
في خطوة تاريخية تحمل في طياتها طموحًا عالميًا لإعادة صياغة العلاقة بين الدين والسياسة، وجهت منظمة "بيبيور إنترناشيونال"، ومقرها بريطانيا، رسالة مفتوحة إلى قادة الدول العربية، داعية إيّاهم إلى تبنّي وقيادة مبادرة عالمية لتشريع معاهدة دولية تحظر الاستغلال السياسي للأديان. تأتي هذه المبادرة في سياق عالمي مضطرب، حيث يتزايد استغلال الأديان كأداة لتأجيج الصراعات وتعميق الانقسامات الاجتماعية، ممّا يجعلها خطوة ضرورية لتعزيز التسامح والتعايش السلمي في منطقة الشرق الأوسط والعالم.
رؤية عالمية بجذور حضارية
تتمحور مبادرة "بيبيور إنترناشيونال" حول فكرة بسيطة لكنّها عميقة: حماية قدسية الأديان من الاستغلال السياسي الذي يؤدي إلى انتهاك حقوق الإنسان وتأجيج الصراعات. هذه المبادرة لا تسعى إلى فصل الدين عن الدولة أو السياسة، بل إلى وضع إطار قانوني دولي يضمن احترام الأديان ويمنع استخدامها كسلاح للتمييز أو العنف. وهي بذلك تنسجم مع القيم الدينية والثقافية العربية والإسلامية، التي تؤكد على التسامح والعدالة كمبادئ أساسية.
ما يميز هذه المبادرة هو زخمها الدولي المتسارع. فقد أعلنت المنظمة أنّها تجري حوارات رسمية مع عشرات الحكومات، بما في ذلك عدد كبير من الدول العربية، وتحظى بدعم رسمي وبرلماني من أكثر من (80) دولة. وفي خطوة بارزة، يستعد مجلس أوروبا لإصدار قرار يدعم المبادرة، بعد مداولات استمرت عامين شارك فيها برلمانيون من (19) دولة. كما تستعد المنظمة لعقد مؤتمرات في مجلس الشيوخ الإيطالي ومجلس العموم البريطاني خلال خريف 2025، ممّا يعكس الاهتمام الدولي المتزايد بهذا المشروع.
أهمية التوقيت والسياق الإقليمي
يأتي طرح هذه المبادرة في توقيت بالغ الأهمية، حيث تشهد المنطقة العربية تحديات معقدة ناتجة عن الصراعات الدينية والتطرف. فقد أدى استغلال الأديان سياسيًا إلى تفاقم النزاعات في العديد من الدول، ممّا أثر على استقرار المجتمعات وأضعف النسيج الاجتماعي. وفي هذا السياق تكتسب المبادرة أهمية استثنائية، لأنّها تنطلق من العالم العربي، مهد الحضارات وأرض المقدسات، التي عانت لعقود من تداعيات هذا الاستغلال.
إنّ تبنّي الدول العربية لهذه المبادرة يمثل فرصة ذهبية لتقديم نموذج عالمي يحتذى به في التعامل مع هذه القضية الحساسة. فالعالم العربي، بتراثه الحضاري العريق ومكانته الدينية، مؤهل لقيادة هذا المشروع وصياغة حلول مستندة إلى قيمه الثقافية والدينية، بعيدًا عن الحلول المستوردة التي قد تحمل أجندات مثيرة للجدل أو لا تتناسب مع خصوصيات المنطقة.
الدعم العربي والدولي
حظيت المبادرة بدعم ملحوظ من الدول العربية، التي أظهرت التزامًا قويًا بتعزيز قيم التسامح والاعتدال. فقد استضافت المملكة المغربية مؤتمرًا عالميًا لدعم المبادرة، ممّا يعكس ريادة الدول العربية في هذا المجال. كما تحظى المبادرة بتأييد زعامات دينية بارزة، خاصة من العالم الإسلامي، وهو ما يعزز مصداقيتها وقدرتها على بناء جسور الحوار بين الأديان والثقافات. هذا الدعم الديني يمنح المبادرة قوة إضافية، إذ يبرهن على أنّها لا تتعارض مع جوهر الأديان، بل تحميه وتدافع عنه.
