زليخة أبو ريشة: لا نملك ترفَ اليأس

زليخة أبو ريشة: لا نملك ترفَ اليأس


27/09/2018

أجرت الحوار: رشا سلامة


لا تنفكّ الكاتبة والناشطة زليخة أبو ريشة تثير عواصف الجدل حولها؛ إذ تارة تتطرّق للشأن النسوي بجرأة بالغة، لتنتقل نحو مهاجمة الإسلامويين بجرأة يعزّ نظيرها هذه المرّة، وفي الحالات كلها ترصد بعين الناقد ظواهر قلّما يلتفت إليها أحد، في وقت تطرق فيه جوانب تتفق عليها معظم النساء لعل على رأسها الغبن الذي يعانين على الأصعدة كافة، ليست الزوجية فحسب ولا المهنية فقط.

في هذا الحوار، تحاول "حفريات" الاقتراب من زليخة، الأديبة العكّاوية التي ما تزال تصنع بصمات لها في الوسط المحلّي والعربي أيضاً، وزليخة الطاهية البارعة والمستضيفة أحباءها بحميمية في جنبات بيتها الأنيق، وزليخة التي ترتقي لرتبة مفكّرة من دون أدنى جدل.

هنا تفاصيل الحوار، الذي ترصعه زليخة بمقولتها "لا نملك ترف اليأس".

تُشكّل زليخة أبو ريشة حالة جدلية منذ بدأت بالكتابة؛ لتطرّقها للشأن النسوي بجرأة لم يعتد عليها المجتمع العربي كثيراً، ولانتقادها الدائم للمؤسسة الدينية. إلى أي حدّ تتعمّد أبو ريشة إثارة هذا الجدل في كتاباتها؟ وإلى أي مدى تشعر أنها أحدثت التغيير الذي تنشده، على الأقل في المجتمع الأردني؟

الكتابة فعلُ وعيٍ، ولذا فكلُّ كتابةٍ عندي مقصودةٌ بذاتها وبفحواها، ولا حرج أن يكون ثلثُ ما أكتبُ فيه، تقريباً، يتصل بالشأن النسوي، وثلثه الثاني بالشأن الديني، فالشأنُ الدينيّ بات يحلُّ تدريجيّاً مكان الحياة الطبيعيّة التي كنّا عليها قبل اختراعه، ومحلَّ فكر المواطَنةِ وفكرِ القانون وفكر الديموقراطيّة. فالنظام في صفقاته قوّى المؤسّسة الدينيّة في أجهزته، وتحالفَ مع الإخوان المسلمين لينموا كسرطانٍ خبيث في بنية المجتمع الأردني. هذا الاطراد في توسّع الإسلام السياسي وهيمنته المجتمعيّة وتأثيره على صنع القرار يجعل من كشفه وفضح مطامعه مهمةً وطنيّةً جليلة، على كل فردٍ مقتدر القيام بها. أما عن الشأن النسوي، فقد كان يشهدُ صعوداً نسبيّاً في اتجاه المرأة نحو التعليم، ونحو العمل، ونحو الفضاء العام، ولكن الإسلام السياسي الذي عزّز وجودَه بعد نكبة الـ 67 كان ينحو نحو تكبيل صورة المرأة بنشرٍ منهجيٍّ مموَّلٍ للحجاب ولحجزها في إطار الطاعة وتحجيمها في الأدوار التقليدية. فكان لا بدَّ من صوتٍ يتناغم مع حركة تحرير النساء التي بدأتها رائدات باسلات في أربعينيات القرن الماضي.

عندي بذرةُ التمرّد منذ أنا طفلة، ومنحني الوسط الصوفيّ الذي نشأت فيه العُدَّةَ لهذا التمرُّد

