"رابعة": الإخوان وصناعة المظلومية.. شهادة كاتبة من قلب الحدث

رابعة... الإخوان وصناعة المظلومية

"رابعة": الإخوان وصناعة المظلومية.. شهادة كاتبة من قلب الحدث


13/08/2023

في مثل هذه الأيام من كل عام تحيي جماعة الإخوان ذكرى فض اعتصام رابعة العدوية في آب (أغسطس) من العام 2013، ذلك الحدث الذي شاركت الجماعة في صناعته بقصد من جانب وبغير قصد من جانب آخر، فكانت ضحية وجانية في الوقت ذاته، لكن كعادتها لم تقر الجماعة بأنّها قد تسببت بأيّ شكل من الأشكال فيما حدث وفي النتيجة التي آلت إليها الأحداث من خلال العديد من الأخطاء والممارسات المقصودة، بل عملت جاهدة منذ بداية الاعتصام على صناعة مظلومية تضاف إلى عدد من المظلوميات التي صنعتها عبر تاريخها حتى تستطيع أن تعيش عليها وتستمر وتكتسب بها مزيداً من التعاطف والتأييد والأنصار.

بين أيدينا شهادة للكاتبة الصحفية فيروز عبد العزيز التي شاركت في اعتصام رابعة على أنّها إحدى المعتصمات، والتي سجلتها في كتاب بعنوان "رابعة العدوية: معركة بين دولة وميدان" والصادر في العام 2014، حيث عاشت بين المعتصمين أياماً وليالي لتتعرف عليهم عن قرب، وتعرف كيف يفكرون وكيف ينظرون إلى الأحداث وإلى أنفسهم والآخرين، وتنقل العديد من التفاصيل لم تعرضها قنوات الإخوان وصفحاتهم، لتمثل زاوية أخرى للرؤية ربما تُظهر جانباً من الحقيقة لا يعرفه الكثيرون، ومن خلال الاطلاع على التجربة يتضح كيف ساهمت الجماعة في صناعة مشهد الفض، وكيف كان لديها إصرار من خلال عدد من الممارسات على الوصول إلى ذلك المشهد سواء قبل الثالث من تموز (يوليو) أو بعده.

رفض الحل السياسي قبل 3 تموز (يوليو)

في البداية تقول الكاتبة: "قبل الذهاب إلى ميدان رابعة العدوية كنت ساذجة الحلم، لديَ قناعات الصبية بأنّ الوطن يتسع للجميع، وكل الشر يأتي من الغرباء... وقبل أن أنهي أسبوعي الأول داخل الاعتصام أدركت أنّ كل الشر يعيش مختبئاً بين أحشاء الوطن مستتراً برداء الحق والفضيلة... كنت أنظر إلى وجوه المجبرين على البقاء في رابعة، إمّا بفعل غسيل المخ، وإمّا بفعل حالة العوز وضيق اليد، راجية الخلاص دون أن تكون دماؤهم ثمناً لبقاء جماعة الإخوان على كرسي الحكم... لكنّ استحكام الأزمة لم يكن له حل يمنع إراقة الدماء سوى معجزة تجعل قيادات الجماعة تمنح مجاذيبها فرماناً ملكياً بترك الميدان والعودة إلى المنازل، وتذهب للجلوس إلى مائدة المفاوضات".

