
كشفت الأجهزة الأمنية الأردنية مؤخرًا عن خلية تابعة لجماعة الإخوان المسلمين، تضم عناصر متورطة في أنشطة غير مشروعة تمسّ أمن واستقرار المملكة، وتشير التحقيقات الجارية إلى ارتباط هذه الخلية بمحاولات تهريب أموال، وتجنيد عناصر في قطاعات شبابية وتعليمية، إلى جانب رصد تنسيق خارجي مع أطراف محسوبة على جماعة الإخوان في دول إقليمية.
وبحسب مصادر أمنية، فإنّ الخلية كانت تعمل بأساليب سرّية، مستخدمة جمعيات ومراكز بحثية كواجهات لتمرير أجندات الجماعة، وتم ضبط وثائق وأجهزة اتصال تثبت التنسيق مع جهات خارجية، يعتقد أنّها تموّل وتدير نشاط الإخوان في المنطقة، في إطار مشروع إقليمي أوسع يهدف إلى زعزعة استقرار دول الشرق الأوسط تحت عباءة الخطاب الإسلامي السياسي.
استغلال المؤسسات التعليمية والشبابية... النمط القديم نفسه
لم تكن محاولة خلية الإخوان الأخيرة في الأردن استثناءً عن نمط الجماعة التاريخي في التغلغل داخل مؤسسات الدولة المدنية، وخاصة الجامعات والمدارس والمنتديات الثقافية. التقارير الأولية أفادت بأنّ أحد أعضاء الخلية كان يشرف على برامج تدريبية تحت عناوين "بناء القيادة" و"التنمية المجتمعية"، لكنّها في الحقيقة كانت تغلف مفاهيم تنظيمية وإيديولوجية تخدم مشروع الجماعة على المدى البعيد.
ويرى محللون أنّ هذه الطريقة تعكس محاولة الجماعة العودة مجددًا إلى الساحة السياسية الأردنية من بوابة العمل المدني، بعد أن تقلص نفوذها بشكل كبير خلال الأعوام الماضية، خاصة عقب تصنيفها كتنظيم غير شرعي في بعض الدول المجاورة، وسحب الغطاء القانوني عنها في الأردن عام 2020.
جماعة خارج إطار الزمن
وفي تعليق خاص لـ (حفريات)، يقول الدكتور عقيل حبيب، الخبير النفسي والأكاديمي المتخصص في علم الإرهاب: إنّ "الزمن السياسي لجماعة الإخوان المسلمين قد انتهى فعليًا، ونحن نعيش اليوم المرحلة التي يمكن تسميتها بحقبة ما بعد الإسلام السياسي، لكنّ هذا لا يعني أنّ الجماعة اختفت تمامًا، فإنّها ما زالت تتحرك في الظل عبر خلايا سرّية وأدوات ناعمة".
ويضيف حبيب: "منذ عام 1928 حتى 2025 تقريبًا استطاعت جماعة الإخوان أن تلعب أدوارًا متعددة، تتراوح بين البراغماتية والتطرف، لكنّها في كل الأوقات ظلت تحلم بالوصول إلى السلطة، سواء عبر صناديق الاقتراع، أو عن طريق التغلغل في المناهج والجمعيات، أو حتى بتكوين خلايا مسلحة، واليوم مع انكشاف المزيد من هذه المحاولات، كما حدث في الأردن، بات واضحاً أننا نعيش نهاية هذا المشروع".
دعم خارجي وشبكات تمويل عابرة للحدود
التحقيقات كشفت أيضًا أنّ الخلية تلقت دعمًا ماليًّا من جهات في الخارج، بعضها مرتبط بجمعيات تحت غطاء خيري في أوروبا وتركيا، ممّا يعيد إلى الأذهان الدور المالي العابر للحدود الذي لعبته الجماعة منذ تأسيسها. ووفقًا لمصادر استخباراتية، فإنّ الأموال كانت تُستخدم لتمويل أنشطة تجنيد وتدريب داخل الأردن، وكذلك لإقامة علاقات مع شخصيات مؤثرة في بعض النقابات والجامعات.
وهو ما يوافق عليه الدكتور عقيل حبيب، الذي يوضح أنّ "الإخوان استخدموا الجمعيات السرّية لتمويل أنشطتهم، وأحيانًا كانوا يشترون السلاح ويخزنونه عبر قنوات مدنية تبدو في ظاهرها قانونية، لذا فإنّ الحرب على هذا التنظيم لم تعد سياسية فقط، بل باتت فكرية واقتصادية أيضًا، من خلال تجفيف منابع التمويل ومحاصرة الخطاب".
عقيل: منذ عام 1928 حتى 2025 تقريبًا، استطاعت جماعة الإخوان أن تلعب أدوارًا متعددة، تتراوح بين البراغماتية والتطرف، لكنّها في كل الأوقات ظلت تحلم بالوصول إلى السلطة، سواء عبر صناديق الاقتراع، أو عن طريق التغلغل في المناهج والجمعيات، أو حتى بتكوين خلايا مسلحة، واليوم مع انكشاف المزيد من هذه المحاولات، كما حدث في الأردن، بات واضحاً أننا نعيش نهاية هذا المشروع.
