ما لبثت أن هدأت الضجة التي خلّفتها محاولة "اغتيال" وزير الداخلية الليبي فتحي باشاغا أثناء مرور موكبه مساء الأحد الماضي طريق جنزور غرب العاصمة طرابلس، ولكن الأسئلة حول الحادث ماتزال حائرة، دون إجابات، يتعلق أبرزها بطبيعة ما جرى، وما إذا كان محاولة اغتيال كما وصفها باغشا نفسه، أم مجرد مناوشة عابرة بين حرسه الخاص وقوة أمنية معارضة له، أم أنّها مجرد "مسرحية" لكسب التعاطف والوصول إلى نتائج معينة تتعلق بالمحادثات السياسية التي تجري في البلاد على مدار شهور مضت، وذلك على حد وصف بعض المراقبين للمشهد الليبي.
تحليلات أخرى ذهبت إلى النتائج، وفضلت ترك التحقيقات لتجيب عن الأسئلة المتعلقة بحقيقة الواقعة والأطراف المتورطة فيها، بينما سلّط مراقبون آخرون الضوء على تبعات الحادث، مؤكدين على ضرورة وضع حد عاجل وحاسم للميليشيات المسلحة المنتشرة في البلاد شرقاً وغرباً.
وزير الداخلية الليبي فتحي باشاغا صرح أنّه نجا الأحد من محاولة اغتيال "مخططة جيداً
فيما اتفقت المطالبات الدولية على الحل الفوري لتلك الميليشيات، ووقف إمدادها بالسلاح والخضوع لقرارات الشرعية الدولية التي يراقبها مجلس الأمن بفرض رقابة مشددة على تهريب السلاح إلى ليبيا عبر كافة المنافذ البرية والبحرية والجوية، بيد أنّ القوات المسؤولة عن ذلك ضبطت على مدار السنوات الماضية كميات ضخمة من السلاح تورطت تركيا بتهريبها إلى المسلحين في ليبيا عبر منافذ غير شرعية، وهو ما اعتبرته القوى الدولية والإقليمية تحدياً لقرارات الشرعية الدولية ومحاولات قوية لتمديد عمر الأزمة في الداخل الليبي لصالح أطراف خارجية.
وكان باشاغا قد صرّح أنّه نجا من محاولة اغتيال "مخططة جيداً"، وأضاف لوكالة "رويترز" أنّ سيارة بدأت في التعدي على موكبه وفتح أشخاص داخل السيارة النار مما أدى إلى تبادل لإطلاق النار قُتل فيه أحد حراسه وأحد المهاجمين، وقال إنه لم يكن حادثاً وقع بطريق الصدفة وإنما عملية مخططة جيداً.
هل الأمر مسرحية سياسية لخلط الأوراق؟
يصف الكاتب المصري المتخصص في الشأن الليبي، أحمد جمعة، الحادثة بأنّها "مسرحية الاغتيال"، موضحاً في تصريحات لـ"حفريات" أنّ "الرواية التي أعلن عنها وزير داخلية الوفاق فتحي باشاغا وعزّزتها بيانات المكتب الإعلامي لوزارته تأتي في إطار محاولات خلط الأوراق وفرض "باشاغا" لنفسه على الساحة السياسية بعد أن قدم نفسه للمجتمع الدولي على أنه العدو الأول للميليشيات المسلحة رغم أنّ الرجل لم ينجح خلال عامين هي فترة تولي لحقيبة الداخلية في تحقيق اختراق حقيقي في ملف التشكيلات المسلحة المنشرة في الغرب الليبي بشكل عام وطرابلس بشكل خاص".
يؤكد جمعة أنّ "كافة الدلائل والمعطيات تؤكد أنّ الرواية لا تتطابق مع الحقائق والواقع، فضلاً عن تضارب التصريحات التي قالها باشاغا نفسه، والغريب أنّ السفارة الأمريكية لدى طرابلس أول الداعمين لوزير داخلية الوفاق دون التحقق من صحة الرواية التي تبنتها وسائل إعلام عربية ودولية دون تحري الدقة"، مشيراً إلى أنّ "ما حدث يؤكد وجود صراع خفي بين فتحي باشاغا ورئيس المجلس الرئاسي فايز السراج؛ إذ إنّ جهاز دعم الاستقرار في طرابلس الذي قتل أحد عناصره من حراس وزير داخلية الوفاق أكد تسرع باشاغا في الترويج لرواية محاولة اغتياله، مؤكداً أنّ الجهاز سيعمل على ملاحقة كافة المتورطين في قتل أحد عناصره الذين كانوا يقودون سيارة تتبع الجهاز في جنزور".
صراع متجذر بين القيادات
ويلفت جمعة إلى أنّ الصراع داخل مصراتة وصل إلى أشده بين وزير داخلية الوفاق ورئيس الحكومة الجديد عبد الحميد الدبيبة الذي ينحدر من مصراتة، مشيراً إلى "وجود رغبة جامحة من باشاغا للإبقاء عليه في حقيبة وزارة الداخلية بدعم من أطراف إقليمية ودولية".
ويتابع: إنّ فتحي باشاغا حاول الترويج لنفسه بعقد لقاءات واتصالات مع دول مؤثرة في الإقليم بأنه الرجل المخلص من كابوس الميليشيات المسلحة لم يحقق أياً من الوعود التي قطعها، ويعود اليوم لتقديم نفسه الشخصية القوية في الغرب الليبي القادرة على ضبط الأمن والاستقرار، ويحاول الرجل فتح اتصالات مع مسؤولين في شرق البلاد كي يثبت أنه شخص توافقي لا توجد له عداءات مع أي من المكونات السياسية أو العسكرية في ليبيا.
ويضيف جمعة: "يلعب "باشاغا" على التناقضات في تحالفاته مع الدول الإقليمية والدولية، وهو ما تسبب في عدم ثقة الدول التي حاول التقرب منها في صحة ما يقول؛ لأنّ الرجل يقطع وعوداً لا يلتزم بها، ويحاول تعليق فشله على الآخرين وتحميلهم مسؤولية الإخفاقات التي تلاحقه خلال الأشهر الأخيرة، وتسببت حالة الترهل في المؤسسات الليبية باعتماد السلطات التنفيذية على شخصيات قبلية وجهوية ومناطقية، وذلك لترضية الأقاليم الثلاثة وعدم إغضابها، وهو ما يهدد باستنساخ نموذج الطائفية والمحاصصة الذي أضعف لبنان والعراق".
ويرى جمعة أنّ "حظر السلاح وتفكيك الميليشيات هي الخطوة الأخطر والأهم لحل الأزمة الليبية التي ستبقى عصية أمام جميع المفاوضات والمناقشات السياسية التي تجري منذ سنوات، ما لم تشهد البلاد وضعاً سياسياً وأمنياً مستقراً"، مشيراً إلى "استمرار تركيا في توريد المسلحين والمرتزقة إلى ليبيا كورقة ضغط سياسة لتحقيق مكاسب وأهداف تتعلق بمشروع الرئيس التركي رجب أردوغان داخل ليبيا، وأهمها السيطرة على موارد البلاد النفطية وبسط السيطرة داخل حدود جغرافية جديدة".
أحمد جمعة: الحادثة "مسرحية" في إطار محاولات خلط الأوراق وفرض "باشاغا" لنفسه على الساحة السياسية
من جانبه سارع المبعوث الأممي لدى ليبيا، يان كوبيتش، إلى التذكير بضرورة تنفيذ قرارات حظر السلاح في ليبيا، وقال إنّ "ما حدث في طرابلس يذكّر بأهمية جمع السلاح بيد الدولة فقط"، فيما أكدت بعثة الاتحاد الأوروبي والبعثات الدبلوماسية للدول الأعضاء على ضرورة تفكيك تلك الميليشيات، وقالت إنّ "مثل هذه الأعمال تذكير قوي بالعمل المهم الذي ما يزال يتعين القيام به في تفكيك الجماعات الإجرامية، وفقاً لاتفاق وقف إطلاق النار المبرم في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، ومنح السيطرة الكاملة على قطاع الأمن للسلطات الشرعية".
وتعد تركيا المتهم الأول بتهريب السلاح والمرتزقة إلى ليبيا، وفي بيان وصفه مراقبون بـ"الاستفزازي" أكدت أنقرة استمرار قواتها العسكرية في ليبيا استناداً لاتفاقية التعاون بين أردوغان ورئيس الحكومة السابق فائز السراج، وأكدت تركيا أنّ قواتها ستبقى في ليبيا ما دام الاتفاق العسكري الثنائي "نافذاً" بين الجانبين، وذلك رغم تشكيل حكومة ليبية جديدة.
وفي ظل التطورات الأخيرة يعد تمسك تركيا بموقفها يظل الحل السياسي المرهون بالاستقرار الأمني أمراً ليس سهلاً، لكن الليبيين يعلقون آمالهم على الجهود الدولية الرامية إلى وقف التدخلات الخارجية وحظر السلاح وتفكيك الميليشيات.
اقرأ أيضاً: محاولة اغتيال باشاغا: حقيقة أم مزاعم؟.. وما أهدافها؟