حتى لحظة إعلان عزل محمد مرسي لم تكن الجماعة قادرة على قراءة الواقع بشكل سليم

كان هذا قبل 3 تموز (يوليو) حيث بدأت الجماعة في الاعتصام قبل ذلك بأسبوع، لكن لم يحدث ما كانت تتمناه الكاتبة بالطبع، فلم تكن جماعة الإخوان تدرك وهي في الحكم أنّ هناك أسباباً موضوعية جعلت حالة القبول التي كانت تتمتع بها في الشارع بعد ثورة كانون الثاني (يناير) التي جعلت الكثيرين يعطونها أصواتهم في العديد من الاستحقاقات الانتخابية حتى وصلت إلى الحكم في النهاية، لم تدرك أنّ حالة القبول تلك قد تأثرت كثيراً بممارسات الجماعة المختلفة وبأخطائها هي وباقي مكونات التيار الإسلامي خلال الفترة التالية للثورة، ولم تدرك أنّ هناك أزمة سياسية كبيرة في المجتمع يجب البحث عن حلول سياسية لها تساهم في تهدئة الأوضاع، ولم تدرك أنّ طبيعة الجماعة نفسها وطبيعة مشروعها وأهدافها كانت سبباً في الخوف من وجودها في قمة السلطة في دولة مثل مصر، ومن ثم لم تستطع أن تجري تعديلات وإصلاحات فكرية جذرية تنعكس على ممارساتها وسياساتها الداخلية والخارجية؛ ولذلك كان الرفض ومحاولات منع الجماعة من الاستمرار في الحكم هو النتيجة لذلك، لكنّ الجماعة لم تدرك شيئاً من ذلك على الإطلاق، بل رأت أنّها في صراع مع أعداء الإسلام في الداخل والخارج، وأنّ الجميع يتآمر عليها وعلى "مشروعها الإسلامي"، فكان الاستمرار في الصراع حتى نهايته ورفض أيّ حلول وسط هو الخيار الوحيد أمامها!

حتى لحظة إعلان عزل مرسي لم تكن الجماعة قادرة على قراءة الواقع بشكل سليم، وذلك عائد إلى طبيعة التكوين الفكري والنفسي للجماعة، فظلت حتى آخر لحظة لديها قناعة بأنّه لن يحدث شيء، ولن يستطيع المتظاهرون إحداث أيّ تغيير، لأنّهم قلة مأجورة ولا يمثلون الشعب، وأنّ الجيش لن يتدخل إلا لحماية الرئيس

وتصف الكاتبة ذلك قائلة: "كنت وقتها أنتظر الجلوس إلى مائدة التفاوض، كنت واثقة أنّ تعقيدات الوضع وحالة التوتر السياسي لا يمكن حلها إلا بالتفاوض، وأن تقدم جماعة الإخوان تنازلات، ولم أكن أتوقع أنّها بالغباء الذي يجعلها تفضل الصدام وتخسر كل ما سعت إليه طوال العقود الماضية"، بالفعل كان الصدام هو الخيار الذي ارتأته جماعة الإخوان منذ البداية كوسيلة لمواجهة الدعوات لانتخابات رئاسية مبكرة، ويتضح هذا من خلال عدد من المشاهد التي لاحظتها الكاتبة أثناء الاعتصام، فتقول: إنّ الجماعة كانت تؤكد على أنّ مرسي هو صاحب الشرعية، وإنّ الجماعة هي صانعة الثورة الحقيقية، وإنّ الجيش مع مرسي، وإنّ السيسي سيظل تحت طاعته، كما تصف المعتصمين بأنّهم قد "سيطرت عليهم كل مساوئ السلطة من غرور وغطرسة وعدم إدراك للواقع، يرفضون أيّ حديث عن تنازلات، ويسخرون من مجرد الدعوة لإقالة حكومة هشام قنديل... ينظرون إلى مطالب المعارضين نظرة دونية جعلتهم يصفونهم بالعلمانيين الكفرة، يتحدثون عن بقائهم في السلطة لعشرات الأعوام، وسحق المعارضين وتلقينهم درساً يعيد إليهم صوابهم"، وتقول: إنّ "المعارضين في نظر الإخوان عملاء وخونة وعديمو الدين ومرتزقة، وأنّهم ليسوا ثواراً، فالثوار الحقيقيون هم الإخوان فقط".

