ويتّفق المراقبون على أن صعود اليمين المتطرف في أوروبا لم يأت صدفة أو شكّل مفاجأة بل كان أمرًا متوقعًا لأنه صعود مستمرّ منذ سنوات عديدة بلغت أكثر من 30 عامًا، وهو صعود متراكم جيلًا وراء جيل حتى وصل إلى حصوله على 40 في المئة من أصوات الناخبين في فرنسا تحديدًا، وهو ما دفع بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى إصدار قرار بحلّ البرلمان.
هذا القرار وجّه لطمةً قويةً لليبرالية الغربية التقليدية، خصوصًا في ما يتعلّق في إدارته للقضايا الدولية. فإن هذا الصعود زاد من التأثير على المستوى الداخلي من خلال تنامي الشعور الوطني والقومي لدى الشعوب الأوروبية ورغبتها في التحرّر من الهيمنة الأميركية، وهو صعود قد يؤدي مستقبلًا إلى انهيار حلف الناتو نفسه وهو ما ينعكس إيجابًا على قضايا مثل أوكرانيا وفلسطين وتايوان.
وحمل صعود اليمين تخوفًا عند إدارة بايدن، لاسيما من تراجع في مواقف الدول الأوروبية الداعمة لواشنطن في ما يخصّ سياساتها في أوكرانيا وفلسطين. وبالنسبة إلى أوكرانيا، حيث تعتبر فرنسا رأس حربة في دعم كييف ومحاربة موسكو، بهدف عدم السماح لبوتين بتحقيق النصر هناك، بات من المتوقع أن تنخفض حدة هذا الدعم إذ في إحدى المقابلات التي أجرتها زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان لصحيفة “لوجورنال دي ديمنش” ونُشر سابقًا، عبّرت عن مواقفها الإيجابية تجاه روسيا ورئيسها بوتين.
أما بالنسبة إلى فلسطين فإن اليمين المتطرف لطالما كان إلى جانب القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة، ليس إيمانًا بالقضية بل من أجل معالجة أزمة المهاجرين، حيث بات الجميع على يقين أن تأجيج الصراعات يولد حتمًا موجات هجرات. لذا ففي حال استلام السلطة من قبل اليمين في فرنسا، فهذا سيعزّز انضمام باريس إلى مجموعة الدول الأوروبية في الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ما يضع اللاعب الأميركي أمام مأزق الدعم المستمر لإسرائيل في حربها في المنطقة.
ولا تكمن خطورة اليمين الصاعد في أوروبا على التحالف الروسي الصيني، بل إن تمعّن القارئ في الشعارات التي يرفعها تجعله يجد أنّها تؤدي إلى انسحاب سياسة الولايات المتحدة من الساحة الدولية. فاليمين ذو الفكر القومي يسعى إلى تحقيق أهداف تتعلّق بإعلاء المصالح الأوروبية على حساب الشراكة مع الولايات المتحدة، وهذا ما يثير مخاوف أميركية من تأثير هذا الصعود على القضايا الدولية القائمة، والتي تعتبرها واشنطن وجودية وحيوية بالنسبة إلى سياساتها الخارجية.
لا يمكن لواشنطن أن تغمض عينيها عن فوز اليمين المتطرف لأنّ ذلك قد ينعكس سلبًا على هيبتها في العالم، من خلال التأثير على تراجع دورها ونفوذها في الأحداث العالمية. فالانتخابات التي أدّت إلى صعود اليمين في أوروبا، قد تعيد “الصورة السايغونية” أمام واشنطن في أكثر من ساحة دولية لاسيما كييف، الأمر الذي قد يعزّز من إحداث تغيير جدي للنظام القائم مع فلول الهيمنة الأميركية على القضايا الدولية.
عن "العرب" اللندنية