أما عن إحداثِ التغيير، فأرجو أن أذكّر أنني عندما بدأتُ أكتب في هذا كنتُ وحيدةً وعلى مدى عقود، وكانت ذئابهم تنهشني في جميع منابرهم وتغتال شخصيّتي بل وتتهددني في أمني وفي حياتي، بينما الدولةُ والمجتمع وشرائحُ المثقفين تتفرج. والتغيير الذي حدث هو أنني لم أعد وحدي في ميدان نقد الأيدولوجيا، وأنَّ أقلاماً كثيرةً ومنابر متعدّدة باتت تضج من الأذى الذي لحق بالمجتمع من الإخوان، وخصوصاً في التربية والتعليم، وإحلال مراكز تحفيظ القرآن مكان مراكز الشباب لتنمية قدراتهم جميعها بشكل متوازن. لقد عايشتُ مجتمعاً ينمو باتجاه الحداثة، ولما دخل الإخوان وبقية الطيف الإسلامي على الخط شهدتُ كيف تغيّرت الهوية وحلّ الانهيار.
ومع أنّ كتابة الوعي تُغيّر وتُؤثّر، إلا أنّ كتابة الفرد الواحد لا يمكن أن تحدثَ تأثيراً كبيراً في المجتمع يُنسَبُ إليه، إلا إن تحوّلت دعوته إلى جحفلٍ عام. صحيح أنني أقابلُ أناساً الآن ومن قبل، يقولون لي إنّ كتاباتي التي كانوا يتابعونها قد ساهمت في تشكيل وعيهم/ن، وإنّ عدداً لا يُستهانُ به من الصبايا المحجّبات كنَّ يحرصنَ أن يقلن لي إني لهن مثلٌ أعلى، ولكن هذا الانتقاء القدري الذي لا أدّعيه، لا ينطبقُ عليّ.

اقرأ أيضاً: عادل عبد الصادق: 3 مراحل يستخدمها الإرهابيون لتجنيد الشباب

توسّع الإسلام السياسي وهيمنته المجتمعيّة يجعل من كشفه وفضح مطامعه مهمةً وطنيّةً جليلة

ألا تجد أبو ريشة أنّ انشغالها في قضايا جدلية طغى على نتاجها الأدبي، الذي يمتاز بلغة بالغة التكثيف والجودة، طغى على صعيديّ كمية النتاج المقدّمة ومدى الشهرة التي حظيتِ بها؟

لا يا عزيزتي. لا أظنُّ ذلك، فنتاجي الأدبي بخير، ما دمتُ أُصدِرُ كتاباً كلَّ بضعة أعوام، ولكنَّ العيبَ يا عزيزتي ليسَ في القضايا الجدليّة التي أنشغلُ بها، بمقدارِ ما هو اهتمامُ الإعلام بما يصدرُ عنّا؛ فصدور كتابٍ شعريٍّ لي أو لغيري، حتى لو كان لأشهر شاعر عربي الآن هو أدونيس، لا يلقى من الإعلام ذاك الهياج الذي يُحدِثُه تصريحٌ عابرٌ أو تعليقٌ على الفيسبوك. أتذكرين قولَ أدونيس في سياقِ مقابلةٍ معه عن أن "العرب ينقرضون" كم أحدث من بلبلةٍ في الأوساطِ الثقافيّة العربيّة، وما هو حجم الشتائم التي وُجِّهَت إليه؟ وكيفَ أنّ عدداً من الصحف الإلكترونيّة قد أظهرت تعليقاً لي على صفحة أحد الأصدقاء عن كلية الشريعة، ووضعته بالبنط العريض على الصفحة الأولى كمانشيت، لتتلوه حملةُ تهديدٍ ووعيدٍ مخيفة؟ فالحاصل أنني أكتب وأنشر والإعلام يهتم بما يهيّج ويثير، والنقاد عموماً نائمون. صحيح أنني بتُّ أكثرَ شهرةً بكتاباتي وتصريحاتي في الشأن الإسلامي، ولكن قولي لي: ما اسم آخر كتابٍ أدبيٍّ أو شعريٍّ أحدث جدلاً في الأوساط العربيّة؟ وما هي آخر القضايا الفنية أو الثقافيّة التي دار حولها سجالٌ ما في وسائط الإعلام أو على مواقع التواصل؟ وهل قرأتِ "مانشيتاً" حول آخر إصدارات شعراء مهمّين أو شاعرات مهمّات على الساحة؟ وأين هي الصفحات الثقافية في الصحف العربيّة؟ وأين المجلات التي كانت تُعنى بالشعر والأدب؟ إنه من الطبيعي أن نندثرَ معها كشعراء، وما دام نشر الشعر يتجافى عنه الناشرُ، ما لم يدفع أهلُه تكاليفَ الطباعة!