وتصف المعتصمين بأنّ لديهم مجموعة من الأفكار والقناعات المشتركة التي تجعلهم يفكرون ويتحدثون بشكل متماثل، وربما هذا يعود إلى طريقة تربية الجماعة لأفرادها والتي تجعلهم جميعاً يتميزون بنمط شخصية واحدة بأفكارها وتصوراتها وصورها الذهنية عن كل شيء، كان المعتصمون ينظرون إلى المتظاهرين ضدهم في التحرير وعند الاتحادية، كما تقول الكاتبة، على أنّهم مجموعة من الأقباط والفلول، ويرون أنّه من الأفضل لهم ترك الاعتصام المخالف للشرعية والدين، كما كانوا يتحدثون، وفق الكاتبة، عن مذبحة للمعارضين، وبناء دولة تتسع لهم، ومن سواهم سيعيش ذليلاً يكفر عن ذنب معارضته لحكمهم الإسلامي، بل المفارقة في أنّه كان يرى البعض منهم أنّ مرسي يجب أن يفعل مثل جمال عبد الناصر ويدهس معارضيه، على الرغم من أنّ عبد الناصر يُعدّ عدو الإخوان الأوّل، الذي يتهمونه بممارسة كل أساليب التعذيب والقمع ضدهم على إثر الصدام الذي حدث بينهم، والذي كانت نتيجته اختفاء الجماعة عن المشهد قرابة الـ (20) عاماً!

الصدمة وترسيخ الوهم

حتى لحظة إعلان عزل محمد مرسي لم تكن الجماعة قادرة على قراءة الواقع بشكل سليم، وذلك عائد إلى طبيعة التكوين الفكري والنفسي للجماعة، فظلت حتى آخر لحظة لديها قناعة بأنّه لن يحدث شيء، ولن يستطيع المتظاهرون إحداث أيّ تغيير، لأنّهم قلة مأجورة ولا يمثلون الشعب، وأنّ الجيش لن يتدخل إلا لحماية الرئيس، حتى كانت لحظة إعلان خارطة الطريق في 3 تموز (يوليو)، فكانت بمثابة صدمة كبيرة لم يستطع الإخوان تقبلها وتجاوزها ربما حتى اللحظة، فقد كان الوصول إلى الحكم هدفاً رئيسياً وحلماً للجماعة ظنت ببلوغه أنّها قد وصلت إلى لحظة التمكين التي تنتظرها والتي لها ما بعدها، ومن ثم بدأت الجماعة في خلق صورة وهمية وترسيخها في عقول أفرادها كردّ فعل على ما حدث، وكان لذلك الوهم دور في عدم قدرة الجماعة على قراءة الواقع بعد 3 تموز (يوليو) والتعامل معه على أنّه حقيقة قائمة، ومن ثم كان الاستمرار في الصراع حتى انتهى بالصدام الذي حدث في فض الاعتصام، وتصف الكاتبة تأثير الصدمة على أفراد الجماعة وباقي المعتصمين: "حتى من كانوا يتحدثون على المنصة، كانوا يصرخون بأصوات عالية وبطريقة هيستيرية، وكان الجميع خاصة القواعد في حالة غضب غير طبيعية والهتافات أغلبها صراخ"، وتذكر الكاتبة عدداً من المشاهد الدالة على حالة الوهم تلك التي ظلت مسيطرة على عقول المعتصمين، منها كلمة كان يتداولها المعتصمون في اليوم الذي حضر فيه مرشد الجماعة الاعتصام، وهي أنّ "سيدنا ـ المرشد ـ سوف يُحضر الدكتور مرسي معه لإلقاء كلمة يعلن فيها قيام دولة الإسلام وتعليق المشانق لجميع المعارضة"،

من بين الممارسات التي قامت بها جماعة الإخوان وباقي مكونات التيار الإسلامي المشاركة في الاعتصام، والتي ساهمت في الوصول إلى لحظة الصدام، هي توصيف الصراع على أنّه صراع ديني، وليس صراعاً سياسياً يمكن حله بالأدوات السياسية

وتقول الكاتبة:إنّ صفوت حجازي أعلن من على المنصة عن تصعيد جديد والتجهيز لتحركات ضخمة تعيد الرئيس "المختطف" إلى الحكم، كما تحكي عن إحدى الفتيات التي كانت تتحدث في الاعتصام عن أنّ العالم كله يساند الرئيس مرسي، وأنّ المعتصمين يمثلون كل فصائل المجتمع، وأنّ من خرجوا في 30 حزيران (يونيو) أعدادهم قليلة مقارنة بمعتصمي رابعة، وتحكي كذلك عن إحدى النساء التي كانت تصف الاعتصام بأنّه "حشد رباني"، وأنّ الله يبعث إشارات ليؤكد رضاه عن المشاركين فيه، وتحكي عن الأفراد الذين كانوا يرون أنّ فض الاعتصام لن يحدث، وأنّ اللجان التي تقوم بحراسة الاعتصام لن تمكن الأمن من دخوله، وأنّه كان من بين الهتافات التي يرددها المعتصمون: "يا صباحي يا حمدين إحنا لسه مكملين... مرسي فاضل له (7) سنين و(8) لأبو إسماعيل".