على الصعيد الدولي، تشهد المبادرة تقدمًا ملحوظًا. فإلى جانب قرار مجلس أوروبا المنتظر، تسعى "بيبيور إنترناشيونال" إلى تنظيم مؤتمر دولي في إحدى العواصم العربية، يجمع أبرز داعمي المبادرة من مختلف أنحاء العالم. هذا المؤتمر سيكون فرصة لتعزيز الدور القيادي للدول العربية، وإبراز قدرتها على قيادة مبادرات عالمية تسهم في تحقيق الاستقرار والسلام.
تأثير المعاهدة المقترحة
تهدف المعاهدة المقترحة إلى وضع معايير دولية ملزمة تحظر استغلال الأديان في انتهاك حقوق الإنسان، أو التمييز الديني، أو تأجيج الصراعات. وهي لا تقتصر على منع الاستغلال السياسي، بل تسعى إلى تعزيز قيم العدالة والمساواة والتسامح كأسس للتعايش السلمي. ومن خلال ترجيح كفة الاعتدال وسيادة القانون، يمكن لهذه المعاهدة أن تكون أداة فعالة في معالجة جذور الصراعات الدينية، سواء في المنطقة العربية أو على المستوى العالمي.
ما يجعل هذه المعاهدة فريدة هو صيغتها كقانون دولي ملزم، على عكس المواثيق الرمزية التي تفتقر إلى الفعالية. فهي تقدّم إطارًا عمليًا يمكن تطبيقه على أرض الواقع، ممّا يجعلها أداة قوية للحدّ من التطرف وتعزيز الاستقرار. كما أنّها تتيح فرصة للدول العربية لتشكيل ملامحها النهائية، ممّا يضمن أن تظل وفية لقيمها العادلة وتتجنب أيّ محاولات لإقحام قضايا مثيرة للجدل.
التحديات وآفاق المستقبل
تواجه المبادرة تحديات كبيرة، خاصة في ظل التوترات السياسية والدينية التي تعصف بالمنطقة. فالاستغلال السياسي للأديان غالبًا ما يتغذى على الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما يتطلب مقاربة شاملة تجمع بين الإصلاحات السياسية والاجتماعية والقانونية. ومع ذلك، فإنّ هذه التحديات تمثل فرصة للدول العربية لإثبات قدرتها على قيادة مبادرات عالمية. إنّ تبنّي هذه المعاهدة سيعزز مكانة الدول العربية كفاعل رئيسي على الساحة الدولية، وسيرسل رسالة قوية مفادها أنّ العالم العربي قادر على تقديم حلول مبتكرة لأعقد التحديات العالمية.
علاوة على ذلك، فإنّ المبادرة تُقدّم نموذجًا جديدًا للحوار بين الأديان، حيث تجمع زعامات دينية من مختلف الخلفيات لدعم رؤيتها. هذا الحوار يعزز من قدرة المعاهدة على بناء إجماع عالمي، ويجعلها أداة فعالة لمواجهة التطرف الذي يستغل الأديان لتبرير العنف والتمييز. كما أنّها تفتح الباب أمام تعاون دولي غير مسبوق، يجمع بين الحكومات والمجتمعات المدنية والزعامات الدينية في مشروع مشترك لتحقيق السلام.
الدور العربي القيادي
تدعو "بيبيور إنترناشيونال" الدول العربية إلى تبنّي هذه المبادرة ليس فقط كداعمين، بل كقادة في صياغتها. فالعالم العربي، بتراثه الديني والثقافي العريق، يمتلك القدرة على حماية الرسالة العادلة لهذه المعاهدة ومنع أيّ محاولات لتحريفها. إنّ قيادة الدول العربية لهذا المشروع ستضمن أن تظل المعاهدة متماشية مع قيم التسامح والعدالة، وستمنع إقحام أيّ قضايا مثيرة للجدل قد تضر بجوهرها، كما أنّ هذا الدور القيادي سيبرز العالم العربي كمركز للحلول الإبداعية التي تخدم الإنسانية جمعاء.
مبادرة "بيبيور إنترناشيونال" ليست مجرد دعوة إلى حظر الاستغلال السياسي للأديان، بل هي رؤية شاملة لتعزيز السلام والتسامح والعدالة على المستوى العالمي. ومع اقتراب تبنّيها رسميًا من قبل مجلس أوروبا ودول أخرى، يبقى الدور العربي حاسمًا في صياغة معاهدة تاريخية قادرة على تغيير ملامح الصراعات الدينية. إنّها فرصة ذهبية للدول العربية لتأكيد ريادتها في بناء عالم أكثر عدلاً وسلامًا، مستندة إلى قيمها الحضارية العريقة ومكانتها كمهد للأديان.