رقابة المحيط الاجتماعي

البعض يحبّون الخوضَ في الشخص والقائل بدل الخوضِ في القول

كيف استطاعت زليخة أبو ريشة التعامل مع رقابة المحيط الاجتماعي أولاً ومن ثم الرقابة الصحفية ثانياً، وخصوصاً أنكِ كتبتِ في أعوام كانت المعايير فيها أكثر محافظة وصرامة مما هي عليه الآن؟

عندي بذرةُ التمرّد منذ أنا طفلة، ومنحني الوسط الصوفيّ الذي نشأت فيه العُدَّةَ لهذا التمرُّد. وفي كلِّ تمرُّد تَحدٍّ للمنظومة المجتمعيّة ورقابتها، حيثُ اعتمدتُ، دون أن أخطط لذلك طبعاً، أسلوبَ الصدمة. ومن جهةِ ثانيةٍ، أني كنتُ طالعةً من بيتٍ له منظومةٌ أخلاقيةٌ وفكريةٌ وروحيّةٌ مختلفة، وكان من الطبيعيّ أنّ أتصرَّفَ بحسب عدم معرفتي بعالم "الخَلْق" الذي هو عالم "الآخر" الدنيوي وبالأحكام الجاهزة التي يطلقها. كانت علاقتنا في أسرتي بأبناء وبنات الطريق علاقة روحيّةً صافيةً قائمةً، بلغة اليوم، على الشفافية والنقاء، ولما خرجتُ إلى العالم الماديّ صَدمتُ وانصدمت. وظللتُ (أتنجّر) حتى أصبحتُ ما أنا عليه الآن؛ حكيمةً هادئة صبورةً متفهّمةً، ولكن دون أن أهادن ما هو في رأيي خطرٌ أو خللٌ. ظلَّ الصراعُ محتدماً عندي ضدَّ البشاعةِ التي ساقنا إليها الإسلامُ الصحراوي؛ إذ إنَّ "الإسلام الجميل والنبيل" الذي نشأتُ في ظلاله، لم يكن ليسمحَ لي أن أتساهلَ مع العَنَتِ والقبح اللذين غطّستنا بهما الإخوانيّةُ والسلفية.

بعد أن قطعتِ شوطاً طويلاً في النضال الاجتماعي لتحرير المرأة، من خلال الكتابة والثقافة ونشر الوعي، هل تشعرين بالإعياء؟ متى شعرت أبو ريشة بنوعٍ من اليأس أو الوهن؟

صدقاً أني لا أسمح للضعفِ، سواء أكان خوفاً أم يأساً، أن يتسلَّلَ إلى قلبي؛ فدائماً ما أقول: إننا لا نملك ترفَ اليأس، ولا نملك إلا أن نأمل بالتغيير. صلابتي الداخليّة ورثتُها عن أمي التي كانت في عزيمتها وفهمها للألم الذي تواجهه قديسةً. لقد نهلتُ، دون أن أدري، من روحها القوية التي ساعدتني في تجاوز آلامِ حياتي الخاصة والعامة، وهي كثيرة. قد أشعر بالإعياء أحياناً، ولكنّي سرعان ما تتجدّد طاقتي، فالأمرُ ليسَ شخصياً، وعلى كل قادرةٍ وقادرٍ قولُ ما ينبغي وعملُ ما يجبُ لنشر الوعي وتفكيك الواقع وتحرير العقل.

كثر هم من يربطون بين الجرأة التي تنطوي عليها كتاباتكِ وبين التجربة الاجتماعية التي مررتِ بها. بل ثمة من استخدم هذا كمدخل للهجوم عليكِ. لو لم تكن أبو ريشة قد نشأت في تلك الأجواء التي تمرّدت عليها لاحقاً، هل كانت ستكتب بالنَفَس ذاته وبالإصرار عينه؟