صراع ديني

من بين الممارسات التي قامت بها جماعة الإخوان وباقي مكونات التيار الإسلامي المشاركة في الاعتصام، والتي ساهمت في الوصول إلى لحظة الصدام، هي توصيف الصراع على أنّه صراع ديني، وليس صراعاً سياسياً يمكن حله بالأدوات السياسية، فهو صراع بين طرف يمثل الإسلام ويدافع عنه ويسعى لإقامة دولة إسلامية لها مشروع، وبين طرف يعادي الإسلام ويحاربه ويعمل على إفشال ذلك المشروع، هكذا تم رسم صورة الصراع وتوضيح طبيعة الأزمة، وكان حديث المنصة وقنوات الجماعة ونوافذها الإعلامية تعمل على ترسيخ هذه الصورة بكل السبل؛ فتهيأت النفوس المشاركة في الاعتصام، وصار الصراع السياسي بمثابة معركة بين الحق والباطل يكون الفرد فيها على استعداد للتضحية بكل ما يملك، وقد ساهم في ذلك الأجواء الروحانية التي توافرت في الاعتصام نتيجة بعض العوامل مثل الصلاة والقيام والصيام، حيث كان جزء كبير من الاعتصام خلال شهر رمضان، لدرجة أنّ الكاتبة في بعض اللحظات تأثرت دون وعي بتلك الأجواء وبالخطاب الذي يتم بثه من على المنصة، فتقول: "وأخذت أنظر حولي والحشد على قلب رجل واحد والبكاء حال الجميع، ودون وعي ألقيت بالحقيبة أسفل قدمي واعتلى صوت بكائي وأصابتني رعشة قوية وحالة من التوحد والانصياع للمشاركة دون تفكير في من المخطئ ومن المصيب"، وتذكر الكاتبة عدداً كبيراً من المواقف الدالة على فهم المعتصمين لطبيعة الصراع بهذا الشكل تأثراً بخطاب المنصة، فمن بين الكلمات التي قيلت على منصة رابعة كلمة أسامة مرسي نجل محمد مرسي مخاطباً أباه: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنَا معكما مقاتلون... إننا ندعو الرئيس أن يثبت، وأن يعلم أنّ الله معه، وأننا في خندق الحق من اليوم، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً"، كما كان من بين الهتافات التي يرددها المعتصمون: "إسلامية إسلامية رغم أنف العلمانية"، وتقول الكاتبة: "كان كل حدث يشبهونه بأحداث تاريخية، إمّا وقعت أيام الرسول، وإمّا في عصر الدولة الإسلامية"، وتقول أيضاً واصفة إحدى السيدات التي كانت تلقي درساً على مجموعة من المعتصمات: "حثت المرأة الفتيات على الدفاع عن الإسلام بمساندة الرئيس المسلم حتى الشهادة"، وتقول إنّه أثناء الصلاة كان الدعاء بالنصر وهزيمة "الطاغوت" يهز الأرجاء، كما تصف المعتصمين بأنّهم "صاروا يعتبرونه ـ محمد مرسي ـ في عقلهم الجمعي الرئيس الأسير الذي إن تحرر، فسيقيم دولة الإسلام والحق والعدل"، وآخر يقول لها في حديث خاص: "كل المسلمين سيخرجون دفاعاً عن دينهم ورئيسهم"، وسيدة أخرى تقول مخاطبة الفتيات: إنّ "مشاركتهن في الاعتصام والمسيرات جهاد في سبيل الله مثل جهاد الرجال، وإنّ ذكرى غزوة بدر التي تحلّ علينا هذه الأيام تعني أنّ الفئة القليلة قد تغلب الفئة الكثيرة، وأنّ الله اختار مثل هذه الأيام المباركة لتكون ذكرى للتاريخ على جهاد الإخوان، وأنّهم امتداد للخلفاء والمجاهدين"، كما تحكي عن خطبة ألقاها الناشط الإسلامي حسام أبو البخاري قائلاً: "القضاء على الإسلاميين وظيفة من وظائف العسكر، ليست فقط محاربة الإسلاميين، أبداً، بل القضاء على الفكرة الإسلامية"، وتحكي عن البلتاجي الذي قال في إحدى كلماته على المنصة: "إنّ الموجودين بالاعتصام عائلات جاءت تدافع عن الإسلام وشرعية الرئيس المنتخب"، وإحدى الفتيات تقول أيضاً: "والله إنّ النصر قريب، وإنّ الله ينظر إلى الحشد ليتباهى به وسط الملائكة... وإنّ ما يقمن به هو أفضل جهاد في سبيل الله والإسلام".

