كمال بالهادي
في العلاقات الدولية، ليس هناك عدو دائم أو صديق دائم، والدبلوماسية هي فنّ إدارة العلاقات بين الدول بالشكل الذي يمنح هذه الدولة أو تلك مقعداً مهماً في اللعبة الدولية. يبدو أن القاهرة ومنذ تسلم الرئيس عبد الفتاح السيسي للسلطة في البلاد، قد نجحت إلى حد بعيد في فرض نفسها قوّة إقليمية ودولية في ملفات المنطقة، بحيث لا أحد يمكنه فتح ملفّ دون أن يكون للقاهرة ذلك الدّور الذي يقضّ مضاجع أعدائها.
الزيارة الأخيرة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى باريس، تأتي ضمن هذا السياق الذي يفرض تحوّلات عميقة في علاقات الدول في الفضاء المتوسطي. مصر وفرنسا تلتقيان في كثير من النقاط المشتركة في عدد من الملفات الساخنة وعلى رأسها الملف الليبي.
والحقيقة أنّ الالتقاء بين فرنسا ومصر، لم يبدأ الآن، بل إنه يتطور منذ سنوات قليلة بشكل واضح خاصة بعد تزويد فرنسا الجيش المصري بمقاتلات متطورة من فئة «رافال»، كما تسلمت مصر حاملة الطائرات «ميسترال»، التي مثلت تعزيزاً للقوات البحرية المصرية، وذلك رغم تحفظات إسرائيل على الصفقات التي وقعتها القاهرة وباريس، وحسم ماكرون مسألة التعاون العسكري مع القاهرة، بالقول«إن مبيعات الأسلحة الفرنسية لمصر في المستقبل لن تكون مشروطة بتحسين حقوق الإنسان هناك». من جانب آخر تلعب الشركات الفرنسية دورا فاعلا في تشييد العاصمة الإدارية الجديدة في مصر، والتي ستكون مدينة ذكيّة بالكامل، اعتمادا على تكنولوجيا فرنسية متقدّمة جدا في مجال الربط الشبكي و التصرف في الموارد، داخل هذه المدينة الفريدة من نوعها، والتي تفوق في حجمها سنغافورة و هي أكبر من العاصمة الأمريكية واشنطن. وهذا المشروع يغيظ فعلاً أعداء مصر.
وما يثير غيظ المحور الإخواني أيضاً، هو تطابق المواقف بين مصر وفرنسا، واليونان في ما يتعلق بالقضايا الاستراتيجية في شرق المتوسط، خاصة مسألة ترسيم الحدود بين تركيا وليبيا، وكذلك مسألة الثروات الطاقية الكبرى التي تثير تنافساً بين تركيا ومصر، الأمر الذي يؤكّد وجود حرب باردة بينهما. وطبعا تقف فرنسا في الجانب المصري الذي ترى فيه موقفاً عقلانياً، يؤسس لشراكات قوية في الفضاء المتوسطي، بعيداً عن سياسات الهيمنة التي تريد أنقرة فرضها على الجميع.
ويبدو أنّ التنسيق الأهمّ والذي يغيظ محور الإخوان بقيادة كل من تركيا وقطر، يتعلق بالتنسيق في الموضوع الليبي. فالرؤية المصرية والفرنسية متطابقتان، في ما يخصّ الدور التركي الذي يؤجج الصراع والذي يؤسس لبؤر إرهابية في ليبيا سيمتد أثرها للدول المجاورة. ولا يتوانى الرئيس الفرنسي في دعم وجهة النظر المصرية في حل الصراع الليبي، والقائم على أساس طرد القوات الأجنبية والمرتزقة، وبدء حوار سياسي بين الليبيين أنفسهم. وقد اتّهم الرئيس الفرنسي ماكرون في أكثر من مرة تركيا بأنها تزعزع استقرار ليبيا والمنطقة، وأكد في لقائه بالرئيس المصري، أنه «تم التطرق إلى الأزمة في ليبيا وشرق المتوسط»، موضحا «هدفنا التوصل إلى حل سياسي دائم في ليبيا والحل هناك مهدد من قبل قوى دولية»، كما أوضح «نرفض العبث بالأمن في منطقة شرق المتوسط». وهذه الإشارات تمثل إدانة واضحة للمحور الإخواني الذي تقوده تركيا، والذي يسعى في كل مرّة إلى إفشال اللقاءات الليبية- الليبية، حتّى يظل هذا الطرف مسيطراً على الوضع الداخلي خاصة في العاصمة طرابلس.
من الطبيعي أن تكيل هذه الأطراف ما شاءت من الإدعاءات لمصر، ولكن في كلّ حال تبقى مصر دولة مدنية بقيادة جيش وطني ملتزم ببناء دولته، بناء حديثاً وعصرياً. وأمّا الديمقراطيات التي تدعمها أنقرة وقطر، فإنّها في أفضل الأحول لم تنتج سوى دول ضعيفة مفككة تتدهور سريعا نحو التخلف الشامل، ونحو التفكك الذي يستغله المحور الإخواني بخبث شيطاني لا مثيل له.
عن "الخليج" الإماراتية