فجأةً يتحوّلُ بعضُ القراء المؤدلجين من خصومي إلى محللين نفسيين، دون عُدة العلم طبعاً، حيث يحبّون الخوضَ في الشخص والقائل بدل الخوضِ في القول، وذلك خللٌ في منهجِ السِّجال وفي أخلاق المُساجِل؛ لأنَّ القصدَ لديهم ليس تحليل أثر التجربة الشخصية على العمل الكتابي، بل التجريح الشخصيّ؛ لأنَّ التعريضَ بالحياة الشخصية للمرأة في مجتمعٍ بطركيٍّ ذكوريٍّ لهو أمرٌ (ضروريّ) لإهانتها والانتصار عليها. وهذا عجز كامن في لبِّ الخطاب الأصولي والكلاسيكي وبنية الفكر الماضوي. وأحبّ أن أطمئن القلقين على دوافعي (الانتقاميّة) أنني على علاقة طيبة جداً بأطرافِ التجربة الشخصية، وما تلاها من فروع، وأحمل تعاطفاً نبيلاً وتفهّماً لجميعِ أحوال زوجي السابق ووالد أولادي. لقد كان جليّاً لكلينا أنَّ قدراً غير سارٍ قد جمعنا، ولكن التجربةَ كانت فرصةً ثمينةً لي لإثارة فضولي المعرفي ولتطوير مداركي الفقهية واللاهوتية؛ فمعارك النصوص حول مساحة المرأة في الزواج والحياة، أدّت إلى التحقّق من صحة هذه النصوص، وصحة تأويلاتها المبيّتة. وهو ما أدّى إلى بلوغِ غاياتٍ أبعدَ في البحثِ. فمن أجل ذلك التحقتُ بالدراسات الإسلاميّة في القاهرة، وأقمتُ حُجَتي فيما بعد على قراءاتٍ مهمّةٍ في التراثِ والتجديد الديني ونقد الفكر الديني.

نجاح الإسلاميين في النصر على العلمانية!

لا تكاد أبو ريشة تترك جانباً من إخفاقات الإسلاميين ومن يهجسون بالفكر الديني إلا وتقنصه وتسلّط الضوء عليه، بل ثمة من يرى في مرات أن هنالك نوعاً من التحريض على هذه الفئة، ما رأيكِ في ذلك؟ وهل تنبشين شخصياً وراء هذه الممارسات كنوع من الفكر الممنهج لديكِ، أم أنكِ تجدين هذه الظواهر مكشوفة وملحّة إلى حد يصعب تجاهلها؟

لستُ أسلّطُ الضوء على إخفاقاتهم فحسب؛ بل أولاً على نجاحاتهم في تحقيق النصر على المجتمع العلماني الذي كنا فيه. ورصدي لنشاطهم لا يدخلُ في بابِ "التحريض عليهم"، بل في باب نشر الوعي على عقابيل ما ينجزونه من تخلّفٍ وما يعطّلونه من تقدّم للمجتمعات. إن الإسلام السياسي طالبُ سلطة دنيوية، وهو يتحصِّنُ بالدين وأنه المطبّق الوحيد له، مما يؤدي إلى تكفيرِ كلِّ من يعارض نهجه السياسيّ. وهذه خطة براغماتيّةٌ خبيثةٌ تجعلهم أمام البسطاء بمثابة أنبياءٍ وصحابة، ويغدو نقد مراكز تحفيظ القرآن مثلاً، التي يقومون عليها، منزَّهةً عن النقد، وأنَّ المسَّ بها مسٌّ بالإسلامِ نفسه، بل يصبح تناولُ سيرةِ أحدِ قادتهم العامةِ تهجُماً على الإسلام. وليس بعد هذا من كذبٍ وصلَفٍ واحتيالٍ! فما بالك برفضِ أحاديثَ نبويّةٍ تسيءُ إلى الرسولِ، عليه السلام، في رسالته وخلقه مثل القول المنسوبِ إليه "بعثتُ لأقاتل الناس على أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم"، وهو مانفيستو داعش نفسها!!