توظيف الأحداث لإثارة المعتصمين

كانت هناك سياسة لمن يديرون الاعتصام تعمل على إبراز الأحداث والتضخيم منها أحياناً لإثارة المعتصمين بشكل أكبر وبث روح الغضب بداخلهم، ومن ثم استمرار الاعتصام حتى تتحقق أهدافه، منها ما تذكره الكاتبة من تعليق صور وملصقات على المنصة لأطفال مقتولين بشكل مخيف، وتتساءل: "لفت نظري كثرة صور الأطفال، ولا أعرف هل فعلاً قُتل أطفال في الحادث أم لا؟"، كما تم وضع مثل هذه الملصقات على جانبي الطريق المؤدي للمستشفى الميداني بصورة "توحي بأنّهم خارجون من معركة حربية"، كما تحكي عن شخص صعد إلى المنصة وملابسه ملطخة بالدماء ليحكي شهادته عن الأحداث، وأنّه نقل عن بعض الضحايا قبل قتلهم أنّهم أوصوه بألّا يترك المعتصمون الميدان، وتقول: "بدا واضحاً أنّ حديثه كان مرتباً قبل صعوده على المنصة".

كانت هناك سياسة لمن يديرون الاعتصام تعمل على إبراز الأحداث والتضخيم منها أحياناً لإثارة المعتصمين بشكل أكبر وبث روح الغضب بداخلهم، ومن ثم استمرار الاعتصام حتى تتحقق أهدافه، منها ما تذكره الكاتبة من تعليق صور وملصقات على المنصة لأطفال مقتولين بشكل مخيف

وتقول أيضاً: "إنّه بعد أحداث الحرس الجمهوري، أعتقد أنّ البلتاجي لعب دوراً مهماً لتشويه الجيش في هذا اليوم، ضخَّم الأحداث بأكثر ممّا أظهرت الحقيقة، وزرع في نفوس المعتصمين صورة القاتل السفاح عن الطرف الآخر، ربما كان الإخوان يخافون من انفضاض المعتصمين من حولهم بعد الحادثة، فأرادوا أن يزرعوا بداخلهم صورة مخيفة عن الخصم لا بدّ من مقاومتها... كما أنّه ـ البلتاجي- وسّع دائرة المتهمين بارتكاب جرائم الاعتداء على الإخوان فضم إليها شيخ الأزهر والأنبا تواضروس، وأنّهما يدعمان الانقلاب على جثث المعتصمين"، كما تحكي موقفاً آخر عن إحدى السيدات، وتقول: "فجأة صرخت أم أيمن: والله العظيم قالوا لي إنّ بلطجية الحزب الوطني في شبرا جرّدوا سيدة من حجابها وضربوها في الشارع... كان الإخوان يحرصون على إشاعة مثل هذه الأخبار بين الفئة الأقل تعليماً والأكثر فقراً، كرسائل دائمة بأنّ أخلاقهم مهددة وتدينهم في خطر، وأنّ من عزلوا مرسي يريدون نشر الفسق والفجور"، كما تحكي أنّه بعد أحداث المنصة "وُضعت أحجار صغيرة حول بقع دماء، و(3) من الشباب يقفون حولها ويطلبون من القادمين إلى الميدان أن ينزلوا على الأرض وأن يقبلوها ويشموا رائحة المسك التي تفوح من دماء الشهداء"، كما تحكي عن مسيرة بالنعوش قام بها الإخوان في الاعتصام مرددين بعض الهتافات، كل هذه المواقف وغيرها ممّا تذكره الكاتبة كان لها أثر كبير في نفوس المعتصمين ساهم في خلق حالة من الإصرار على التصعيد والاستمرار في الصراع والصدام.  