لماذا تستمر الجماعة رغم الضربات؟
رغم تلقيها ضربات قوية في مصر والسعودية والإمارات، ثم الأردن، ما تزال جماعة الإخوان قادرة على إنتاج أدوات بديلة للبقاء. فهي تتبنّى تكتيك "التكيف"، إذ سرعان ما تغيّر خطابها من التطرف إلى الاعتدال حسب الموقف السياسي، وتحاول الاندماج تحت أطر مدنية لتفادي الرقابة.
وفي هذا السياق يرى الدكتور عقيل حبيب أنّ بقاء الجماعة كل هذه العقود مردّه إلى استغلالها حالة الفوضى والتحولات السياسية في الإقليم، ويقول: "هذه الجماعة نجحت في اللعب على تناقضات المجتمعات، واستخدمت أدوات الحرب النفسية والخطاب المزدوج ببراعة، لذلك فإنّ المواجهة معها يجب ألّا تكون أمنية فقط، بل معرفية وثقافية في المقام الأول".
السلطات الأردنية بين المواجهة والوقاية
السلطات الأردنية، منذ تصعيد الحراك الإخواني في بداية العقد الماضي، تبنّت مقاربة مزدوجة تقوم على تفكيك التنظيمات الناشطة ومراقبة التمويلات، بالتوازي مع تعزيز المسارات الدينية المعتدلة عبر المؤسسات الرسمية. كما تم تشديد الرقابة على الجمعيات المدنية والتبرعات الخارجية لضمان عدم تسرّب التمويل إلى جهات مشبوهة، لكنّ خبراء يرون أنّ التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في تفكيك الخلايا، بل في بناء وعي عام يرفض الفكر الإخواني كمشروع شمولي معادٍ لفكرة الدولة الوطنية.
ما بعد الإخوان... الحاجة إلى مشروع بديل
مع تراجع مشروع الإسلام السياسي في المنطقة، وخصوصًا بعد فشل جماعة الإخوان في الحكم وفضح أساليبها التنظيمية، تبرز الحاجة إلى دعم تيارات مدنية ذات طابع وطني تقدمي، تتبنّى خطابًا عقلانيًا يعالج قضايا المجتمع من منظور شامل، بعيدًا عن الاستقطاب الديني أو الإيديولوجي.
ويؤكد الدكتور عقيل حبيب في ختام حديثه أنّ "نهاية الجماعة لا تعني نهاية الفكر الذي تأسست عليه، ولذلك فإنّ الخطوة المقبلة يجب أن تركز على تفكيك البنية الفكرية التي مكنت الإخوان من الاستمرار قرابة قرن، وذلك عبر التعليم والإعلام والبرامج الثقافية".
من عمّان إلى القاهرة: مسارات متباينة، والنهاية واحدة
رغم اختلاف السياقين السياسيين في الأردن ومصر، إلا أنّ مسار جماعة الإخوان المسلمين في كلا البلدين يكشف نمطًا مشتركًا من التحرك والانكشاف ثم الإقصاء. ففي مصر، التي نشأت فيها الجماعة عام 1928، وصل الإخوان إلى ذروة الصعود السياسي في أعقاب ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011، وتمكنوا من الفوز في الانتخابات التشريعية والرئاسية، قبل أن تنهار تجربتهم خلال عام واحد فقط من الحكم، نتيجة صدامات حادة مع مؤسسات الدولة ورفض شعبي واسع لسياستهم.
في المقابل، تعاملت الدولة الأردنية منذ عقود مع الجماعة بحذر، وسمحت لها بهامش من الحركة السياسية والنقابية، ضمن توازنات دقيقة تحكمها المصلحة الوطنية. غير أنّ التطورات الإقليمية، خاصة بعد 2013، وضعت الإخوان تحت مجهر جديد، وأدت إلى تصاعد الشكوك حول ارتباطاتهم الخارجية وأجنداتهم العابرة للحدود. وهذا ما دفع السلطات الأردنية إلى مراجعة موقفها، فتمّ سحب الترخيص الرسمي للجماعة عام 2020، وتصنيفها كتنظيم غير قانوني، وتفكيك بنيتها العقارية والتنظيمية بالتدريج.
المثير أنّ الجماعة في كلا البلدين لجأت إلى الأدوات نفسها في مواجهة الدولة: من الخطاب المزدوج إلى الاستقواء بالشارع، ومن التغلغل في التعليم والنقابات إلى تشكيل كيانات موازية. لكنّها فشلت في الحفاظ على شرعيتها الاجتماعية والسياسية، بسبب طبيعة مشروعها الإيديولوجي المغلق، الذي يتناقض مع مفهوم الدولة الوطنية الحديثة.
وهكذا، فإنّ التجربة الأردنية، رغم خصوصيتها، تتقاطع مع النموذج المصري في كونها مثالًا آخر على نهاية مشروع الإسلام السياسي، وتحوّل الجماعة من قوة سياسية علنية إلى خلايا سرّية تتحرك في الظل.