كنتِ من الكاتبات القليلات اللاتي تجرّأن على استخدام لغة تحتوي على بعض التوصيفات الجنسية، ألم تواجهي هجوماً من قِبل العائلة قبل المجتمع؟ كيف تعاملتِ مع كل هذا؟ وأيهما كان الأصعب، مواجهة الإسلاميين أم مواجهة من يرون في هذه اللغة انفتاحاً غير مألوف؟

في أثناء دراستي الجامعية اطلعتُ على مدوّنة الجنس في الأدب العربي، وهي مدوّنةٌ ضخمة، أُفرِدَت لها فصول في المعاجم وأمهات الكتب، وأُلِّفَت فيها كتبٌ باتت الآن مشهورةً بعد أن تجرّأ ناشرون على إخراجها إلى النور. وكان من أطرفِ ما عثرتُ عليه أنّ عدداً من الفقهاء والأئمّة والمفسرين ومشايخ الدين قد ألفوا مؤلّفاتٍ في الجنس (السيوطي، ابن حزم، التيجاني، والتيفاشي، والنفزاوي....)، وأنّ الكتاب والسنّة والشعرَ والأخبار مليئةٌ بألفاظ الجنسِ وأدبه، مما يُبلغُنا إلى أنّ تحريم الجنس في الأدب إنما هو طارئٌ على ثقافتنا، وأنّ العرب في لغتها وتعبيرها لم تكن تتحرّجُ من التصريح بالحاجة الطبيعية أو بمسمّياتها، وعلى ذلك نشأ قلمي الطالبُ للحرية. ولا تنسَيْ أنّي أيضاً نشأتُ على شعر التصوّف الذي طوَّعَ القاموسَ الحسيّ للمعاني الإلهية.

الإسلام السياسي طالبُ سلطة دنيوية وهو يتحصِّنُ بالدين باعتباره المطبّق الوحيد له مما يؤدي إلى تكفيرِ كلِّ من يعارضه

أما عائلتي فلم (تهاجمني) قط، وأقصى ما كانت تفعله هو الخوف عليّ من (الرعاع). وقد لخّصَ أخي الشاعر والإعلامي يوسف موقفه من كتابتي بأنّه موقف الأخ والقريب لا موقف الناقد، ولذا كان يتقبّل كلَّ ما أكتب؛ فإذا أعجبَه أظهر إعجابه، وإذا لم يعجبه صمت.
أما الإسلاميون فكانوا يتربَّصون بي، وقد أضافوا إلى قاموسهم شتمي بأدبي على أنه خروجٌ على تقاليد الحشمة، مع أنّ التلميحات الجنسية في كتابتي قليلة، وتخدمُ سياقها. بل الغريب أنّ أحد أدباء اليسار، وكان في لجنة تحكيم، طلب مني حذف عبارة لي اعتبرها خارجة عن اللياقة! هنا يستوي الإسلامويون والمتأسلمون!!!

حضور عكا

لعكّا حضور واضح في كتاباتها

هل تحضر عكّا وفلسطين في كتاباتكِ وفي يومياتكِ عموماً، أم أنكِ ترين حرية الأرض لا تكتمل من دون تحرير الأنثى والعقل والمرجعية الدينية؟

حضرت عكا في كتابٍ لي، كما لم تحضر مدينةٌ من قبل، وهو "دفتر الرائحة"، بل رائحتها التي اختزنتها أكثر من خمسين عاماً كانت سبباً لهذا الكتاب. وتحضر القدس أيضاً وشويكة وطولكرم مع دمشق وعمان وإكستر في أحلامي وبصورةٍ شبه يوميّة؛ وهي (الأحلام) كتابةٌ أخرى لا ينبغي أن نهملها. فللمكان أهميّةٌ في حياتي وفي ذاكرتي البصريّة، ولا أستطيع تذكر الماضي من دون مكان، وهذا استكمالٌ للحسيّة التي تظهر في أدبي، أو تجلٍّ لها.
أما نصفُ سؤالك الثاني فينقلنا إلى موضوعٍ آخر استُهلِكَ بحثاً. إن أمتنا ليست في وارد تحرير الأرض، فلنحرر الإنسان على الأقل.