https://youtu.be/z0u1dc1SWmk

الإصرار على التصعيد والصدام

من خلال العديد من المشاهدات التي لاحظتها الكاتبة تتساءل: "كانت مشاعري مختلطة كثيراً، متعاطفة مع الضحايا والدم، وغاضبة من الإخوان، لماذا يصرون على جرجرة الجيش إلى اشتباكات وعنف؟"، كان واضحاً أنّ الجماعة وباقي التيار الإسلامي المشارك في إدارة الاعتصام يرون المعركة صفرية لا يمكن التنازل فيها ولا تقبل الحلول الوسط، بل يجب الاستمرار في الصراع حتى نهايته، إمّا بالصدام، وإمّا بالعودة إلى ما قبل 3 تموز (يوليو) أيّاً كانت النتائج، فقد كان هناك العديد من الوساطات التي قام بها عدة أطراف للعمل على حل الأزمة منذ بدايتها، لكن كانت رؤية الجماعة للصراع على أنّه ديني، وفي الوقت نفسه عدم اكتراثها بما قد يترتب على استمرار الصراع وتصاعد الأحداث من نتائج كارثية؛ قد ساهم في رفض كل تلك المحاولات، وتحكي الكاتبة أنّه "كانت الطائرات قد اعتادت منذ أيام على التحليق فوق سماء الميدان، وإلقاء منشورات تطالب المعتصمين بفض الاعتصام والعودة إلى منازلهم مع توفير الحماية لهم، وضمان عدم ملاحقتهم، بينما قيادات الإخوان يؤكدون للمعتصمين كذب هذه المنشورات، ويحذرونهم من أنّ الأمن سيلاحقهم فور خروجهم من الميدان"، كما تحكي عن إحدى الفتيات التي علقت على طلب السيسي حينها التفويض لمواجهة الإرهاب، "قالت إحداهن: يطلب تفويض ليقتل الناس في رابعة، لكن نحن باقون ونريدهم أن يقتلونا، لو أرادوا، فليأتوا إلينا ونشترك جميعاً في قتل بعضنا البعض"، كما تحكي عن شاب آخر يقول: "جاءني الحديث من خلفي واضحاً، صوت شاب يتحدث عن معركة يجهز لها خلال الساعات القليلة القادمة، ستعيد الرئيس إلى كرسي الحكم"، وتقول أيضاً: "قالت إحداهن إنّ هناك شبه تعليمات بالخروج من الميدان عقب الإفطار، وعدم العودة إلّا بالرئيس، وإنّ زوجها سوف يشارك في مسيرة تنطلق إلى رمسيس، وتقطع الطرق وتعطل الكباري، ممّا يصيب البلد بالشلل، وبعد ذلك بساعات قليلة يعود الرئيس، غداً على أقصى تقدير"، كما كان يصرّ الإخوان على بقاء النساء والأطفال في الاعتصام حتى بعد وقوع عدد من أحداث العنف كما في الحرس الجمهوري والمنصة وتزايد الاحتمال بوقوع فض للاعتصام بعد الإصرار على البقاء.

