منذ مطلع شهر حزيران (يونيو) الجاري، أقرت حكومتا "الإنقاذ" و"السورية المؤقتة" العاملتان في مناطق سيطرة الفصائل السورية المعارضة، في إدلب وريفَي حلب الشمالي والشرقي، بدء التعامل بالليرة التركية، وتسعير بعض السلع والمواد الغذائية الأساسية بالليرة التركية، كبديل عن الليرة السورية التي شهدت تدهوراً حاداً بداية هذا الشهر؛ إذ وصل سعر صرف الدولار إلى 3175 ليرة سورية، في 8 حزيران (يونيو)، لتعاود الارتفاع في 13 حزيران (يونيو)، ويسجل سعر صرف الدولار 2200 ليرة سورية.
خبير اقتصادي لـ"حفريات": عملية الاستبدال تلغي عملية الاستيراد والتبادل التجاري في أكثر من مكان؛ حيث إنّ الليرة التركية تعدّ عُملة غير قابلة للتداول رسمياً في الكثير من الدول المجاورة
كان رئيس الحكومة السورية المؤقتة، عبد الرحمن مصطفى، قد نشر تغريدة على حسابه الشخصي على تويتر، في تاريخ 9 حزيران (يونيو)، جاء فيها: "بعد تسارع انهيار الليرة السورية، تمّ تكثيف اللقاءات مع الإخوة الأتراك، لتدارك الأمر والحفاظ على ما تبقى من مدخرات الإخوة المواطنين؛ باتخاذ الخطوة الأولى في مسيرة ضخّ الفئات النقدية الصغيرة من العملة التركية في الشمال المحرر، وهي خطوة ستتبعها المزيد من الخطوات".
إلا أنّ هذا الإعلان أثار جدلاً واسعاً في الأوساط السورية، بين مؤيد ومعارض لهذه الخطوة؛ إذ تخوّف البعض من أن تكون ضمن سياسية تتريك الشمال السوري، وزيادة الهيمنة التركية على المنطقة.
إلا أنّ عبد الرحمن مصطفى أعاد نشر تغريدة جديدة، يردّ فيها على المنتقدين لهذه الخطوة بقوله: "التعامل بالليرة التركية موجود بحكم الحاجة، وما تمّ اتخاذه من إجراءات يعدّ تدبيراً مؤقتاً تنتهي مفاعيله بعد التوصل إلى حلّ سياسي شامل، وهو يهدف إلى حماية مدخرات مواطنينا جراء انهيار قيمة الليرة السورية، ولا صحة للادعاءات السياسية المغرضة التي تطلقها بعض الأوساط بما يتعارض مع الواقع".
أما حكومة الإنقاذ في إدلب؛ فقد أصدرت وزارة الاقتصاد والموارد التابعة لها، بتاريخ 14 حزيران (يونيو)، قراراً بتحديد سعر الخبز السياحي والبلدي بالليرة التركية؛ إذ جاء في المادة رقم (1) تحديد سعر كيس الخبز الحر السياحي، وزن850غ، عدد أرغفة 10 بـ 2 ليرة تركية للمستهلك.
وفي المادة رقم (2) تحديد سعر مبيع كيس الخبز البلدي (850 غ)، عدد الأرغفة 10، بـ 1.5 ليرة تركية للمستهلك.
وفي المادة رقم (3) تحديد سعر مبيع كيس الخبز المدعوم وزن (850غ)، عدد الأرغفة 10، بــ 1 ليرة تركية للمستهلك.
وبحسب تقرير نشره موقع "جريدة عنب بلدي" السوري؛ قامت حكومة الإنقاذ، بتاريخ 21 حزيران (يونيو)، باعتماد رسوم الأعمال والخدمات المقدمة لـ "المؤسسة العامة للاتصالات" بالليرة التركية.
وبحسب ما جاء في التقرير، "حدّدت الحكومة قيمة فاتورة الهاتف الأرضي بخمس ليرات تركية، لكلّ شهر، في مراكز مدينة إدلب والمراكز التي يوجد فيها ربط للمدينة مع الريف، ولكلّ شهرين في المراكز التي لا يوجد فيها ربط مع المدينة، واعتمدت "الحكومة" عشر ليرات تركية رسم تركيب بوابة الإنترنت، وخمس ليرات رسم نقل بوابة من رقم لآخر، وثلاث ليرات رسم إيقاف البوابة، عن كل شهر".
"حفريات" تواصلت مع المدير الإعلامي لمجلس إعزاز المحلي بريف حلب، والشاب زكريا قيطاز بريف إدلب، والمحلل الاقتصادي السوري يونس الكريم، لمعرفة آرائهم حول خطوة تداول العملة التركية في المناطق الخاضعة لسيطرة الفصائل المعارضة.
يقول ياسر الزعيم لـ "حفريات": "تعدّ إعزاز منطقة حدودية بالأساس، والعملة الأجنبية متداولة سابقاً، والناس هنا لديهم الخبرة في التعامل بهذا الشأن، وفي كيفية إدارة أمورهم، ومع اندلاع الثورة السورية وخروج عدة مناطق عن سيطرة النظام السوري، ومرور الثورة بعدة منعطفات وانهيار العملة السورية بالتدريج، كلّ ذلك كان له تأثير في الوضع المعيشي للسوريين، ما دفع الناس لتحويل كلّ مدخرتهم بالليرة السورية للقطع النقدية الأجنبية".
وأضاف ياسر: "خلال عام ٢٠٢٠، ونتيجة الانهيار الكبير لليرة السورية، الذي كان له تأثير كبير على حركة الأسواق وغلاء السلع، دفعت المجالس المحلية لاتخاذ موقف، يهدف لتحقيق متطلبات المواطن، فوجهت المجالس نداءات، وأصدرت قرارات بالعمل في العملة الأجنبية (الليرة التركية والدولار)".
وتابع ياسر: "كما حاول مجلس مدينة إعزاز بجهد ذاتي، وجهد عدة جهات فاعلة توفير الليرة التركية من جميع فئاتها، خصوصاً الصغيرة منها، لتسهل على المواطن شراءها، وتثبيت جميع الصفقات الكبيرة بالبيع والشراء بأيّة عملة أجنبية، وقد لاقت هذه الخطوة ترحيباً كبيراً من المواطنين، حالياً بإمكان المواطن أن يشتري أصغر سلعة من أصغر "ميني ماركت" بالليرة التركية، وللعلم أنّ هذه الخطوة قمنا بها من خلال مجهود ذاتي، دون التنسيق مع تركيا".
وسؤال ياسر: هل لخطوة تسعير السلع الأساسية بالليرة التركية تأثير على الناس ذوي الدخل المحدود، والذين يعملون ويتقاضون رواتبهم بالليرة السورية؟ أجاب: "بالنسبة إلى العمال في المناطق المحررة، بنسبة 70% منهم يتقاضون أجورهم بالليرة التركية، لنأخذ -على سبيل المثال- نجار كان يتقاضى 25 ألف ليرة سورية أسبوعياً، أما اليوم فبات يتقاضى راتباً أسبوعياً قدره 100 ليرة تركية، وينسحب الموضوع على باقي العمال العاملين بمهن أخرى".
ولم ينكر ياسر أنّ هناك فئة من الناس تأثرت بخطوة تداول الليرة التركية في المنطقة، إذ قال: "يوجد فئة من الناس ما تزال تتعامل مع مناطق خاصة لسيطرة النظام، وتتقاضى رواتبها بالليرة السورية، هؤلاء هم اختاروا بأنفسهم أن يكون راتبه بالليرة السورية".
أما الشاب زكريا قيطاز، الذي يعيش حالياً بريف إدلب، فقال لـ "حفريات": "استبدال الليرة السورية بالليرة التركية، أو الدولار، في حال تمّ تحت شروط معينة، فهو جيد، أما تداول العملات الأجنبية بطريقة عشوائية، ستكون آثاره سلبية على المواطنين، في الأساس هناك اختلاف بحسب المناطق؛ ففي ريف حلب الغربي والشمالي يتم تداول العملة التركية بنسبة تتجاوز الـ 50%، وهناك قطاعات كاملة تتعامل بالليرة التركية، مثل الوقود والاحتياجات والسلع الأساسية، وحتى رواتب الموظفين والعاملين في الشرطة والأمن، والفصائل العسكرية، إضافة إلى العاملين بالمنظمات، أغلب هؤلاء يتقاضون أجورهم بالليرة التركية، هذا عدا موضوع الكهرباء والمياه والاتصالات والإنترنت".
وأضاف: "أما نسبة تداول الليرة التركية في مناطق ريف إدلب فهي أقل بكثير، وفي حال شمل هذا التداول جميع القطاعات، وخضع لشروط معينة، فبإمكاننا تجنّب الخسائر الفادحة التي سيفرضها "قانون قيصر"، أما لو بقي تداول الليرة التركية عشوائياً، سيكون هناك خسائر كبيرة للمواطنين".
وسئل زكريا عن تأثير تداول الليرة التركية عليه شخصياً، في حال بقي هذا التداول عشوائياً؟ فردّ: "أنا أعمل وأتقاضى راتبي بالليرة السورية، وفي حال أردت دفع فاتورة كهرباء، سيتوجب عليّ شراء عملة تركية، لسدادها، وفي عملية شراء عملة تركية أنا أخسر في فرق التصريف، وبالطبع هناك استغلال من قبل التجار ومحلات الصرافة، ولا يتم بيعي الليرة التركية بسعرها الرسمي، وحتى البنك الذي يبيع الليرة التركية بسعرها الرسمي، لا يقبل العملة السورية، وفي حال طلبت شراء الليرة التركية منه، يجب عليّ شراؤها بالدولار، ولهذه العملية أثرها السلبي على المواطن".
وأردف زكريا: "غالباً في عملية بيع وشراء الليرة التركية يكون الفرق خمسين ليرة سورية، وفي حال اشتريت 100 ليرة تركية، سيكون الفارق خمسة آلاف ليرة سورية، وفي حال كنت أرغب بتصريف 100 دولار واستبدلتها بالليرة السورية، ومن ثم عدت لأشتري الليرة التركية، كي أدفع فواتير الكهرباء والإنترنت والمياه؛ ففي هذه الحالة سأخسر 30 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل 12 أو 13 دولار".
أما المحلل الاقتصادي السوري، يونس الكريم، فقال لـ "حفريات": "هذه الخطوة سياسية أكثر منها اقتصادية، وتهدف في الحقيقة إلى محاباة الحكومة التركية، لدعم حكومتي المعارضة (الإنقاذ والحكومة السورية المؤقتة) سياسياً والإبقاء عليهم، خاصة في ظلّ التغييرات الدولية فيما يخصّ الملف السوري، والسبب الثاني؛ هو رغبتهم بالمضاربة وتحقيق الأرباح بعد الانهيارات العديدة لليرة السورية، والقوانين التي أصدرها النظام السوري بمنع تداول الليرة ما بين المحافظات".
وأضاف يونس: "رغم أنّ قرار استبدال العملة جرى تداوله عام 2015، إلا أنّه لم يُوضع في حيّز التنفيذ إلا في هذه اللحظة، عندما تمّ منع تحريك أو نقل الليرة السورية بين المحافظات، إضافة إلى شيء مهم؛ هو أنّ الليرة التركية تعدّ عملة وسيطة، وهناك الدولار الذي يعدّ عملة قوية جداً، وهناك العملة السورية التي تعدّ عملة ضعيفة".
عملية الاستبدال لا معنى لها حقيقة إلا من ناحية المضاربة، في نظر يونس؛ لأنّ "الليرة التركية ليست أقوى من الدولار، وليس أكثر استقراراً، وفي نفس الوقت هي أقوى من الليرة السورية، بالتالي هي غير جيدة لعملية التسعير، وهذا الأمر سبّب مشاكل كثيرة، كما أنّ صعوبة تأمين قطع وفئات الليرة التركية، نتيجة عدم تبني الحكومة التركية رسمياً تداول الليرة التركية في مناطق شمال سوريا من جهة، ومن جهة أخرى أنّ العملية بالأساس تتم بشكل غير رسمي، بالتالي؛ تظهر العملة التركية داخل تركيا أرخص سعراً وأكثر ثباتاً منها بمناطق شمال سوريا؛ حيث إنّ المناطق التركية مدعومة بسياسات حكومية نقدية ومالية، للمحافظة على سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار، إضافة إلى تدخل البنك المركزي، ودعم الحكومة التركية للسلع".
ويرى يونس؛ أنّ "عملية الاستبدال تلغي عملية الاستيراد والتبادل التجاري في أكثر من مكان؛ حيث إنّ الليرة التركية تعدّ عُملة غير قابلة للتداول رسمياً في الكثير من الدول المجاورة التي تتعامل مع المناطق في شمال سوريا، سواء كان من شمال إقليم كردستان العراقي، أو مناطق الإدارة الذاتية، أو حتى من المناطق الخاضعة لسيطرة النظام.
مواطن سوري: استبدال الليرة السورية بالليرة التركية، أو الدولار، في حال تمّ تحت شروط معينة، فهو جيد، أما تداول العملات الأجنبية بطريقة عشوائية، ستكون آثاره سلبية على المواطنين
إذاً، عملية الاستيراد ستكون فقط من تركيا، وهذا أمر بالغ الخطورة، كما أنّ عملية الاستيراد من الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى الدولار، وعملية شراء سلع من الجانب التركي، هم أيضاً لا يأخذون الليرة التركية، إنّما يأخذ الدولار، كلّ هذا يجعل من هذه الخطوة، مجرد عملية "مضاربة" من قبل القائمين بالأمر في مناطق شمال سوريا".
ويعتقد يونس أنّ هذه الخطوة سلبية جداً، إذ "في حال جرت عملية إغلاق حدود بسبب مشكلة ما، أو حصل تفاهم روسي – تركي حول تداول العملة التركية، سيتوقف الأمر.
وتابع: في مقابلة مشتركة على قناة "الحرة"، قال لي نائب وزير الاقتصاد في "الحكومة السورية المؤقتة": إنّ "عملية الاستبدال هي عملية مؤقتة، وبالتالي هنا تغيّر الرأي بهذا الأمر".
ويختم يونس كلامه: "عملياً، المواطن السوري يخسر حين يستبدل الليرة السورية للدولار، ومن ثم شراء الليرة التركي، ومن ثم شراء السلع المستوردة، التي يقوم التاجر بدوره بشرائها بالدولار، بالتالي؛ نستنتج أنّ عملية الاستبدال هذه، هي عملية خسائر متسلسلة ومتراكمة".