اقرأ أيضاً: تيسير أبو عودة: سيظل المثقف رسولاً قابضاً على جمر السؤال

أبو ريشة: التصوُّف الذي نشأتُ فيه لم يكن انعزالياً

ارتبطت نشأتكِ بالصوفية. والصوفية كفكرة قائمة على تقبّل الآخر وعدم إيصال الاختلاف معه إلى مرحلة التشكيك والأذى والإقصاء، مهما بلغ اتساع الفجوة. ألا ترين أنكِ تمرّدتِ على هدوء الصوفية وروحانيتها في التعاطي مع من يختلف معكِ؟ ألم يحتدم الخلاف في مرات كثيرة حد تبادل الرسائل القاسية وإثارة اللغط؟

التصوُّف الذي نشأتُ فيه لم يكن انعزالياً، والدليل أنني كفتاة تعلمتُ حتى مرحلة متقدمة في الجامعة (بل كنتُ أول فتاة جامعيّة في عائلة أبوريشة)، وكذلك فعل جميع إخوتي وأخواتي. لقد طلبنا العلم (الدنيويّ) بمباركةٍ من أبي وأمي، مع أنه دنيوي. ولطالما سمعتُ أبي، وهو معلمنا وشيخنا، يقول: إنّ علينا أن نأخذ بأحوال (الخَلْق) كما ينبغي لهذه الأحوال دون التعلّقِ بها. وكان لا يحبّ الانصرافَ المادي عن الحياة، بل كان يدعو إلى الانصراف المعنوي عن مغرياتها. وعليه، فليس في مساجلة الإسلام السياسي ما يسرّ وما يسعد. إنه عبءٌ شاق بل وخطير يتهدّدُ حياتي وأمني. وإذا ما شطَّ الواحدُ منا في الخصومة، فهناك (ضميرٌ) يحاسب، وعقلٌ يؤاخذ، حيث نتعلّمُ بالممارسة ما ينبغي وما لا ينبغي. وأنا في معاركي لم أمسس الحياة الشخصيّة لخصومي، ولم أسخر من أشكالهم ولحاهم ومن أسمائهم ومن شيخوخة الشائخ منهم، ومن أُسَرِهم وكيف نشأوا، على عكسهم، ولم أؤلف عليهم الأكاذيب، كما فعلوا. وعلى ذلك فاعتراكي شريفٌ، بينما معاركهم تنقصها الأخلاق التي يدعون ربوبيتها. ولا أودّ أن أصف هذه المعارك بأنها بين الحق والباطل، فهذه لغتهم المزيّفة، ولكنها معارك بين فكر المواطنة والديموقراطية والعلمانية، وبين الحكم الزائفِ باسم الدين.

صنعنا داعش بطريقة أو بأخرى

لم نكتفِ بصناعة داعش بل صدّرناها إلى العالم أجمع

هل تعتقدين أنّ داعش نتاج شرعي وحقيقي للتطرف الرائج في المنطقة، أم أن هنالك عوامل سياسية خلقت هذه الظاهرة وما تزال تُسيّرها؟

بِغضِّ النظر عن أنّ داعش صناعة أمريكية لاستكمال صورة التدمير لسوريا والعراق، إلا أنها عُجِنَت من طينة واقعٍ مُسفٍّ متدهورٍ يمجّدُ العنفَ العالميّ باسم الجهاد وباسم الإسلام. انظري إلى عشرات بل مئات الفيديوهات التي تتحدّث عن (فَتح) الغرب (الكافر)، والتمتع بسباياه وبخيراته. وزوري دروس الدين في المساجد وفي مراكز تحفيظ القرآن ومجالس الداعيات والدعاة، لتسمعي بأم أذنيك ما يُقال عن تحريم تهنئة المسيحيّ، وعن أنّ السافرة من النساء زانية، وعن تكفير تارك الصلاة ووجوب قتله، وعن كثيرٍ مما لا يمكنُ تصنيفُه في بناء أوطانٍ حرّةٍ أو دولةِ مواطَنة! إنّ المؤسّسة الدينية التي غزاها الفكر الإخواني والوهابي تعمل ضدَّ بناء الدولة الحديثة التي نسعى إلى تعزيزها والحفاظ عليها. وإذ أننا، بطريقةٍ أو بأخرى، صنعنا (داعش)، فإننا لم نكتفِ بذلك، بل صدّرناها إلى العالم أجمع على شكل بعثاتٍ ومؤسسات ومساجد تديرها السلفية الجهادية، وتفصم أتباعها عن مجتمعاتهم.