لعب البلتاجي دوراً مهماً لتشويه الجيش في هذا اليوم، ضخَّم الأحداث بأكثر ممّا أظهرت الحقيقة، وزرع في نفوس المعتصمين صورة القاتل السفاح عن الطرف الآخر، ربما كان الإخوان يخافون من انفضاض المعتصمين من حولهم بعد الحادثة، فأرادوا أن يزرعوا بداخلهم صورة مخيفة عن الخصم لا بدّ من مقاومتها

وتقول الكاتبة: "إنّهم يعدون الأطفال بعيدية وأشياء حلوة في أيام العيد، من سيبقى في الميدان سيحضرون له ملابس وهدايا وأطعمة"، ففي الفترة السابقة على فض الاعتصام بقليل كانت هناك توقعات لدى الإخوان بتنفيذ خطة للفض، ورغم ذلك كان هناك إصرار على الاستمرار في الصراع حتى نهايته، وتذكر الكاتبة أنّ البلتاجي كتب تدوينة بعد علمه بأنّه هناك قوات تقوم بإخلاء المستشفيات القريبة من الاعتصام متسائلاً: "هل الوزارة فقط تلملم الجرحى والضحايا بعد المجزرة، أو أنّها تعلم بالمجزرة قبل وقوعها؟ وهل إخلاء المستشفى هو شفاء مفاجئ للجميع، أم استعداد لاستقبال ضحايا مجزرة جديدة، أم هي رسالة للتفزيع والتخويف؟" كما تذكر استنكار البلتاجي لدعوة وزارة الداخلية للمعتصمين بإخلاء الميدان مع ضمان توفير الخروج الآمن لهم، مشككاً في نوايا الوزارة، ومطالباً المعتصمين بالبقاء في الميدان حتى الشهادة، كما تذكر كلمة حسام أبو البخاري من على المنصة، وتقول: "أدهشتني طريقة البخاري في السرد والحكي والتحدث بحكمة ودهاء بالغ، خاصة حين تحدث عن أنّ الحلول التفاوضية تعني نهاية الثورة ونهاية الإسلاميين ونهاية الإخوان ونهاية الدولة المصرية، وقد صفق له المعتصمون بحرارة".

نهاية محتومة

كان من المتوقع مع تصاعد الأحداث وتعقد الأزمة واستحكامها وضبابية المشهد ووصوله إلى مرحلة من انسداد الأفق؛ أن تنتهي الأمور بشكل مأساوي، فلم يكن أحد يتمنى تلك النتيجة التي حدثت أثناء فض الاعتصام، وفي الوقت نفسه لا يستطيع أحد إلقاء مسؤولية ما حدث على طرف واحد فقط، فذلك المشهد ساهمت أطراف عدة في صناعته، لكننا هنا أردنا تسليط الضوء من خلال بعض الدلائل والمشاهدات على جانب تعمل جماعة الإخوان وباقي مكونات التيار الإسلامي المتضامن معها على إخفائه وإهالة التراب عليه وإبراز جانب واحد فقط من الصورة يجعلها تبدو أمام أفرادها والمجتمع في صورة الضحية بشكل مطلق دون خطأ أو خطيئة ارتكبتها ساهمت في تلك النتيجة وذلك المشهد بشكل كبير، وليعلم كثير من المؤيدين والمتعاطفين أنّ قيادات الجماعة مسؤولة بشكل مباشر عمّا حدث، سواء من خلال ممارساتها أثناء فترة حكمها والتي أدت إلى خلق أزمة سياسية وتعقيدها، أو من خلال ممارساتها وطريقة إدارتها للصراع بعد 3 تموز (يوليو)، حيث هيأت الأجواء ونشرت الأوهام، ورسخت قناعات وصوراً ذهنية عن الأطراف الأخرى وعن طبيعة الأزمة والصراع على غير الحقيقة، وزرعت الغضب في النفوس وأثارت الأفراد الذين ساروا وراءها كالقطيع ودفعتهم دفعاً نحو طريق مسدودة، ثم ذهبت بعد ذلك لصناعة مظلومية جديدة تتغذى عليها وتساعدها على الاستمرار في الحياة بأفكارها وأخطائها وممارساتها نفسها، في انتظار أن تدخل مستقبلاً في صراع جديد وصدام آخر يضاف إلى رصيدها من الصراعات والصدامات.   

مواضيع ذات صلة:

برغم فشل كل مخططاتهم... إخوان مصر يستمرون في نشر الشائعات

سقوط الإخوان في مصر كان بمثابة إنقاذ لمنطقة الشرق الأوسط والدول الأوروبية... كيف؟




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية