يسعى المؤتمر السنوي لمؤسسة الفكر العربي (فكر 16) الذي يرفع هذا العام شعار "الفوضى وتحديات صناعة الاستقرار" إلى إشراك عدد كبير من الساسة والدبلوماسيين والمفكرين والأدباء، في صياغة ملامح المستقبل، واستشراف حلول للأزمات العاصفة في العالم.
ويُشكل المؤتمر منصة تجمع مسؤولين رفيعي المستوى وقيادات فاعلة من القطاعين؛ العام والخاص ومفكرين وصناع قرار وممثلين عن منظمات المجتمع المدني ونخبة من كبار رجال الثقافة والفكر والإعلام والخبراء والشباب.
ويشمل برنامج المؤتمر أربع جلسات عامة تتناول (دور القوى الدولية) و(دور المنظمات الإقليمية والدولية) و(سبل صناعة الاستقرار) و(أنشطة البحث العلمي والتطور التكنولوجي والابتكار في الدول العربية).
الشيخ محمد بن راشد: التغيير يحتاج منا توحيد كافة الجهود، كل في مجاله، بما يخدم مستقبل أمتنا
كما تنعقد سبع جلسات متخصصة متزامنة تتناول (الفقر والتفاوت والبطالة) و(التطرف والإرهاب) و(الإعلام) و(الميديا الجديدة ووسائل التواصل الاجتماعي) و(التربية والتعليم والثقافة).
ولدى حضوره انطلاق أعمال المؤتمر أمس في دبي، أكد الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، أنّ التغيير يحتاج منا توحيد كافة الجهود، كل في مجاله، بما يخدم مستقبل أمتنا ويعمل على تحقيق استقرار وازدهار مستدامين.
وقال: "سعدت برفقة الأخ والصديق الأمير خالد الفيصل بحضور جانب من مؤتمر الفكر العربي" مضيفاً إن: "المؤتمر يناقش صناعة الاستقرار.. والاستقرار صناعة وجهد وعمل مستمر وتنمية دائمة وتطور لا يتوقف.. الاستقرار هو حركة دائمة لصنع الحياة.. وهو بحث مستمر عن مستقبل أفضل لمجتمعاتنا".
وأعرب بن راشد عن سعادته بهذا الجمع الكبير من المفكرين والقادة. وقال "رسالتنا لهم توظيف علمهم ومعارفهم وجهودهم في تنمية مجتمعاتنا واستئناف حضارتنا العربية".
وتابع سموه الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الذي شارك فيه أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية والأمير خالد الفيصل رئيس مؤسسة الفكر العربي.
وألقى الأمير خالد الفيصل قصيدة، في حفل الافتتاح، قال فيها:
تثاءب العرب... واستيقظ الشغب
وتداعت الأغراب... واستفحل الإرهاب
وتوارت الأمانة... واستعرت الخيانة
وتوحش الزمان... واستسلم الإنسان
وعالم... لامتلاك الدنيا.. يسابق الزمان
وعرب... تحاول الاحتفاظ بوطن
هناك إبهار... وهنا غبار
الأمير خالد الفيصل في قصيدته في افتتاح المؤتمر: تثاءب العرب، واستيقظ الشغب، وتداعت الأغراب، واستفحل الإرهاب
ليل هنا... وهناك نهار
تشتت الفكر... وتاهت الأبصار
وقتل العرب... وهدمت الديار
وهجّر الرجال... والنساء والصغار
ولأجل ماذا... كل هذا؟
لتحل فرس وروم وعار
وتعم فوضى ودمار
وتكون القدس خيار
ثم قيل... إنه الواقع العربي
أيها الواقع العربي... أفقْ
كفاك سباتاً وكفانا انتظار
ولن نقبل بعد اليوم اعتذار
فما زال لنا عقل وفكر
وكفاح ومسار
حالة غير مسبوقة من السيولة والتنافس
من جانبه، ألقى أحمد أبو الغيط كلمة أكد فيها أنّ النظام العالمي يمر بحالة غير مسبوقة من السيولة والتنافس الذي يقترب من الصراع بين اللاعبين الرئيسين، وهو تطور يؤدي إلى انعدام اليقين على التفاعلات والعلاقات الدولية كافة.
وقال: "نحن نقترب من وضع تتآكل فيه قواعد قديمة من دون أن تظهر أخرى جديدة تحل محلها وتهب فيه رياح الفوضى والاضطراب على الدول والمؤسسات الراسخة فتزعزع أركانها وتزلزل قواعدها وتصيب بنيانها بخلل شديد وبلادنا العربية ليست بعيدة عن هذه الرياح الخطرة، بل هي لأسباب كثيرة في عين العاصفة".
أحمد أبو الغيط: التحدي الرئيس أمام الدولة الوطنية في العالم العربي هو أن تصير بحق "دولة لكل مواطنيها"
وطرح أبو الغيط خمس نقاط تمثل تحديات تفرض على العرب التفكير فيها والتعامل معها.. وتتمثل النقطة الأولى في ردة فعل عنيفة إزاء ظاهرة العولمة من جانب قطاعات واسعة من مواطني الغرب، الذين يشعرون بأنّ حرية التجارة وتعزيز الترابط العالمي لم يصب في مصلحتهم، ومحصلة ذلك هي صعود لتيارات الانكفاء على الداخل، وبناء الجدران العالية أمام التجارة والمهاجرين وكل ما هو قادم من الخارج.
وأشار إلى ارتباط هذا الواقع بما نشهده من تصاعد ملحوظ في السياسات القومية المتطرفة والنزعات الشعبوية، وبالتالي الاتجاه إلى تفتيت الوحدات القائمة إلى وحدات أصغر، على أساس القومية أو العرق أو الدين.
وفي مواجهة هذه الاتجاهات التفتيتية المدمرة في الغرب، ليس أمام دولنا إلا إتقان فن العيش المشترك وتعزيز قدرة المجتمعات على قبول التنوع والاختلاف، باعتباره مصدر قوة وإثراء.
إن التحدي الرئيس أمام الدولة الوطنية في العالم العربي هو أن تصير بحق "دولة لكل مواطنيها".
وتتمثل النقطة الثانية، بحسب أبو الغيط، في أننا نقف على أعتاب ثورة تكنولوجية رابعة ضخمة سيكون من شأنها أن تغير الكثير من القواعد الراسخة في السياسة والاقتصاد والمجتمع، وسأل أين العرب من هذه الثورة؟ هل تفوتنا مثلما فاتتنا الثورة الأولى زمناً طويلاً حتى أصبحنا أسرى للتخلف والاستعمار؟
وأكد أنّ إعداد الشباب العرب للتعامل مع معطيات ومتطلبات الثورة الصناعية الرابعة، يقع في قلب المهمات التي ينبغي أن يضطلع بها قادة الفكر والسياسة والمجتمع والاقتصاد في العالم العربي.
أما النقطة الثالثة، فتتجسد في تقويض الثقة بالمؤسسات القائمة السياسية منها والدينية والاجتماعية والثقافية؛ حيث اعتبر أنه إذا ما ترك للتكنولوجيا الحبل على الغارب، فهي ليست سبيلاً لتعزيز الحرية والديمقراطية، بقدر ما هي قادرة على إفراز أكثر الاتجاهات تطرفاً وغوغائية، لافتاً إلى أن العزلة والانغلاق لا يمثلان حلاً، ولكن البديل ينبغي ألا يكون الانكشاف الكامل أمام هذه المؤثرات المدمرة للنسيج الاجتماعي.
وركز أبو الغيط في النقطة الرابعة على أهمية الانفتاح من قبل المؤسسات العربية، سياسية كانت أم دينية أو اجتماعية، على تجارب الآخرين، والتعلم منها والتفاعل معها.
وشدد في النقطة الخامسة والأخيرة على ضرورة إصلاح نظمنا التعليمية، وتجديد مفاهيمنا الدينية، وتطوير رؤيتنا الثقافية، وهي عناصر أساسية للعلاج الناجع لجرثومة الفوضى التي تتغذى على الركود والتكلس، فالإصلاح والتغيير مطلوبان من أجل صيانة الاستقرار.
لحظة تاريخية عصيبة ومصيرية
وتحدث المدير العام لمؤسسة الفكر العربي هنري العويط ،عن الظروف التي ينعقد فيها المؤتمر في لحظة تاريخية عصيبة ومصيرية، التي لم تعرف مثيلاً لها في الحدة والخطورة، منذ أمد بعيد.
وقال: نستلهم دروس النماء والاستقرار من نموذج دبي ورؤية حاكمها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الثاقبة.
العويط: نعرف مصالح وأطماع الأطراف الخارجية، المجاورة والبعيدة، الإقليمية والدولية، وعلينا أن نندد بتدخلاتها وما تحوكه من مؤامرات
وأكد اهتمام مؤسسة الفكر العربي في إطار رسالتها التنويرية والتنموية، بشؤون العالم العربي وشجونه، وبحاضر دوله ومواطنيه ومستقبلهم، لذلك رأت من واجبها التحذير من مغبة استفحال هذه الفوضى، وتفاقم هذه الأزمات، فقررت إخضاعها للدراسة والتحليل، بمنهجية علمية، ومقاربات موضوعية، وبمنتهى الصراحة والشفافية. وليس الغرض من عملية التشخيص هذه توجيه أصابع الاتهام والإدانة، بل هي منطلق للدعوة إلى وعي خطورة الأوضاع ومخاطرها، بهدف تحديد أفضل السبل لمواجهتها.
وأشار العويط إلى أن العنوان الذي تم اختياره للمؤتمر يعبّر عن هذا النهج وهذه التوجهات، وقد تعمدنا الإشارة في شقه الأول، إلى واقعنا المأساوي المرير، ولكننا أبرزنا، في شقه الثاني، ما يتسم به مؤتمرنا من بعد استشرافي، وذلك للإلحاح على ضرورة الخروج من نفق الفوضى المظلم إلى رحاب الاستقرار، وللتشديد على ما يرتبه علينا تحقيق هذا الاستقرار من مسؤوليات وأعباء.
ولفت إلى أن الجميع يعرف مصالح وأطماع الأطراف الخارجية، المجاورة والبعيدة، الإقليمية والدولية، وعلينا أن نندد بتدخلاتها وما تحوكه من مؤامرات. لكن علينا أن نتذكر باستمرار أنه بمقدار ما يحق لنا أن ننحو باللائمة على الآخرين، وأن نتمسك بحقنا في تقرير مصيرنا بأنفسنا، يتعين علينا أن نضطلع بمسؤوليتنا عن صناعة الاستقرار.