يبدو لمن يتابع سيرتكِ أن هناك اهتماماً كبيراً بالأطفال. من حيث الحديث عن تغيير المناهج ومن حيث كتابة قصص الأطفال في مستهلّ مسيرتكِ. لماذا لم تكملي في هذا السياق بالغ الأهمية؟

سيرتي مليئةٌ باهتماماتٍ شتى، ومنها أدب الأطفال. وقد ألَّفتُ في النظريّة ونقد أدب الأطفال، كما ألَّفتُ للأطفال، وحكّمتُ في جوائز محلية وعربية للكتابة للأطفال. ولديّ مخطوطاتٌ لم تر النور بسبب أنّ إنتاجها مُكلّف. وقد أستطيع أن أطبعها... لا أدري. أما لماذا لم أستمر في هذا المسار، فلأنني ككاتبة، طوع همومٍ شتى، وربما اعتبرتُ أنّ عشرين عاماً من الاهتمام بأدب الطفل كافية، وعليّ أن أنصرفَ إلى شؤونٍ أخرى في الثقافة والحياة!

طاهية بارعية في بيت الحب

أبو ريشة: أنا طاهيةٌ بارعةٌ ولي اختراعاتي في عالم الطبخ

بعيداً عن الجدليات كلها. تبدو زليخة أبو ريشة طاهية بارعة وامرأة أنيقة وحريصة على جماليات بيتها وإطلالتها وحديثها. كيف تعيش زليخة بين هاتين الصورتين: الكاتبة الشرسة التي لا تترك عشّ دبابير إلا وتهزه، والمرأة الجميلة الرائقة البيتوتية؟

أجل، أنا طاهيةٌ بارعةٌ ولي اختراعاتي في عالم الطبخ، وأعتبر إعداد الطعام من المتع الحسيّة الرائعة، حيثُ أستخدمُ حواسي الست وربما أكثر. وأنا بصدد تأليف كتابٍ أضمّنُ فيه وصفاتي ومنظوري الخاص الأفروديتي الذي أرتاحُ إليه من معاركي ومتاعبي في الحياة. ولا خصومة بين جديّتي في الكتابة والمواقف وبين استمتاعي بإعداد اللذائذ. فأنا أحبّ تدليلَ الحواسّ، وأحبُّ العناء الذي أبذله لضيوفي من الأهل والأصدقاء. أحبّ الناس وأحبّ أن أعبّر عن هذا الحب بإعداد الموائد.

أنا طاهيةٌ بارعةٌ ولي اختراعاتي في عالم الطبخ، وأعتبر إعداد الطعام من المتع الحسيّة الرائعة

وأجل، إنّ بيتي الصغير متحفٌ صغير رصصتُ فيه من أعمال أصدقائي الفنانين العرب ما ينوء به المكان، كما حرصتُ أن يكون حُرجاً أخضر تتزاحمُ فيه نباتات الظلِّ ونباتات الشمس. إنّ من يدخل حديقتي المشعّثة لا يودُّ تركها، فهي صورةٌ ما عنّي وعن فوضايَ وعن كتاباتي الحماسيّة منها واللينة. أحياناً وأنا أتفقّدها أشعر أنّي في حديقة الآنسة هافيشام في رواية تشارلز ديكينز (Great Expectation)، حيث الأوراق الجافة المتساقطة أكثر من تلك التي على الشجر. وإذ إنّ نزوعي إلى الجمال غير المنسَّق، فأنا دوماً أقول: إنّ للجمال من الصيَغِ ما لا ينتهي، وحديقتي إحداها، ذلك أن لا مكان لعشّ الدبابير هنا، بل لمئاتِ العصافير التي تأتي كلَّ يومٍ لتأوي إلى أشجاري الباسقة، وهي تعلمُ أنّ لا ضيرَ ينالُها؛ فهذا بيتٌ للحب لا للضغينة، وبيتٌ للسلام والأمان، لا للاقتتال من أي نوع. بيتٌ منحازٌ للجمال مطلَقاً.

اقرأ أيضاً: عامر بدران: اعتمادنا فكرة الحق الإلهي أراح "إسرائيل" التي تستخدم اللغة ذاتها

أبو ريشة: إنّ للجمال من الصيَغِ ما لا ينتهي، وحديقتي إحداها


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية